الباب الثالث ـ في صحة التكليف .
معنى التكليف : .
التكليف هو إلزام ما ورد به الشرع تعبدا و هو نوعان : .
أحدهما : ما تعلق بحقه من أمر بطاعة و نهي عن معصية .
و الثاني : ما تعلق بحقوق عباده من تقدير الحقوق و تقرير العقود ليكونوا مدبرين بشرع مسموع و منقادين لدين متبوع فلا تختلف فيه الآراء و لا تتبع فيه الأهواء و ليعلموا به ابتداء النشأة و انتهاء الرجعة فتصلح به سرائرهم الباطنة له و تخشع له قلوبهم القاسية و تجتمع به كلمتهم المتفرقة و تتفق عليه أحوالهم المختلفة و يسقط به تنازعهم في الحقوق المتجاذبة و يكونوا على رغب في الثواب يبعثهم على الخير و رهب من العقاب يكفهم عن الشر و هذه أمور لا يصلح الخلق إلا عليها ولا يوصل بغير الدين المشروع إليها إذ ليس في طباع البشر أن يتفقوا على مصالحهم من غير وازع ولا يتناصفوا في الحقوق من غير دافع لحرصهم على اختلاف المنافع وبهذا يفسد ما ذهبت إليه البراهمة من الاقتصار على قضايا العقول و إبطال التعبد بشرائع الرسل .
فالتكليف حسن في العقول إذا توجه إلى من علمت طاعته و اختلف في حسنه إذا توجه إلى من علمت معصيته و استحسنه المعتزلة لأن فيه تعريضا للثواب و لم يستحسنه الأشعرية لأنه بالمعصية معرض للعقاب و الأول أشبه بمذهب الفقهاء و إن لم يعرف لهم فيه قول يحكى .
التكليف بالأصلح : .
و اختلف في التكليف هل يكون معتبرا بالأصلح فالذي عليه أكثر الفقهاء : أنه معتبر بالأصلح لأن المقصود به منفعة العباد و ذهب فريق من الفقهاء و المتكلمين إلى أنه موقوف على مشيئة الله تعالى من مصلحة و غيرها لأنه مالك لجميعها .
فمن اعتبر الأصلح منع من تكليف ما لايطاق ومن اعتبره بالمشيئة جوز تكليف ما لا يطاق و يصح تكليف ما لحقت فيه المشقة المحتملة .
و اختلف في صحة التكليف فيما لا مشقة فيه فجوزها الفقهاء و منع منها بعض المتكلمين و قد ورد التعبد بتحويل القبلة عن بيت المقدس إلى الكعبة و ليس فيه مشقة و إذا اعتبر التكليف بالاستطاعة لم يتوجه إلى ما خرج عن الاستطاعة و اختلف في المانع منه فقال فريق : منع منه العقل لامتناعه فيه و قال فريق : منع منه الشرع و إن لم يمنع منه العقل بقواه تعالى : { لا يكلف الله نفسا إلا وسعها } .
وجوب التكليف : .
فإذا تقرر شروط التكليف مع كونه حسنا فقد اختلف في وجوبه فأوجبه من اعتبر الأصلح و جعله مقترنا بالعقل لأنه من حقوق حكمته و لم يوجبه من حمله على الإرادة لأن الواجب يقتضي علو الموجب و هذا منتف عن الله تعالى و اختلف من قال بهذا في تقدم العقل على الشرع .
فقال فريق : يجوز أن يقترن بالعقل و يجوز أن يتأخر عنه بحسب الإرادة و لا يجوز أن يتقدم على العقل لأن العقل شرط في لزوم التكليف .
و قال فريق : بل يجب أن يكون التكليف واردا بعد كمال العقل و لا يقترن به كما يتقدم عليه لقوله الله تعالى : { أيحسب الإنسان أن يترك سدى } و هذه صفة متوجهة إليه بعد كمال عقله .
التكليف الشرعي : .
و قد استقر بما قدمناه أن التكليف الشرعي ما تضمنه الأوامر و النواهي في حقوق الله تعالى و حقوق عباده .
و المأمور به ضربان : واجب و ندب .
فالواجب ما وجب أن يفعل والندب ما الأولى أن يفعل .
و المنهي عنه ضربان : مكروه و محظور فالمحظور ما وجب تركه والمكروه ما الأولى تركه .
فأما المباح فما استوى فعله و تركه فلا يجب أن يفعل و لا الأولى أن يفعل و لا يجب أن يترك و لا الأولى أن يترك .
و اختلف في دخول المباح في التكليف .
فذهب بعض أصحاب الشافعي C إلى دخوله في التكليف و اختلف قائل هذا هل دخل فيه بإذن أو بأمر على وجهين أحدهما : بإذن ليخرج حكم الندب والثاني : بأمر دون أمر الندب كما أن أمر الندب دون أمر الواجب .
و ذهب آخرون من أصحاب الشافعي C إلى خروجه من التكليف بإذن أو أمر لاختصاص التكليف بما تضمنه ثواب أوعقاب و اتفقوا في المباح أنه لا يستحق عليه حمد و لا ذم و يخرج عن القبيح و اختلفوا في دخوله في الحسن فادخله بعضهم فيه و أخرجه بعضهم منه .
التكليف والإرادة : .
و الأمربالتكليف هو استدعاء الطاعة بالانقياد للفعل و اختلفوا في اقتران الإرادة به هل يكون شرطا في صحته ؟ .
فذهب الأشعري إلى أن الإرادة غير معتبرة فيه و يجوز أن يأمر بما لا يريده و لا يكون أمرا كالذي يريده و ذهب المعتزلة إلى أنه لا يكون أمرا إلا بالإرادة فإن لم تعلم إرادته لم يكن أمرا .
و اختلفوا هل تعتبر إرادة الأفراد إرادة المأمور به فاعتبر بعضهم إرادة الأمر المنطوق به و اعتبر آخرون منهم إرادة الفعل المأمور به .
و الذي عليه جمهور الفقهاء أن الأمر دليل على الإرادة و ليست الإرادة شرطا في صحة الأمر و إن كانت موجودة مع الأمر فيستدل بالأمر على الإرادة و لا يستدل بالإرادة على الأمر .
هل صحة الأمر موافقة العقل ؟ .
و من صحة الأمر أن يكون بما لا يمنع منه العقل فإن منه العقل لم يصح الأمر به لخروج التكليف عن محظورات العقول .
و اختلف هل يعتبر صحته بحسنه في العقل ؟ فاعتبره فريق و أسقطه فربق و إذا لم يكن يستوعب نصوص الشرع قضايا العقول كلها جاز العمل بمقتضى العقل فيها .
و اختلف في إلحاقها بأحكام الشرع فألحقها فريق بها و جعلها داخلة فيها لأن الشرع لا يخرج عن مقتضاها و أخرجها فريق منها وإن جاز العمل بها كالمشروع لأن الشرع مسموع و العقل متبوع .
الأمر يكون بالقول : .
و الأمر يكون بالقول أو ما قام مقام القول إذا عقل منه معنى الأمر واختلف فيه متى يكون أمرا .
فذهب جمهور الفقهاء و المتكلمين إلى أنه يكون أمرا وقت القول و يتقدم على الفعل .
و ذهب شاذ من الفقهاء و المتكلمين إلى أنه يكون أمرا وقت الفعل و ما تقدمه من القول إعلام بالأمر و ليس بأمر و هذا فاسد لأن الفعل يجب بالأمر فلو لم يكن ما تقدمه أمرا لاحتاج مع الفعل إلى تجديد أمر .
أمر الإعلام و أمر الإلزام : .
و الأمر ضربان : أمر إعلام و أمر إلزام .
فأما أمر الإعلام فمختص بالاعتقاد دون الفعل ويجب أن يتقدم الأمر على الاعتقاد بزمان واحد و هو وقت العلم به .
و أما أمر الإلزام فمتوجه إلى الاعتقاد و الفعل فيجمع بين اعتقاد الوجوب و إيجاد الفعل و لا يجزئه الاقتصار على أحدهما فإن فعله قبل اعتقاد وجوبه لم تجزه و إن اعتقد وجوبه ولم يفعله كان مأخوذا به .
و لا يلزم تجديد الاعتقاد عند فعله إذا كان على ما تقدم من اعتقاده لأن الاعتقاد تعبد التزام و الفعل تأدية مستحق ويجب أن يتقدم الأمر على الفعل بزمان الاعتقاد و اختلف في اعتبار تقديمه بزمان التأهب للفعل على مذهبين أحدهما : و هو قول شاذ من الفقهاء يجب تقديمه على الفعل بزمانين أحدهما : زمان الاعتقاد و الثاني : زمان التأهب للفعل و به قال من المتكلمين من اعتبر القدرة قبل الفعل .
و المذهب الثاني : و هو قول جمهور الفقهاء يعتبر تقديم الأمر على الفعل بزمان الاعتقاد وحده و التأهب للفعل شروع فيه فلم يعتبر تقدمه عليه وبه قال من المتكلمين من اعتبر القدرة مع الفعل