بهذه الخبائث مثال دمل ممتلىء بالصديد والمدة وقد لا يحس صاحبه بألمه ما لم يتحرك أو يمسه غيره فإن لم يكن له يد تمسه أو عين تبصر صورته ولم يكن من يحركه ربما ظن بنفسه السلامة ولم يشعر بالدمل في نفسه وأعتقد فقده ولكن لو حركه محرك أو أصابه مشرط حجام لانفجر منه الصديد وفار فوران الشيء المختنق إذا حبس عن الاسترسال فكذلك القلب المشحون بالحقد والبخل والحسد والغضب وسائر الأخلاق الذميمة إنما تتفجر منه خبائثه إذا حرك .
وعن هذا كان السالكون لطريق الآخرة الطالبون لتزكيه القلوب يجربون أنفسهم .
فمن كان يستشعر في نفسه كبرا سعى في إماطته حتى كان بعضهم يحمل قربة ماء على ظهره بين الناس أو حزمة حطب على رأسه ويتردد في الأسواق ليجرب نفسه بذلك فإن غوائل النفس ومكايد الشيطان خفية قل من يتفطن لها ولذلك حكي عن بعضهم انه قال اعدت صلاة ثلاثين سنة مع أني كنت أصليها في الصف الأول ولكن تخلفت يوما بعذر فما وجدت موضعا في الصف الأول فوقفت في الصف الثاني فوجدت نفسي تستشعر خجلة من نظر الناس إلي وقد سبقت إلى الصف الأول فعلمت أن جميع صلواتي التي كنت أصليها كانت مشوبة بالرياء ممزوجة بلذة نظر الناس إلى ورؤيتهم إياي في زمرة السابقين إلى الخير .
فالمخالطة لها فائدة ظاهرة عظيمة في استخراج الخبائث وإظهارها .
ولذلك قيل السفر يسفر عن الأخلاق فإنه نوع من المخالطة الدائمة .
وستأتي غوائل هذه المعاني ودقائقها في ربع المهلكات فإن بالجهل بها يحبط العمل الكثير وبالعلم بها يزكو العمل القليل ولولا ذلك ما فضل العلم على العمل إذ يستحيل أن يكون العلم بالصلاة ولا يراد للصلاة إلا أفضل من الصلاة فإنا نعلم أن ما يراد لغيره فإن ذلك الغير أشرف منه وقد قضى الشرع بتفضيل العالم على العابد حتى قال A فضل العالم على العابد كفضلى على أدنى رجل من أصحابي // حديث فضل العالم على العابد كفضلي على أدنى رجل من أصحابي تقدم في العلم // .
فمعنى تفضيل العلم يرجع إلى ثلاثة اوجه .
أحدها ما ذكرناه .
والثاني عموم النفع لتعدي فائدته والعمل لا تتعدى فائدته .
والثالث أن يراد به العلم بالله وصفاته وأفعاله فذلك أفضل من كل عمل بل مقصود الأعمال صرف القلوب عن الخلق إلى الخالق لتنبعث بعد الانصراف إليه لمعرفته ومحبته فالعمل وعلم العمل مرادان لهذا العلم وهذا العلم غاية المريدين والعمل كالشرط له وإليه الإشارة بقوله تعالى إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه فالكلم الطيب هو هذا العلم والعمل كالحمال الرافع له إلى مقصده فيكون المرفوع أفضل من الرافع .
وهذا كلام معترض لا يليق بهذا الكلام .
فلنرجع إلى المقصود فنقول إذا عرفت فوائد العزلة وغوائلها تحققت أن الحكم عليها مطلقا بالتفضيل نفيا وإثباتا خطأ بل ينبغي أن ينظر إلى الشخص وحاله وإلى الخليط وحاله وإلى الباعث على مخالطته وإلى الفائت بسبب مخالطته من هذه الفوائد المذكورة ويقاس الفائت بالحاصل فعند ذلك يتبين الحق ويتضح الأفضل وكلام الشافعي C هو فصل الخطاب إذ قال يا يونس الإنقباض عن الناس مكسبة للعداوة والإنبساط إليهم مجلبة لقرناء السوء فكن بين المنقبضوالمنبسط .
فلذلك يجب الاعتدال في المخالطة والعزلة ويختلف ذلك بالاحوال .
وبملاحظة الفوائد والآفات يتبين الأفضل .
هذا هو الحق الصراح وكل ما ذكر سوى هذا فهو قاصر .
وإنما هو إخبار كل واحد عن حالة خاصة هو فيها ولا يجوز أن يحكم بها على غيره والمخالف له في الحال .
والفرق بين العالم والصوفي في ظاهر العلم يرجع إلى هذا وهو أن الصوفي لا يتكلم إلا عن حاله فلا جرم تختلف اجوبتهم في المسائل والعالم هو الذي يدرك الحق على ما هو عليه ولا ينظر إلى حال نفسه فيكشف الحق فيه وذلك مما لا يختلف فيه فإن الحق واحد أبداوالقاصر عن الحق كثير لا يحصى .
ولذلك سئل الصوفية عن الفقر فما من واحد إلا وأجاب بجواب غير جواب الآخر وكل ذلك حق