فكيف وقد صرح رسول الله A بذلك فقال لا حسد إلا في اثنتين رجل آتاه الله مالا فسلطه على هلكته في الحق ورجل آتاه الله تعالى علما فهو يعمل به ويعلمه الناس // حديث لا حسد إلا في اثنتين الحديث متفق عليه من حديث ابن عمرو وقد تقدم في العلم ثم فسر ذلك في حديث أبي كبشة الأنماري فقال مثل هذه الأمة مثل أربعة رجل آتاه الله مالا وعلما فهو يعمل بعلمه في ماله ورجل آتاه الله علما ولم يؤته مالا فيقول رب لو أن لي مالا مثل مال فلان لكنت أعمل فيه بمثل عمله فهما في الأجر سواء وهذا منه حب لأن يكون له مثل ماله فيعمل ما يعمل من غير حب زوال النعمة عنه قال ورجل آتاه الله مالا ولم يؤته علما فهو ينفقه في معاصي الله ورجل لم يؤته علما ولم يؤته مالا فيقول لو أن لي مثل مال فلان لكنت أنفقه في مثل ما أنفقه فيه من المعاصي فهما في الوزر سواء // حديث أبي كبشة مثل هذه الأمة مثل أربعة رجل آتاه الله مالا الحديث رواه ابن ماجه والترمذي وقال حسن صحيح // فذمه رسول الله A من جهة تمنية للمعصية لا من جهة حبه أن يكون له من النعمة مثل ماله فإذا لا حرج على من يغبط غيره في نعمة ويشتهي لنفسه مثلها مهما لم يحب زوالها عنه ولم يكره دوامها له نعم إن كانت تلك النعمة نعمة دينية واجبة كالإيمان والصلاة والزكاة فهذه المنافسة واجبة وهو أن يحب أن يكون مثله لأنه إذا لم يكن يحب ذلك فيكون راضيا بالمعصية وذلك حرام وإن كانت النعمة من الفضائل كإنفاق الأموال في المكارم والصدقات فالمنافسة فيها مندوب إليها وإن كانت نعمة يتنعم بها على وجه مباح فالمنافسة فيها مباحة وكل ذلك يرجع إلى إرادة مساواته واللحوق به في النعمة وليس فيها كراهة النعمة وكان تحت هذه النعمة أمران أحدهما راحة المنعم عليه والآخر ظهور نقصان غيره وتخلفه عنه وهو يكره أحد الوجهين وهو تخلف نفسه ويحب مساواته له .
ولا حرج على من يكره تخلف نفسه ونقصانها في المباحات نعم ذلك ينقص من الفضائل ويناقض الزهد والتوكل والرضا ويحجب عن المقامات الرفيعة ولكنه لا يوجب العصيان وههنا دقيقة غامضة وهو أنه إذا أيس من أن ينال مثل تلك النعمة وهو يكره تخلفه ونقصانه فلا محالة يحب زوال النقصان وإنما يزول نقصانه إما بأن ينال مثل ذلك أو بأن تزول نعمة المحسود فإذا انسد أحد الطريقين فيكاد القلب لا ينفك عن شهوة الطريق الآخر حتى إذا زالت النعمة عن المحسود كان ذلك أشفى عنده من دوامها إذ بزوالها يزول تخلفه وتقدم غيره وهذا يكاد لا ينفك القلب عنه فإن كان بحيث لو ألقى الأمر إليه ورد إلى اختياره لسعى في إزالة النعمة عنه فهو حسود حسدا مذموما وإن كان تدعه التقوى عن إزالة ذلك فيعفي عما يجده في طبعه من الارتياح إلى زوال النعمة عن محسوده مهما كان كارها لذلك من نفسه بعقله ودينه ولعله المعنى بقوله A ثلاث لا ينفك المؤمن عنهن الحسد والظن والطيرة // حديث ثلاث لا ينفك المؤمن عنهن الحسد والظن والطيرة الحديث تقدم غير مرة // ثم قال وله منهن مخرج إذا حسدت فلا تبغ أي إن وجدت في قلبك شيئا فلا تعمل به وبعيد أن يكون الإنسان مريدا للحاق بأخيه في النعمة فيعجز عنها ثم ينفك عن ميل إلى زوال النعمة إذ يجد لا محالة ترجيحا له على دوامها فهذا الحد من المنافسة يزاحم الحسد الحرام فينبغي أن يحتاط فيه فإنه موضع الخطر وما من إنسان إلا وهو يرى فوق نفسه جماعة من معارفه وأقرانه يحب مساواتهم ويكاد ينجر ذلك إلى الحسد المحظور إن لم يكن قوي الإيمان رزين التقوى ومهما كان محركه خوف التفاوت وظهور نقصانه عن غيره جره ذلك إلى الحسد المذموم وإلى ميل الطبع إلى زوال النعمة عن أخيه حتى ينزل هو إلى مساواته إذ لم يقدر هو أن يرتقي إلى مساواته بإدراك النعمة وذلك لا رخصة فيه أصلا بل هو حرام سواء كان في مقاصد الدين أو مقاصد