الباب الربع ـ في إثبات النبوات .
حاجة الناس إلى الرسل : .
و الأنبياء هم رسل الله تعالى إلى عباده بأوامر و نواهيه زيادة على ما اقتضته العقول من واجباتها و إلزاما لما جوزته من مباحاتها لما أراده الله من كرامة العاقل و تشريف أفعاله و استقامة أحواله و انتظام مصالحه حين هيأه للحكمة و طبعه على المعرفة ليجعله حكيما و بالعواقب عليما لأن الناس بنظرهم لا يدركون مصالحهم بأنفسهم و لا يشعرون لعواقب أمورهم بغرائزهم و لا ينزجرون مع اختلاف أهوائهم دون أن يرد عليهم آداب المرسلين و أخبار القرون الماضين فتكون آداب فيهم مستعملة و حدوده فيهم متبعة و أوامره فيهم ممتثلة وو عده و وعيده فيهم زاجرا و قصص من غبر من الأمم واعظا فإن الأخبار العجيبة إذا طرقت الأسماع و المعاني الغريبة إذا أيقظت الأذهان استمدتها العقول فزاد علمها و صح فهمها و أكثر الناس سماعا و أكثرهم خواطر و أكثرهم خواطر أكثرهم تفكرا و أكثرهم تفكرا أكثرهم علما و أكثرهم علما أكثرهم عملا فلم يو جد عن بعثه الرسل معدل و لا منهم في انتظام الحق بدل .
منكر و النبوات : .
و أنكر فريق من الأمم نبوات الرسل و هم فيها ثلاثة أصناف : .
أحدها : ملحدة دهرية يقولون يقدم العالم و تدبير الطبائع فهم بإنكار المرسل أجدر أن يقولوا بإنكار الرسل .
و الصنف الثاني : براهمة موحدة يقولون بحدوث العالم و يجحدون بعثة الرسل ويبطلون النبوات و هم المنسوبون إلى بهر من صاحب مقالتهم و شذ فريق منهم فادعى أنه آدم أبو البشر و منهم من قال هو إبراهيم و من قال من هذه الفرقة الشذة منهم أنه أحد هذين أقر بنبوتهما و أنكر نبوة من سواهما و جمهورهم على خلاف هذه المقالة في اعتزائهم لصاحب مقالتهم و إنكار جميع النبوات عموما .
و الصنف الثالث : فلاسفة لا يتظاهرون بإبطال النبوات في الظاهر و هم مبطلوها في تحقيق قولهم لأنهم يقولون : إن العلوم الربانية بعد كمال العلوم الرياضية من الفلسفة و الهندسة ليضعها من كملت رياضته إذا كان عليها مطبوعا .
الرد على منكري النبوات : .
و اختلف من أبطل النبوات في علة إبطالها فذهب بعضهم إلى أن العلة في إبطالها أن الله تعالى قد أغنى عنها بما دلت عليه العقول من لوازم ما تأتي به الرسل و هذا فاسد من وجهين : أحدهما : أنه لا يمنع ما دلت عليه العقول جواز أن تأتي به الرسل وجوبا و لو كان العقل موجبا لما امتنع أن تأتي به الرسل وجوبا و لو كان العقل موجبا لما امتنع أن تأتي به الرسل تأكيدا كما تترادف دلائل العقول على التوحيد و لا يمنع وجود بعضها من و جود غيرها .
و الثاني : إنه لا تستغني قضايا العقول عن بعثة الرسل من وجهين : أحدهما : إن قضايا العقول قد تختلف فيما تكافأت فيه أدلتها فانحسم ببعثه الرسل اختلافها .
و الثاني : أنه لا مدخل للعقول فيما تأتي به الرسل من الوعد و الوعيد و الجنة و النار و ما يشرعونه من أوصاف التعبد الباعث على التأله فلم يغن عن بعثة الرسل .
و ذهب آخرون منهم إلى أن العلة في إبطال النبوات أن بعثة الرسل إلى من يعلم من حالتهم أنهم لا يقبلون منهم ما بلغوه إليهم عبث يمنع من حكمة الله تعالى و هذا فاسد من وجهين .
أحدهما : أنه ليس بعبث أن يكون فيهم من لا يقبله كما لم يكن فيما نصبه الله تعالى من دلائل العقول على توحيده عبثا و إن كان منهم من لا يستدل به على توحيده كذلك بعثة الرسل .
و الثاني : أن وجود من يقبله فهم على هذا التعليل يوجب بعثة الرسل و هم يمنعون إرسالهم إلى من يقبل و من لا يقبل فبطل هذا التعليل .
و قال آخرون منهم : بل العلة فيه أن ما جاء به الرسل مختلف ينقض بعضه بعضا و نسخ المتأخر ما شرعه المتقدم و قضايا العقول لا تتناقض فلم يرتفع بما يختلف و يتناقض و هذا فاسد من و جهين : أحدهما : أن ماجاء به الرسل ضربان أحدهما : ما لا يجوز أن يكون إلا على و جه واحد و هو التوحيد و صفات الرب المربوب فلم يختلفوا فيه و أقواله متناصرة عليه .
و الضرب الثاني : ما يجوز أن يكون من العبادات على وجه و يجوز أن يكون على خلافه و يجوز أن يكون في وقت و لا يجوز أن يكون في غيره و هذا النوع هو الذي اختلفت فيه الرسل لاختلاف أوقاتهم : إما بحسب الأصلح و إما بحسب الإرادة و هذا في قضايا العقول جائز .
و الوجه الثاني : أن قضايا العقول قد تختلف فيها العقلاء و لا يمنع ذلك أن يكون العقل دليلا كذلك ما اختلف فيه الرسل لا يمنع أن يكون حجة .
و قال آخرون منهم : بل العلة في إبطال النبوات أنه لا سبيل إلى العلم بصحتها لغيبها و أن ظهور ما ليس في الطباع من معجزاتهم ممتنع الطباع الدافعة لها فهذا فاسد من وجهين أحدهما : أن المعجزات من فعل الله تعالى فيهم فخرجت عن حكم طباعهم و الثاني : لما تميزوا بخروجهم عن الطباع من الرسالة تميزوا بما يخرج عن عرف الطباع من الإعجاز .
و قال آخرون منهم : بل العلة في إبطال النبوات إن ما يظهرونه من المعجز الخارج عن العادة قد يوجد مثله في أهل الشعبذة و المخرقة و أهل النارنجيات و ليس ذلك من دلائل صدقهم فكذلك أحكام المعجزات .
و هذا فاسد من وجهين أحدهما : ان الشعبذة تظهر لذوي العقول و تندلس على الغر الجهول فخالفت المعجزة التي تذهل لها العقول و الثاني : أن الشعبذة تستفاد بالتعليم فيتعلمها من ليس يحسنها فيصير مكافئا لمن أحسنها و يعارضها بمثلها و المعجزة مبتكرة لا يتعاطاها غير صاحبها و لا يعارضه أحد بمثلها كما انقلبت عصا موسى حية تسعى تلتقف ما أفكه السحرة فخروا له سجدا .
إثبات النبوات : .
و لئن كان في إبطاله هذه الشبهة دليل على إثباتها فيستدل على إثبات النبوات من خمسة أوجه و إن اشتملت تلك الأجوبة على بعضها : .
أحدها : أن الله تعالى منعم على عباده بما يرشدهم إليه من المصالح و لما كان في بعثة الرسل ما لا تدركه العقول كان إرسالهم من عموم المصالح التي تكفل بها .
و الثاني : أن فيما تأتي به الرسل من الجزاء بالجنة ثوابا على الرغبة في فعل الخير و بالنار عقابا يبعث على الرهبة في الكف عن الشر صارا سببا لئتلاف الخلق و تعاطي الحق .
و الثالث : إن في غيوب المصالح ما لا يعلم إلا من جهة الرسل فاستفيد بهم ما لم يستفد بالعقل .
و الرابع : أن التأله لا يخلص إلا بالدين و الدين لا يصلح إلا بالرسل المبلغين عن الله تعالى ما كلفت .
و الخامس : أن العقول ربما استكبرت من موافقة الأكفاء و متابعة النظراء فلم يجمعهم عليه إلا طاعة المعبود فيما أداه رسله فصارت المصالح بهم أعم و الإتقان بهم أتم و الشمل بهم أجمع و التنازع بهم أمنع .
و يجوز إثبات التوحيد و النبوات بدقيق الاستدلال كما يجوز بجليه فإن ما دق في العقول هو أبلغ في الحكمة و قد تلوح لابن الرومي هذا المعنى فنظمه في شعره فقال : .
( غموض الحق حين يذب عنه ... يقلل ناصر الخصم المحق ) .
( يجل عن الدقيق عقول قوم ... فيقضي للمجل على المدق ) .
كيفية بعثة الرسل : .
فإذا ثبت جواز النبوات و بعثة الرسل بالعبادات فهم رسل الله تعالى إلى خلقه إما بخطاب مسموع أو بسفارة ملك منزل و منع قوم من مثبتي النبوات أن تكون نبوتهم عن خطاب أو نزول ملك لانتفاء المخاطبة الجسمانية عنه تعالى لأنه ليس بجسم و الملائكة من العالم العلوي بسيط لا تهبط كما أن العالم السفلي كثيف لا يعلو و اختلف من قال بهذا فيما جعلهم به أنبياء .
فقال بعضهم : صاروا أنبياء بالإلهام لا بالوحي و هذا فاسد من وجهين .
أحدهما : أن ما بطل به إلهام المعارف في التوحيد كان إبطال المعارف به في النبوة أحق .
و الثاني : أن الإلهام خفي غامض يدعيه المحق و المبطل فإن ميزوا بينهما طلبت أمارة و إن عدلوا عن الإلهام فذلك دليل يبطل الإلهام .
و قال آخرون منهم : إنما صاروا أنبياء لأن لله تعالى في العالم خواص و أسرارا تخالف مجرى الطبائع فمن أظفره الله تعالى بها من خلقه استحق بها النبوة و هذا فاسد من وجهين : .
أحدهما : خفاؤها فيه غير دليل على صدقه .
و الثاني : أنه يكون نبيا عن نفسه لا عن ربه فصار كغيره .
و قال آخرون : بل صاروا أنبياء لأن الله تعالى خصهم من كمال العقول بما يتواصلون به إلى حقائق الأمور فلا يشتبه عليهم منها ما يشتبه على غيرهم فصاروا أنبياء عن عقولهم لا عن ربهم و هذا فاسد من وجهين : .
أحدهما : أن هذا يقتضي فضل العلم في حقه و لا يقتضيه في حق غيره .
و الثاني : أنه إن أخبر عن نفسه لم يكن رسولا و إن أخبر عن ربه كان كاذبا .
و قال آخرون : إنما صاروا أنبياء لأن النور فيهم صفا و نما بالنور الأعظم الإلهي الذي تخلص به الأفهام و تصح به الأوهام حتى ينتقلوا إلى الطباع الروحانية و يزول عنهم كدر الطباع البشرية فيخرجوا عن شبح الكائنات بصفاء نورهم و خلاصهم و هذا قول الثنوية و هذا فاسد من وجهين : .
أحدهما : أنهم دفعوا أسهل الأمرين من بعثة الرسل بأغلظهما من إعطاء نوره و أولى أن يدفعوا عن الأغلظ بما دفعوا به عن الأسهل و الثاني : أنهم أثبتوا به ممازجة الباري سبحانه فيما اختص بذاته و مخالفة الذات تمنع من ممازجته .
الرد على المعترض : .
و الجواب عما قالوه من امتناع المخاطبة الجسمانية عمن ليس بجسم من وجهين : .
أحدهما : أنه لا يمنع أن يظهر منه كخطاب الأجسام و إن لم يكن جسما كما يظهر منه كأفعال الأجسام و إن لم يكن جسما .
و الثاني : أن الله تعالى يجوز أن يودعه خطابه في الأسماع حتى تعيه الأذان و تفهمه القلوب بقدرته التي أخفاها عن خلقه .
و الجواب عما ذكروه من : أن جرم الملائكة علوي لا ينهبط من وجهين : .
أحدهما : أنه ليس يمنع ان ينتقل جرم سماوي لطيف إلى جرم أرضى كثيف إما بزيادة أو انقلاب كما يقولون في العقل و النفس إنهما جرمان علويان هبطا إلى الجسم فحلا فيه .
و الثاني : أنهم يقولون بانقلاب الأجرام الطبيعات فيقولون : إن الهواء المركب من حرارة و رطوبة إذا ارتفعت حرارته ببرودة صار ماء باردا .
و إن الماء المركب من برودة و رطوبة إذا ارتفعت برودته بحرارة صار هواء و أن الهواء المركب من حرارة و رطوبة إذا ارتفعت رطوبته بيبوسة صار نارا فإذا جاز ذلك عندهم في انقلاب الطبائع كان في فعل الله تعالى أجوز و هو عليها أقدر و لا يمكن أن يدفع أقاويلهم الخارجة عن قوانين الشرع إلا بمثلها و إن خرج عن حجاج أمثالنا لينقض قولهم بقولهم فلا يتدلس به باطل و لا يضل به جهول فما يضل عن الدين إلا قادح في أصوله و مزر على أهله .
شروط صحة النبوة : .
فإذا ثبت أن النبوة لا تصلح إلا ممن أرسله الله تعالى بوحيه إليه فصحتها إليه معتبرة بثلاثة شروط تدل على صدقه و وجوب طاعته .
أحدها : أن يكون مدعي النبوة على صفات يجوز أن يكون مؤهلا لها لصدق لهجته و ظهور فضله و كمال حاله فإن اعتوره نقص أو ظهر منه كذب لم يجز أن يؤهل للنبوة من عدم آلتها و فقد أمانتها .
بعث رسول الله صلى الله عليه و سلم خالد بن الوليد إلى بعض أحياء العرب يدعوهم إلى الإسلام فقالوا يا خالد : صف لنا محمدا قال : بإيجاز أم بأطناب قالوا : بإيجاز قال : هو رسول الله و الرسول على قدر المرسل .
و الشرط الثاني : إظهار معجز يدل على صدقه و يعجز البشر عن مثله لتكون مضاهية للأفعال الإلهية ليعلم أنها منه فيصبح بها دعوى رسالته لأنه لا يظهرها من كاذب عليه و يكون المعجز دليلا على صدقه و صدقه دليلا على صحة نبوته .
و الشرط الثالث : أن يقرن بالمعجز دعوى النبوة فإن لم يقترن بالمعجزة دعوى لم يصر بظهور المعجزة نبيا لأن المعجز يدل على صدق الدعوى فكان صفة لها فلم يجز أن تثبت الصفة قبل وجود الموصوف .
فإن تقدم ظهور المعجز على دعوى النبوة كان تأسيسا للنبوة ككلام عيسى عليه السلام في المهد تأسيسا لنبوته فاحتاج مع دعوى النبوة إلى إحداث معجز يقترن بها ليدل على صدقه فيها .
و إن تقدمت دعوى النبوة على المعجز اكتفى بحدوث المعجز بعدها عن اقترانه بها لأن استصحابه للدعوى مقترن بالمعجز فإن ظهر المعجز المقترن بالدعوى لبعض الناس دون جميعهم نظر فإن كانوا عددا يتواتر بهم الخبر و يستفيض فيهم الأثر كان الغائب عنه محجوبا بالمشاهد له في لزوم الإجابة و الانقياد للطاعة كما يكون العصر الثاني محجوبا بالعصر الأول و إن كان المشاهد للمعجز عددا لا يستفيض بهم الخبر و لا يتواتر بهم الأثر لإمكان تواطئهم على الكذب و يتوجه إلى مثلهم الخطأ و الزلل كان المعجز حجة عليهم و لم يكن حجة على غيرهم حتى يشاهدوا من المعجز ما يكونوا محجوبين به و سواء كان من جنس الأول أو من غير جنسه فإن قصر من شاهد الأول عن عدد التواتر و قصر من شاهد الثاني عن عدد التواتر لم يثبت حكم التواتر فيهما و لا في واحد منهما لجواز الكذب على كل واحد من العددين