و السعادة في الآخرة فهو وسيلة إليهما فهو محب في الله وليس من شرط حب الله أن لا يحب في العاجل حظا ألبتة إذ الدعاء الذي أمر به الأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه فيه جمع بين الدنيا و الآخرة ومن ذلك قولهم ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقال عيسى عليه السلام في دعائه اللهم لا تشمت بي عدوي ولا تسؤ بي صديقي ولا تجعل مصيبتي لديني ولا تجعل الدنيا أكبر همى فدفع شماتة الأعداء من حظوظ الدنيا ولم يقل ولا تجعل الدنيا أصلا من همى بل قال لا تجعلها أكبر همى .
وقال نبينا A في دعائه اللهم إني أسألك رحمة أنال بها شرف كرامتك في الدنيا و الآخرة // حديث اللهم إني أسألك رحمة أنال بها شرف كرامتك في الدنيا و الآخرة أخرجه الترمذي من حديث ابن عباس في الحديث الطويل في دعائه A بعد صلاة الليل وقد تقدم // .
وقال اللهم عافني من بلاء الدنيا وبلاء الآخرة // حديث اللهم عافني من بلاء الدنيا وعذاب الآخرة أخرجه أحمد من حديث بشر بن أبي أرطاة نحوه بسند جيد // .
وعلى الجملة فإذا لم يكن حب السعادة في الآخرة مناقضا لحب الله تعالى فحب السلامة و الصحة و الكفاية و الكرامة في الدنيا كيف يكون مناقضا لحب الله و الدنيا و الآخرة عبارة عن حالتين إحداهما أقرب من الأخرى فكيف يتصور أن يحب الإنسان حظوظ نفسه غدا ولا يحبها اليوم وإنما يحبها غدا لأن الغد سيصير حالا راهنة فالحالة الراهنة لا بد إلا أن تكون مطلوبة أيضا إلا أن الحظوظ العاجلة منقسمة إلى ما يضاد حظوظ الآخرة ويمنع منها وهي التي احترز عنها الأنبياء و الأولياء وأمروا بالاحتراز عنها و إلى ما لا يضاد وهي التي لم يمتنعوا منها كالنكاح الصحيح وأكل الحلال وغير ذلك فما يضاد حظوظ الآخرة فحق العاقل أن يكرهه ولا يحبه أعني أن يكرهه بعقله لا بطبعه كما يكره التناول من طعام لذيذ لملك من الملوك يعلم أنه لو أقدم عليه لقطعت يده أو حزت رقبته لا بمعنى أن الطعام اللذيذ يصير بحيث لا يشتهيه بطبعه ولا يستلذه لو أكله فإن ذلك محال ولكن على معنى أنه يزجره عقله عن الإقدام عليه وتحصل فيه كراهة الضرر المتعلق به .
و المقصود من هذا أنه لو أحب أستاذه لأنه يواسيه ويعلمه أو تلميذه لأنه يتعلم منه ويخدمه وأحدهما حظ عاجل و الآخر آجل لكان في زمرة المتحابين في الله ولكن بشرط واحد وهو أن يكون بحيث لو منعه العلم مثلا أو تعذر عليه تحصيله منه لنقص حبه بسببه فالقدر الذي ينقص بسبب فقده هو لله تعالى وله على ذلك القدر ثواب الحب في الله وليس بمستنكر أن يشتد حبك لإنسان لجملة أغراض ترتبط لك به فإن امتنع بعضها نقص حبك وإن زاد زاد الحب فليس حبك الذهب كحبك للفضة إذا تساوى مقدارهما لأن الذهب يوصل إلى أغراض هي أكثر مما توصل إليه الفضة فإذن يزيد الحب بزيادة الغرض ولا يستحيل اجتماع الأغراض الدنيوية و الأخروية فهو داخل في جملة الحب لله .
وحده هو أن كل حب لولا الإيمان بالله و اليوم الآخر لم يتصور وجوده فهو حب في الله وكذلك كل زيادة في الحب لولا الإيمان بالله لم تكن تلك الزيادة فتلك الزيادة من الحب في الله فذلك وان دق فهو عزيز .
قال الجريري تعامل الناس في القرن الأول بالدين حتى رق الدين وتعاملوا في القرن الثاني بالوفاء حتى ذهب الوفاء وفي الثالث بالمروءة حتى ذهبت المروءة ولم يبق إلا الرهبة و الرغبة .
القسم الرابع أن يحب لله وفي الله لا لينال منه علما أو عملا أو يتوسل به إلى أمر وراء ذاته وهذا أعلى الدرجات وهو أدقها وأغمضها وهذا القسم أيضا ممكن فإن من آثار غلبة الحب أن يتعدى من المحبوب إلى كل من يتعلق بالمحبوب ويناسبه ولو من بعد فمن أحب إنسانا حبا شديدا أحب محب ذلك الإنسان وأحب محبوبه وأحب من يخدم من يخدمه وأحب من يثنى عليه محبوبه وأحب من يتسارع إلى رضا محبوبه حتى قال بقية بن الوليد أن المؤمن إذا أحب المؤمن أحب كلبه وهو كما قال ويشهد له التجربة في أحوال العشاق ويدل عليه أشعار الشعراء ولذلك يحفظ