الأنبياء مبتلون .
هذا سليمان بن داود عليهما السلام و قد أعطاه الله مع النبوة ملكا لا ينبغي لأحد من بعده و سأل الله تعالى الحكمة فأعطاه قلبا عليما و فهما سليما حتى وضع ثلاثة آلاف مثل تهذبت بها أخلاق قومه و استقامت بها سيرة ملكه بعد أن سخرت له الريح تجري بأمره رخاء حيث أصاب و سخرت له الشياطين يعملون له ما يشاء من محاريب و تماثيل و جفان كالجواب .
و ذكر في سيرته أنه كان نزله في كل يوم من دقيق السميد ثلاثين كرا و من غير السميد كرا و ارتفاقه في كل سنة ستة و ثلاثين ألف ألف ألف و ثلاثة و ثلاثين ألف ألف و ثلاثمائة ألف مثقال و كان له ألف و أربعمائة قيل متفرقة في القرى و ملك أربعين سنة كأبيه داود فابتلاه الله تعالى في أثناء ملكه بعد عشرين سنة منه ما حكاه الله تعالى في كتابه بقوله { ولقد فتنا سليمان وألقينا على كرسيه جسدا ثم أناب } و في فتنته قولان : .
أحدهما : أن سليمان سبى بنت مالك غزاه في جزيرة من جزائر البحر يقال لها صيدوت فألقيت عليه محبتها و هي معرضة عنه تذكرا لأبيها لا تنظر إليه إلا شزرا و لا تكلمه إلا نزرا ثم إنها سألته أن يصنع لها تمثالا على صورته فأمر به فصنع لها فعظمته و سجدت له و سجد معها جواريها وصار صنما معبودا في داره و هو لا يعلم به حتى مضت أربعون يوما و فشا خبره في بني إسرائيل و علم به سليمان فكسره ثم حرقه ثم ذراه في الريح هذا قول شهر بن حوشب .
و الثاني : إن الله تعالى قد جعل ملك سليمان في خاتمه فقال : لآصف ـ و هو شيطان اسمه آصف الشياطين ـ و كيف تضلون الناس ؟ فقال له الشيطان : أعطني خاتمك حتى أخبرك فأعطاه خاتمه فألقاه في البحر حتى ذهب ملكه و هذا قول مجاهد .
و في الجسد الذي ألقي على كرسيه قولان : أحدهما : أنه شيطان الذي ألقي خاتم سليمان في البحر جلس على كرسي سليمان متشبها بصورته يقضي بغير الحق و يأمر بغير الصواب .
و الثاني : أكثر من غشي جواريه طلبا للولد فولد له نصف إنسان فكان هو الجسد الملقى على كرسيه و زال عن سليمان ملكه فخرج هاربا إلى ساحل البحر يتضيف الناس و يحمل سموك الصيادين بالأجر و إذا أخبر الناس أنه سليمان كذبوه إلى أن أخذ حوته من صياد قيل إنه استطعمها و قيل بل أخذها أجرا فلما شق بطنها و جد خاتمه في جوفها و ذلك بعد أربعين يوما من زوال ملكه عنه و هي عدة الأيام التي عبد فيها الصنم في داره فسجد الناس له حين عاد الخاتم إليه .
و قال يحيى بن أبي عمر : وجد خاتمه بعسقلان فمشى فيها إلى بيت المقدس تواضعا لله و في ثم أناب تأويلان : .
أحدهما ثم رجع إلى ملكه قاله الضحاك .
و الثاني : ثم أناب من ذنبه قاله قتادة و بقي في ملكه بعد فتنته عشرين سنة استكمل بها الأربعين و هي مدة الأربعين التي زال ملكه فيها .
بلوى الملك بختنصر : .
و أما بلوى الملوك : فإن بختنصر كان ملكه طبق عمارة الأرض حتى ملك الأقاليم السبعة و دانت له ملوك الأمم و أدوا إليه خراج بلادهم فطغى قلبه و شمخ أنفه فداخلته العزة و اعتقد أن أمم الخلق قد صاروا عبيدا له و خولا و أن ملوك الأرض دانت بطاعته خوفا و رهبا .
فغضب الله تعالى عليه و سلبه عزة سلطانه و سطوته و أزال عنه هيبته و قدرته و جعل قلبه مثل قلوب الحيوان فانحط عن سرير ملكه و نفاه أعوانه عنهم فسكن الفلوات يأكل حشيشها و ابتل جسمه من قطر السماء حتى طال شعره و صارت أظافره كمخاليب الطير حتى حال سبعة أحوال و هو في سكرة لا يدري الناس إلا أنه كنوع من الحيوان الذي في صورة البشر إلى أن استنقذه الله تعالى من كربه فثاب إليه عقله و راجعه تمييزه فرجع ببصره إلى السماء معظما لله تعالى و مستجيرا به و معترفا أن لا سلطان إلا له يؤتيه من يشاء و ينزعه ممن يشاء فطلبه قواده ليردوه إلى سلطانه حتى وجدوه فأعادوه إلى دار عزه و أجلسوه على سرير ملكه فعاد إلى خوف الله تعالى و مراقبته و إلى ما كان عليه من جميل سيرته و استناب دانيال النبي في خلافته و تدبير ملكه إلى أن مضى لسبيله بعد أحدى و خمسين سنة من ملكه و دانيال على خلافته .
بلوى كسرى ابرويز : .
و منهم من ملوك الفرس كسرى ابرويز : بلغ في الملك مبلغا عظيما و كان في قصره اثنا عشر ألف جارية منهن للاستماع ثلاثة آلاف جارية و باقيهن للغناء و الخدمة و كان في داره ثلاثة آلاف رجل يقومون بخدمته و كان له ألف فيل إلا فيلا و من الخيل و البغال خمسون ألف رأس منها لمركبة ثمانية آلاف و خمسمائة و أمر أن يحصى ما اجتبى من خراج بلاده سنة ثماني عشرة من ملكه فكان ستمائة ألف ألف درهم و عدد على ابنه شيرويه بعد قبضه عليه أنه قال : أمرنا في سنة ثلاثين ملكنا بإحصاء ما في بيوت أموالنا سوى ما أمرنا بعزله لأرزاق الجند و كان من الورق أربعمائة ألف بدرة يكون فيها ألف ألف ألف مثقال و ستمائة ألف ألف مثقال سوى ما أفاءه الله تعالى علينا و زادنا من أموال ملوك الروم في سفن أقبلت بها الريح إلينا قسمناه في الرياح و لم تزل تزداد أموالنا إلى سنتنا هذه و هي سنة ثمان و ثلاثين من ملكنا و فيها قبض عليه ابنه حتى قتله و قد ذكر له ما جمع لأنه استطال و احتقر الناس .
فانظر أيها المعتبر بعقله في صنع الله تعالى و قدرته فمن يبتليه اختبارا أو يبلوه ازدجارا هل لما قضاه من دافع و فيما ابتلاه من مانع إلا بلطف منه يؤتيه من يشاء و هو القوي العزيز .
طهارة مولد محمد عليه السلام : .
و أما طهارة مولده فإن الله تعالى استخلص رسوله من أطيب المناكح و حماه من دنس الفواحش و نقله من أصلاب طاهرة إلا أرحام طاهرة و قد قال ابن عباس رضي الله تعالى عنه في تأويل قول الله تعالى { وتقلبك في الساجدين } أي تقلبك من أصلاب طاهرة من أب بعد أب إلى أن جعلتك نبيا و قد كان نور النبوة في آبائه ظاهرا .
حكي أن كاهنة بمكة يقال لها : فاطمة بنت مر الخثعمية قرأت الكتب فمر بها عبد المطلب و معه ابنه عبد الله يريد أن يزوجه آمنة بنت وهب فرأت نور النبوة في وجه عبد الله فقالت : هل لك أن تغشاني و تأخذ مائة من الإبل ؟ فعصمه الله تعالى من إجابتها و قال لها : .
( أما الحرام فالممات دونه ... و الحل لا حل فاستبينه ) .
( فكيف بالأمر الذي تبغينه ) .
فلما تزوجت به أمنة و حملت منه رسول الله صلى الله تعالى عليه و سلم قال لها : هل لك فيما قلت ؟ فلم تر ذلك النور في وجهه فقالت له : قد كان ذلك مرة فاليوم لا ماذا صنعت ؟ فقال : زوجني أبي آمنة بنت وهب الزهرية فقالت : قد أخذت النور الذي كان في وجهك و أنشأت تقول : .
( و الآن قد ضيعت ما كان ظاهرا ... عليك و فارقت الضياء المباركا ) .
( غدوت علي خاليا فبذلته ... لغيري هنيا فالحقن بنسائكا ) .
( و لا تحسبن اليوم أمس و ليتني ... رزقت غلاما منك في مثل حالكا ) .
و داخلها الأسف على ما فاتها و الحسرة على ما تولى عنها فحسدت آمنة على ما صار لها فأنشأت تقول : .
( إني رأيت مخيلة نشأت ... فتلألأت كتلألؤ الفجر ) .
( و لما بها نور يضيء به ... ما حولها كإضاءة البدر ) .
( و رأيتها متبينا شرفا ... ما كل قادح زنده يوري ) .
( لله ما زهرية سلبت ... ثوبيك ما استلبت و ما تدري ) .
و أنذرت به بني هاشم فقالت : .
( بني هاشم قد غادرت من أخيكم ... أمينة إذ للباه يعتلجان ) .
( كما غادر المصباح بعد خموده ... فتائل قد ميث له بدهان ) .
( و ما كل ما يحوي الفتى من بلاد ... هم بحزم و لا ما فاته لتوان ) .
( فاجمل إذا طالبت مرأ فإنه ... سيكفيكه جدان يعتلجان ) .
( و لما حوت منه أمينة ما حوت ... منه فخارا ما لذلك ثان ) .
( سيكفيكه إما يد منغلة ... و إما يد مبسوطة لبنان ) .
و هذا من آيات الله تعالى في رسوله أن عصم أباه حين كان في ظهره أن يضعه من سفاح حتى وضعه من نكاح ثم زالت العصمة بعد وضعه حتى عرض بالطلب بعد أن كان مطلوبا و رغب فيه بعد أن كان مرغوبا ثم لم يشركه في ولادته من أبويه أخ و لا أخت لانتهاء صفوتهما إليه و قصور نسبهما عليه ليكون مختصا بنسب جعله الله تعالى للنبوة غاية و لتفرده بها آية فيزول عنه أن يشارك فيه و يماثل به فلذلك مات أبواه عنه في صغره فأما أبوه عبد الله فمات عنه بمكة وهو حمل و أما آمنة فماتت عنه بالمدينة و هو ابن ست سنين لأنها رحلت إليها لزيارة أخوالها من بني النجار فماتت بها عندهم .
و إذا خبرت حال نسبه و عرفت طهارة مولده علمت أنه سلالة آباء كرام سادوا و رأسوا لأنه محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن الياس بن مضر ابن نزار بن معد بن عدنان ليس في آبائه خامل مسترذل و لا مغمور مستذل كلهم سادة قادة وهم أخص الناس بالمناكح الطاهرة حتى تخرجوا من نكاح المحارم و إن استباحه غيرهم من العرب حتى حكي أن حاجب بن زرارة و هو سيد بني تميم نكح بنته و أولدها و قد كان سماها و دختنوس باسم بنت كسرى و قال فيها حين نكحها مر تجزا : .
( يا ليت شعري عنك دختنوس ... إذا أتاها الخبر المرموس ) .
( أتسحب الذيلين أم تميس ... لا بل تميس إنها عروس ) .
و هذا في قريش من الفواحش و في التوراة أن لوطا نكح بنتين له فولدتا غلامين و لهما ذرية كبيرة و لوط هو ابن أخي إبراهيم الخليل و قد تزوج إبراهيم بنت أخيه سارة بنت هاران بن تارخ فتنزهت قريش من هذه المناكح حفظا لحرمة الأرحام الدانية أن تنتهك بالمناكح العاهرة فتضعف الحمية و تقل الغيرة .
إجابة عن اعتراض : .
فإن قيل : يشارك الأنبياء في شرف النسب و طهارة المولد غيرهم فلم يستحق بهما النبوة .
قيل : هما من شروط النبوة و إن استحقت بغيرهما فلم يمتنع أن يكون لهما في النبوة تأثير معتبر و وصف مختبر