العمومات لا صيغ لها وإنما يحتج بما فهمه الصحابة منها بالقرائن والدلالات وكل ذلك وسواس .
فإذن لا طرف من أطراف الشبهات إلا وفيها غلو وإسراف فليفهم ذلك .
ومهما أشكل أمر من هذه الأمور فليستفت فيه القلب وليدع الورع ما يريبه إلى ما لا يربيه وليترك حزاز القلوب وحكاكات الصدور وذلك يختلف بالأشخاص والوقائع ولكن ينبغي أن يحفظ قلبه عن دواعي الوسواس حتى لا يحكم إلا بالحق فلا ينطوي على حزازة في مظان الوسواس ولا يخلو عن الحزازة في مظان الكراهة وما أعز مثل هذا القلب ولذلك لم يرد عليه السلام كل أحد إلى فتوى القلب وإنما قال ذلك لوابصة لما كان قد عرف من حاله // حديث : لم يرد كل أحد إلى فتوى قلبه وإنما قال ذاك لوابصة وتقدم حديث وابصة وروى الطبراني من حديث واثلة أنه قال ذلك لواثلة أيضا وفيه العلاء بن ثعلبة مجهول // .
القسم الثاني : تعارض العلامات الدالة على الحل والحرمة فإنه قد ينهب نوع من المتاع في وقت ويندر وقوع مثله من غير النهب فيرى مثلا في يد رجل من أهل الصلاح فيدل صلاحه على أنه حلال ويدل نوع المتاع وندوره من غير المنهوب على أنه حرام فيتعارض الأمران .
وكذلك يخبر عدل أنه حرام وآخر أنه حلال أو تتعارض شهادة فاسقين أو قول صبي وبالغ فإن ظهر ترجيح حكم به والورع الاجتناب وإن لم يظهر ترجيح وجب التوقف وسيأتي تفصيله في باب التعرف والبحث والسؤال .
القسم الثالث : تعارض الأشباه في الصفات التي تناط بها الأحكام .
مثاله أن يوصى بمال للفقهاء فيعلم أن الفاضل في الفقه داخل فيه وأن الذي ابتدأ التعلم من يوم أو شهر لا يدخل فيه وبينهما درجات لا تحصى يقع الشك فيها فالمفتي يفتي بحسب الظن والورع الاجتناب وهذ أغمض مثارات الشبهة فإن فيها صورا يتحير المفتي فيها تحيرا لازما لا حيلة له فيه إذ يكون المتصف بصفة في درجة متوسطة بين الدرجتين المتقابلتين لا يظهر له ميله إلى أحدهما .
وكذلك الصدقات المصروفة إلى المحتاجين فإن مما لا شيء له معلوم أنه محتاج ومن له مال كثير معلوم أنه غني ويتصد بينهما مسائل غامضة كمن له دار وأثاث وثياب وكتب فإن قدر الحاجة منه لا يمنع من الصرف إليه والفاضل يمنع والحاجة ليست محدودة وإنما تدرك بالتقريب ويتعدى منه النظر في مقدار سعة الدار وأبنيتها ومقدار قيمتها لكونها في وسط البلد ووقوع الاكتفاء بدار دونها وكذلك في نوع أثاث البيت إذا كان من الصفر لا من الخزف وكذلك في عددها وكذلك في قيمتهما وكذلك فيما لا يحتاج إليه كل يوم وما يحتاج إليه كل سنة من آلات الشتاء وما لا يحتاج إليه إلا في سنين وشيء من ذلك لا حد له .
والوجه في هذا ما قاله عليه السلام دع ما يريبك إلى ما لا يريبك // حديث : دع ما يريبك إلى ما لا يريبك تقدم في باب قبله // .
كل ذلك في محل الريب إن توقف المفتي فلا وجهه إلا التوقف وهو أهم مواقع الورع .
وكذلك ما يجب بقدر الكفاية من نفقة الأقارب وكسوة الزوجات وكفاية الفقهاء والعلماء على بيت المال إذ فيه طرفان يعلم أن أحدهما قاصر وأن الآخر زائد وبينهما أمور متشابهة تختلف باختلاف الشخص والحال .
والمطلع على الحاجات هو الله تعالى وليس للبشر وقوف على حدودها فما دون الرطل المكي في اليوم قاصر عن كفاية الرجل الضخم وما فوق ثلاثة أرطال زائد على الكفاية وما بينهما لا يتحقق له حد .
فليدع الورع ما يريبه وهذا جار في كل حكم نيط السبب يعرف ذلك بلفظ العرب إذ العرب وسائر أهل اللغات لم يقدروا متضمنات اللغات بحدود محدودة تنقطع أطرافها عن مقابلاتها كلفظ الستة فإنه لا يحتمل ما دونها وما فوقها من الأعداد وسائر ألفاظ الحساب والتقديرات فليست الألفاظ اللغوية كذلك فلا لفظ في كتاب الله وسنة رسول الله