وإنما الوازع عنه شدة وقعه في القلب فإذا صار مستصغرا بطول المشاهدة أوشك أن تنحل القوة الوازعة ويذعن الطبع للميل إليه أو لما دونه .
ومهما طالت مشاهدته للكبائر من غيره استحقر الصغائر من نفسه ولذلك يزدري الناظر إلى الأغنياء نعمة الله عليه فتؤثر مجالستهم في أن يستصغر ما عنده وتؤثر مجالسة الفقراء في استعظام ما أتيح له من النعم .
وكذلك النظر إلى المطيعين والعصاة هذا تأثيره في الطبع من يقصر نظره على ملاحظة أحوال الصحابة والتابعين في العبادة والتنزه عن الدنيا فلا يزال ينظر إلى نفسه بعين الاستصغار وإلى عبادته بعين الاستحقار وما دام يرى نفسه مقصرا فلا يخلو عن داعية الاجتهاد رغبة في الاستكمال واستتماما للاقتداء .
ومن نظر إلى الأحوال الغالبة على أهل الزمان وإعراضهم عن الله وإقبالهم على الدنيا واعتيادهم المعاصي استعظم أمر نفسه بأدنى رغبة في الخير يصادفها في قلبه وذلك هو الهلاك .
ويكفي في تغيير الطبع مجرد سماع الخير والشر فضلا عن مشاهدته .
وبهذه الدقيقة يعرف سر قوله A عند ذكر الصالحين تنزل الرحمة // حديث عند ذكر الصالحين تنزل الرحمة ليس له أصل في الحديث المرفوع وإنما هو من قول سفيان ابن عيينة كذا رواه ابن الجوزي في مقدمة صفوة الصفوة // .
وإنما الرحمة دخول الجنة ولقاء الله وليس ينزل عند الذكر عين ذلك ولكن سببه وهو انبعاث الرغبة من القلب وحركة الحرص على الاقتداء بهم والاستنكاف عما هو ملابس له من القصور والتقصير .
ومبدأ الرحمة فعل الخير ومبدأ فعل الخير الرغبة ومبدأ الرغبة ذكر أحوال الصالحين فهذا معنى نزول الرحمة .
والمفهوم من فحوى هذا الكلام عند الفطن كالمفهوم من عكسه وهو أن عند ذكر الفاسقين تنزل اللعنة لأن كثرة ذكرهم تهون على الطبع أمر المعاصي واللعنة هي البعد .
ومبدأ البعد من الله هو المعاصي والإعراض عن الله بالإقبال على الحظوظ العاجلة والشهوات الحاضرة لا على الوجه المشروع .
ومبدأ المعاصي سقوط ثقلها وتفاحشها عن القلب .
ومبدأ سقوط الثقل وقوع الأنس بها بكثرة السماع .
إذا كان هذا حال ذكر الصالحين والفاسقين فما ظنك بمشاهدتهم بل قد صرح بذلك رسول الله A حيث قال مثل الجليس السوء كمثل الكير إن لم يحرقك بشرره علق بك من ريحه // حديث مثل الجليس السوء كمثل الكير الحديث متفق عليه من حديث أبي موسى // .
فكما أن الريح يعلق بالثوب ولا يشعر به فكذلك يسهل الفساد على القلب وهو لا يشعر به .
وقال مثل الجليس الصالح مثل صاحب المسك إن لم يهب لك منه تجد ريحه ولهذا أقول من عرف من عالم زلة حرم عليه حكايتها لعلتين إحداهما أنها غيبة والثانية وهي أعظمهما .
أن حكايتها تهون على المستمعين أمر تلك الزلة ويسقط من قلوبهم استعظامهم الإقدام عليها فيكون ذلك سببا لتهوين تلك المعصية فإنه مهما وقع فيها فاستنكر ذلك دفع الاستنكار وقال كيف يستبعد هذا منا وكلنا مضطرون إلى مثله حتى العلماء والعباد ولو اعتقد أن مثل ذلك لا يقدم عليه عالم ولا يتعاطاه موفق معتبر لشق عليه الإقدام فكم من شخص يتكالب على الدنيا ويحرص عل جمعها ويتهالك على حب الرياسة وتزيينها ويهون على نفسه قبحها ويزعم أن الصحابة Bهم لم ينزهوا أنفسهم عن حب الرياسة وربما يستشهد عليه بقتال علي ومعاوية ويخمن في نفسه أن ذلك لم يكن لطلب الحق بل لطلب الرياسة فهذا الاعتقاد خطأ يهون عليه أمر الرياسة ولوازمها من المعاصي .
والطبع اللئيم يميل إلى اتباع الهفوات والإعراض عن الحسنات بل إلى تقدير الهفوة فيما لا هفوة فيه بالتنزيل على مقتضى الشهوة ليتعلل به وهو من دقائق مكايد الشيطان ولذلك وصف الله المراغمين للشيطان فيها بقوله الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه وضرب A لذلك مثلا وقال مثل الذي يجلس يستمع الحكمة ثم لا يعمل إلا بشر ما يستمع كمثل رجل أتى راعيا فقال له يا راعي اجرر لي شاة من غنمك فقال اذهب فخذ خير شاة فيها فذهب