ولا ظلم وقت النيل ولا وقت الضرب في دار الضرب ولا بعده في معاملات الصرف والربا بعيد نادر أو محال فلا يبقي إذن حلال إلا الصيد والحشيش في الصحارى الموات والمفاوز والحطب المباح ثم من يحصله لا يقدر على أكله فيفتقر إلى أن يشتري به الحبوب والحيوانات التي لا تحصل إلا بالإستنبات والتوالد فيكون قد بذل حلالا في مقابلة حرام فهذا هو أشد الطرق تخيلا .
والجواب أن هذه الغلبة لم تنشأ من كثرة الحرام المخلوط بالحلال فخرج عن النمط الذي نحن فيه والتحق بما ذكرناه من قبل وهو تعارض الأصل والغالب إذ الأصل في هذه الأموال قبولها للتصرفات وجواز التراضي عليها وقد عارضه سبب غالب يخرجه عن الصلاح له فيصاهي هذا محل القولين للشافعي Bه في حكم النجاسات والصحيح عندنا أنه تجوز الصلاة في الشوارع إذا لم يجد فيها نجاسة فإن طين الشوارع طاهر وأن الوضوء من أواني المشركين جائز وأن الصلاة في المقابر المنبوشة جائزة فثبت هذا أولاثم نقيس ما نحن فيه عليه ويدل على ذلك توضؤ رسول الله A من مزادة مشركة وتوضؤ عمر Bه من جرة نصرانية مع أن مشربهم الخمر ومطعمهم الخنزير ولا يحترزون عما نجسه شرعنا فكيف تسلم أوانيهم من أيديهم بل نقول نعلم قطعا أنهم كانوا يلبسون الفراء المدبوغة والثياب المصبوغة والمقصورة ومن تأمل أحول الدباغين والقصارين والصباغين علم أن الغالب عليهم النجاسة وأن الطهارة في تلك الثياب محال أو نادر بل نقول نعلم أنهم كانوا يأكلون خبز البر والشعير ولا يغسلونه مع أنه يداس بالبقر والحيوانات وهي تبول عليه وتروث وقلما يخلص منها وكانوا يركبون الدواب وهي تعرق وما كانوا يغسلون ظهورها مع كثرة تمرغها في النجاسات بل كل دابة تخرج من بطن أمها وعليها رطوبات نجسة قد تزيلها الأمطار وقد لا تزيلها وما كان يحترز عنها وكانوا يمشون حفاة في الطرق وبالنعال ويصلون معها ويجلسون على التراب ويمشون في الطين من غير حاجة وكانوا لا يمشون في البول والعذرة ولا يجلسون عليهما ويستنزهون منه ومتى تسلم الشوارع عن النجاسات مع كثرة الكلاب وأبوالها وكثرة الدواب وأرواثها ولا ينبغي أن نظن أن الأعصار أو الأمصار تختلف في مثل هذا حتى يظن أن الشوارع كانت تغسل في عصرهم أو كانت تحرس من الدواب هيهات فذلك معلوم استحالته بالعادة قطعا فدل على أنهم لم يحترزوا إلا من نجاسة مشاهدة أو علامة على النجاسة دالة على العين .
فأما الظن الغالب الذي يستثار من رد الدراهم إلى مجاري الأحوال فلم يعتبروه وهذا عند الشافعي C وهو يرى أن الماء القليل ينجس من غير تغير واقع إذ لم يزل الصحابة يدخلون الحمامات ويتوضئون من الحياض وفيها المياه القليلة والأيدي المختلفة تغمس فيها على الدوام وهذا قاطع في هذا الغرض ومهما ثبت جواز التوضؤ من جرة نصرانية ثبت جواز شربه والتحق حكم الحل بحكم النجاسة .
فإن قيل لا يجوز قياس الحل على النجاسة إذ كانوا يتوسعون في أمور الطهارات ويحترزون من شبهات الحرام غاية التحرز فكيف يقاس عليها قلنا إن أريد به أنهم صلوا معها مع النجاسة والصلاة معصية وهي عماد الدين فبئس الظن بل يجب أن نعتقد فيهم أنهم احترزوا عن كل نجاسة وجب اجتنابها وإنما تسامحوا حيث لم يجب وكان في محل تسامحهم هذه الصورة التي تعارض فيها الأصل والغالب فبان أن الغالب الذي لا يستند إلى علامة تتعلق بعين ما فيه النظر مطرح وأما تورعهم في الحلال فكان بطريق التقوى وهو ترك ما لا بأس به مخافة ما به بأس لأن أمر الأموال مخوف والنفس تميل إليها إن لم تضبط عنها وأمر الطهارة ليس كذلك فقد امتنع طائفة منهم عن الحلال المحض خيفة أن يشغل قلبه وقد حكى عن واحد منهم أنه احترز من الوضوء بماء البحر وهو الطهور المحض فالافتراق في ذلك لا يقدح في الغرض الذي أجمعنا فيه على أنا نجري في هذا المستند