- روى البزار بإسناد حسن مرفوعا : [ [ إن بين أيديكم عقبة كؤودا لا ينجو منها إلا كل مخف ] ] .
وروى الطبراني بإسناد صحيح عن أم الدرداء قالت قلت لوالدي مالك لا تطلب كما يطلب فلان وفلان فقال إني سمعت رسول الله A يقول : [ [ إن وراءكم عقبة كؤودا أي صعبة لا يجوزها المثقلون فأنا أحب أن أتخفف لتلك العقبة ] ] .
وروى الطبراني عن أنس قال : خرج رسول الله A يوما وهو آخذ بيده أبي ذر فقال : يا أبا ذر أعلمت أن بين يدي الساعة عقبة كؤودا لا يصعدها إلا المخفون فقال رجل يا رسول الله أمن المخفين أنا أم من المثقلين ؟ قال : عندك طعام يوم ؟ قال نعم وطعام غد ؟ قال نعم قال وطعام بعد غد ؟ قال : لا قال لو كان عندك طعام ثلاث كنت من المثقلين .
وروى الإمام أحمد ورواته رواة الصحيح : أن أبا ذر قال إن خليلي A عهد إلى أن دون جسر جهنم طريقا ذا دحض ومزلة وإنا إن نأت عليه وفي أحمالنا اقتداء واضطماء أحرى أن ننجو من أن نأتي عليه ونحن مواقين . والدحض : هو الزلق .
وروى الحاكم وقال صحيح الإسناد مرفوعا : [ [ إن الله ليحمي عبده المؤمن من الدنيا وهو يحبه كما تحمون مريضكم الطعام والشراب تخافون عليه ] ] . وفي رواية للطبراني بإسناد حسن وابن حبان في صحيحه مرفوعا : [ إذا أحب الله D عبدا حماه من الدنيا كما يظل أحدكم يحمى سقيمة الماء ] ] .
وروى الشيخان وغيرهما مرفوعا : [ [ اطلعت في الجنة فرأيت أكثر أهلها الفقراء ] ] . زاد في رواية للإمام أحمد بإسناد جيد : [ [ واطلعت في النار فرأيت أكثر أهلها الأغنياء والنساء ] ] .
وروى الإمام أحمد ورواته ثقات وابن حبان في صحيحه مرفوعا : [ [ هل تدرون أول من يدخل الجنة من خلق الله D ؟ قالوا الله ورسوله أعلم قال الفقراء المهاجرون الذين تسد بهم الثغور وتتقى بهم المكاره ويموت أحدهم وحاجته في صدره لا يستطيع لها قضاء ] ] .
وروى الطبراني مرفوعا ورواته رواة الصحيح والترمذي وابن ماجه : [ [ إن حوضي ما بين عدن إلى عمان أكوابه عدد النجوم ماؤه أشد بياضا من الثلج وأحلى من العسل وأكثر الناس ورودا عليه فقراء المهاجرين قلنا يا رسول الله صفهم لنا قال شعث الرؤوس دنس الثياب الذين لا ينكحون المنعمات ولا تفتح لهم السدد الذين يعطون ما عليهم ولا يعطون ما لهم ] ] والسدد هنا هي الأبواب .
وروى مسلم والطبراني وغيرهما مرفوعا : [ [ إن فقراء المهاجرين يسبقون الأغنياء يوم القيامة يعني لدخول الجنة كما في رواية بأربعين خريفا ] ] . وفي رواية : بأربعين عاما .
وروى الطبراني وأبو الشيخ مرفوعا : [ [ إن فقراء المسلمين يزفون كما يزف الحمام فيقال لهم قفوا للحساب فيقولون والله ما تركنا شيئا نحاسب به فيقول الله D : صدق عبادي فيدخلون الجنة قبل الناس بسبعين عاما ] ] .
وروى الإمام أحمد والطبراني ورواة الطبراني رواة الصحيح مرفوعا : [ [ يأتي قوم يوم القيامة نورهم كنور الشمس قال أبو بكر نحن هم يا رسول الله ؟ قال لا ولكم خير كثير ولكنهم الفقراء المهاجرون الذين يحشرون من أقطار الأرض فذكر الحديث إلى أن قال طوبى للغرباء قيل من الغرباء ؟ قال : ناس صالحون قليل في ناس سوء كثير من يعصيهم أكثر ممن يطيعهم ] ] . وفي رواية للإمام أحمد مرفوعا : [ [ يدخل فقراء المؤمنين الجنة قبل أغنيائهم بأربعمائة عام حتى يقول المؤمن الغني يا ليتني كنت عيلا ] ] فذكر من صفاتهم أنهم يحجبون عن الأبواب . وفي رواية للترمذي وابن حبان في صحيحه : [ [ يدخل فقراء المسلمين الجنة قبل الأغنياء بنصف يوم وهو خمسمائة عام .
وروى الترمذي وغيره مرفوعا : [ [ اللهم أحيني مسكينا وأمتني مسكينا واحشرني في زمرة المساكين يوم القيامة فقالت عائشة : لم يا رسول الله ؟ فقال : إنهم يدخلون الجنة قبل أغنيائهم بأربعين خريفا يا عائشة لا تردي مسكينا ولو بشق تمرة يا عائشة حبي المساكين وقربيهم فإن الله تعالى يقربك يوم القيامة ] ] .
وروى الحاكم والبيهقي وغيرهما مرفوعا : [ [ اللهم توفني فقيرا ولا توفني غنيا واحشرني في زمرة المساكين فإن أشقى الأشقياء من اجتمع عليه فقر الدنيا وعذاب الآخرة ] ] .
وروى الطبراني وابن حبان في صحيحه عن أبي ذر Bه قال : أوصاني خليلي A بخصال أربع : أن لا أنظر إلى من هو فوقي وأنظر إلى من هو دوني وأوصاني بحب المساكين والدنو منهم وأوصاني أن أصل رحمي وإن أدبرت .
وروى ابن ماجه مرفوعا : [ [ ألا أخبركم عن ملوك الجنة ؟ قلنا بلى يا رسول الله قال : رجل ضعيف مستضعف ذو طمرين لا يؤبه له لو أقسم على الله لأبره ] ] .
وروى النسائي وابن حبان في صحيحه : أن رسول الله A قال لأبي ذر : [ [ ألا ترى كثرة المال هو الغنى قال نعم يا رسول الله قال إنما الغنى غنى القلب والفقر فقر القلب ] ] .
وروى ابن أبي الدنيا وابن حبان في صحيحه : [ [ اللهم من آمن بك وشهد أني رسولك فحبب إليه لقاءك وسهل عليه قضاءك وأقلل له من الدنيا ومن لم يؤمن بك ولا شهد أني رسولك فلا تحبب إليه لقاءك ولا تسهل عليه قضاءك وأكثر عليه من الدنيا ] ] . وفي رواية لابن ماجه مرفوعا : [ [ اللهم من آمن بي وصدقني وعلم أن ما جئت به الحق من عندك فأقلل ماله وولده وحبب إليه لقاءك وعجل له القضاء ومن لم يؤمن بي ولم يصدقني ولم يعلم أن ما جئت به الحق من عندك فأكثر ماله وولده وأطل عمره ] ] . وروى الإمام أحمد بإسنادين أحدهما صحيح مرفوعا : [ [ اثنتان يكرههما ابن آدم الموت والموت خير له من الفتنة ويكره قلة المال وقلة المال أقل للحساب ] ] . وروى أبو يعلي والأصبهاني مرفوعا : [ [ من قل ماله وكثرت عياله وحسنت صلاته ولم يغتب المسلمين جاء يوم القيامة وهو معي كهاتين ] ] .
وروى الطبراني ورواته محتج بهم في الصحيح : [ [ إن من أمتي من لو جاء إلى أحدكم يسأله دينارا لم يعطه ولو سأله درهما لم يعطه ولو سأله فلسا لم يعطه ولو سأل الله الجنة لأعطاه إياها : ذو طمرين لا يؤبه له لو أقسم على الله لأبره ] ] .
وروى الترمذي مرفوعا : [ [ إن أغبط أوليائي عندي لمؤمن خفيف الحاذ ذو حظ من صلاة أحسن عبادة ربه وأطاعه في السر وكان غامضا في الناس لا يشار إليه بالأصابع وكان رزقه كفافا فصبر على ذلك ثم نقر بيده فقال : عجلت منيته قلت بواكيه قل تراثه ] ] . وفي رواية الحاكم : أغبط الناس عندي والباقي بنحوه .
وروى الترمذي وحسنه مرفوعا : [ [ عرض علي ربي ليجعل لي بطحاء مكة ذهبا قلت لا يا رب ولكني أجوع يوما وأشبع يوما أو قال ثلاثا أو نحوها فإذا جعت تضرعت إليك وذكرتك وإذا شبعت شكرتك وحمدتك ] ] . والحاذ : هو الخفيف الحال قليل المال .
وروى ابن ماجه والحاكم : [ [ إن الله تعالى يحب الأبرار الأتقياء الأخفياء الذين إذا غابوا لم يفقدوا وإذا حضروا لم يعرفوا قلوبهم مصابيح الدجى يخرجون من كل غبراء مظلمة ] ] . والأحاديث في هذا الباب كثيرة . والله تعالى أعلم .
- ( أخذ علينا العهد العام من رسول الله A ) أن نحب الفقر وقلة ذات اليد وكذلك نحب من كان بهذه الصفة أيضا من الفقراء والمساكين والمستضعفين ونحب مجالستهم عملا بقوله تعالى : { ولا تعد عيناك عنهم } . وذلك لأن رحمة الله تعالى لا تفارقهم فنحبهم ونحب مجالستهم لمحبة الله تعالى لهم وكذلك نحب الفقر لما فيه من كثرة سؤالنا للحق وتوجهنا إليه لعلة أخرى .
وإيضاح ذلك أن حاجة العبد تذكره بالله تعالى وعدم حاجته تنسيه الحق قال تعالى : { كلا إن الإنسان ليغطي أن رآه استغنى } وقال { وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه فلما نجاكم إلى البر أعرضتم } . ومن هنا قال A : اللهم اجعل رزق آل محمد قوتا وكفافا . أي لا يفضل عنهم من غدائهم ولا عشائهم شيء وذلك ليصيروا متوجهين إلى الله تعالى كل حين لا ينسونه . فانظر ما أشد شفقته A على أهل بيته ويقاس بأهل بيته غيرهم فوالله لو علم الإنسان قدر مقام الفقر لتمناه ليلا ونهارا .
وقد قال الإمام الشافعي Bه : ما فزعت نفسي من الفقر قط أي بل تنشرح له إذا أقبل وتنقبض إذا أدبر هذا مذهب الإمام الشافعي Bه فما بالكم يا مقلدون له لا تفرحون بما كان يفرح به ولا تنقبضون مما كان ينقبض له ؟ فإن قلتم لا نقدر على إتباعه في ذلك قلنا لكم اطلبوا لكم شيخا يوصلكم إلى أتباعه فإن هذه الدرجة التي ذكرها الإمام هي أول درجات أهل الطريق فمن شدة محبة المريد للطريق أول دخوله لها أنه يصير يكره الدنيا بالطبع وينقبض لدخولها في يده لعلمه بأنه ليس له قدرة على نية صالحه في إمساكها ولا إنفاقها ؟ ؟ ثم إذا من الله تعالى عليه بالكمال في الطريق وصارت الدنيا في يده لا في قلبه يتمنى دخولها في يده وينقبض إذا أدبرت عنه لأن من كمال الداعي إلى الله تعالى من الأمة أن تكون الدنيا فائضة عليه ليطعم منها أتباعه وينفق عليهم منها ومن لم يكن كذلك فدعاؤه إلى الله ناقص ويطرقه الذل في طلب اللقمة والخضوع لمن أتاه بها من أصحابه وغيرهم كما أن من لازمه الغيبة لكل من لم يحسن إليه كما سيأتي في حديث : من كثرت عياله ولم يغتب المسلمين . فأشار إلى أن الغالب على الفقير المحتاج غيبة من لم يعطه ما احتاج إليه فانظر آفة المحتاج .
وكذلك القول في الداعي إلى الله تعالى إذا كان فقيرا فإن الغالب على مريديه معه تلفتهم إلى غيره ليطعمهم ويكفيهم مؤونتهم هذا أمر قهري على كل إنسان محتاج فما أمر الأشياخ مريديهم بترك الدنيا إلا لما يحصل لهم من الشغل بها وأيضا فليس لهم اتباع حتى يمسكونها لهم .
فانظر ما أكمل نظر أهل الطريق وما ذكرت لك شيئا حتى ذقته في نفسي فإني كنت أكره الدنيا بالطبع فلما خرجت محبتها من قلبي ولله الحمد صرت أود أن لو كان عندي كل يوم ألف إردب ذهبا أنفقتها على خلق الله تعالى فالحمد لله رب العالمين ونرجو من فضل الله تعالى أن يعطينا في الآخرة ثواب من تصدق كل يوم أو ساعة بألف إردب ذهبا : { وما ذلك على الله بعزيز } . فهذا حالي الآن وما أدرى ماذا يقع لي عند الموت فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم .
ثم لا يخفى أن من شرط الفقير أن لا يكون له اختيار مع الله تعالى فقولي إني صرت أود أن لو كان عندي كل يوم ألف إردب ذهبا إنما هو من حيث التكسب وإظهار الفاقة والحاجة بمعنى أننا نرى من كثرة ذنوبنا أننا لو تصدقنا منها كل يوم أو ساعة بالألف الإردب الذهب لا يكفرها فنحن ننقبض لزوال الدنيا من كفنا كما ننقبض لوقوع المعاصي على يدينا سواء . وأما من حيث الرضا عن الله تعالى فيما قسمه فلا نختار غير ما اختاره لنا فإن وسع علينا الدنيا فرحنا وإن ضيقها علينا فرحنا بذلك وعلى ما قررناه من محبة الكمل للدنيا يحمل حال العباس عم النبي A لما أمر له النبي A بعطاء وصار يحثو في بردته فلما أراد أن يحملها عجز فما بقي يهون عليه أن ينقص منها ولا هو يقدر يحملها فكان قصد العباس Bه بأخذه الكثير من الذهب إظهار الفاقة ولتكثر الصدقة والنفقة على يديه لا أنه يأخذها ويمنع نفسه منها من الخير كما هو شأن أبناء الدنيا فافهم فوالله إني لأحب لجميع أصحابي أن لو كان مع كل واحد مثل أحد ذهبا وأكره لهم ضيق اليد بشرطه الشرعي وما منع الله أهل القناعة باليسير من الدنيا إلا فتحا لباب الراحة للعبد وإراحته من تعب المزاحمة على الرزق ومعاداة إخوانه المسلمين لأجلها . وأما من يسأل الله تعالى كل ساعة توسعه الدنيا لينفقها على خلق الله فلا حرج عليه ولا مضايقة له في حق أحد فحكم من يطلب من الله كثرة الدنيا لينفقها حكم من يطلب من الله كثرة الأعمال الصالحة ليدين الله تعالى بها سواء لأن كلاهما عبادة .
وكان فيما نسخت تلاوته لو أن لابن آدم واديين من ذهب لابتغى ثالثا ولو أن له ثالثا لابتغى رابعا ولا يملأ عين ابن آدم إلا التراب ويتوب الله على من تاب . ويجب استثناء جميع الأنبياء والأولياء من محبة ذلك وإن كانوا من بني آدم لعصمتهم أو حفظهم من محبة الدنيا لغير الله تعالى .
وقد كان أبو الحسن الشاذلي Bه يقول في قوله تعالى : { منكم من يريد الدنيا } أي للآخرة { ومنكم من يريد الآخرة } . أي لله . فاعلم أن الكمل لا يضرهم كثرة الدنيا وما رد A جبال الذهب حين عرضها الله عليه إلا تشريعا لأمته خوفا عليهم أن لا يبلغوا مقام العارفين فيها فيهلكوا فكان رده لذلك من باب الاحتياط لأمته خوفا أن يقتدوا به ظاهرا في الأخذ ولا يقدروا يتبعونه في الإنفاق ويؤيد ذلك قوله A ما يسرني أن لي مثل أحد ذهبا يمضي عليه ثلاثة أيام وعندي منه درهم واحد إلا درهم أحبسه لدين . فقوله : ما يسرني أي أن يكون عندي مثل أحد ذهبا وأحبسه عن الناس فما تبرأ إلا من حبسه لا من إنفاقه كما هو سياق الحديث .
فاعمل يا أخي على خروج حب الدنيا من قلبك بالكلية حتى تصير تنقبض لدخولها عليك ثم اعمل على محبتها للإنفاق في سبيل الله حتى لا تصير تقنع بجميع ما في الدنيا أن لو دخل في يديك ثم أنفقته لأن غايتك أنك أنفقت دون جناح الناموسة وأنا أعطيك ميزانا في حق الأمة لا في حق الأنبياء تميز به بين المحمود والمذموم وهو أن الله تعالى إذا مدح عبدا من عبيده فإنما ذلك لفتور همة العبد عن امتثال أمر سيده مجانا ولو أنه علم من قلبه عدم العلة من حيث الثواب وغيره لما مدحه بل كان يأمره فقط أن يفعل ذلك الشيء على قاعدة العبيد مع ساداتهم . فابحث على ما قلته من طلب ثواب أو غيره تعثر عليه وتأمل لولا أنه تعالى مدح المؤثرين على أنفسهم لما آثروا على أنفسهم أحدا لأن كل إنسان يقدم أغراض نفسه على غرض غيره من أصل الجبلة فإذا خرجوا عن شح الطبيعة أطلعهم على ظلمهم لأنفسهم الذي نهاهم عنه وأمرهم بالبداءة بها على قاعدة حديث : الأقربون أولى بالمعروف ولا أقرب إلى الإنسان من نفسه وعليه يحمل قوله A : أبدأ بنفسك ثم بمن تعول ليخرجه عن الظلم لنفسه فافهم فلا تجد قط آيتين أو حديثين صحيحين غير منسوخ أحدهما وهما متناقضان أبدا وإنما هما محمولان على حالين ولا يعرف ذلك إلا من سلك الطريق وأما من لم يسلك فمن لازمه القول بالتناقض ويصير يتمحل الأجوبة من غير ذوق فتارة يخطئ وتارة يصيب فتأمل جميع ما قررناه تعرف أن الدنيا ما ذمت إلا في حق من لم يكتسب بها خيرا . { والله عليم حكيم }