فيخرج من هذا التقسيم ثلاثة أقسام .
القسم الأول أن تستبهم العين بعدد محصور كما لو اختلطت الميتة بمذكاة أو بعشر مذكيات أو اختلطت رضيعة بعشر نسوة أو يتزوج إحدى الأختين ثم تلتبس فهذه شبهة يجب اجتنابها بالإجماع لأنه لا مجال للاجتهاد والعلامات في هذا وإذا اختلطت بعدد محصور صارت الجملة كالشيء الواحد فتقابل فيه يقين التحريم والتحليل ولا فرق في هذا بين أن يثبت حل فيطرأ اختلاط بمحرم كما لو أوقع الطلاق على إحدى زوجتين في مسئلة الطائر أو يختلط قبل الاستحلال كما لو اختلطت رضيعة بأجنبية فأراد استحلال واحدة وهذا قد يشكل في طريان التحريم كطلاق إحدى الزوجتين لما سبق من الاستصحاب .
وقد نبهنا على وجه الجواب وهو أن يقين التحريم قابل يقين الحل فضعف الاستصحاب وجانب الحظر أغلب في نظر الشرع فلذلك ترجح وهذا إذا اختلط حلال محصور بحرام محصور .
فإن اختلط حلال محصور بحرام غير محصور فلا يخفي أن وجوب الاجتناب أولى .
القسم الثاني حرام محصور بحلال غير محصور كما لو اختلطت رضيعة أو عشر رضائع بنسوة بلد كبير فلا يلزم بهذا اجتناب نكاح نساء أهل البلد بل له أن ينكح من شاء منهن وهذا لا يجوز أن يعلل بكثرة الحلال إذ يلزم عليه أن يجوز النكاح إذا اختلطت واحدة حرام بتسع حلال ولا قائل به بل العله الغلبة والحاجة جميعا إذ كل من ضاع له رضيع أو قريب أو محرم بمصاهرة أو سبب من الأسباب فلا يمكن أن يسد عليه باب النكاح وكذلك من علم أن مال الدنيا خالطه حرام قطعا لا يلزمه ترك الشراء والأكل فإن ذلك حرج وما في الدين من حرج .
ويعلم هذا بأنه لما سرق في زمان رسول الله A مجن // حديث سرقه المجن في زمان رسول الله A متفق عليه من حديث ابن عمر أن رسول الله A قطع سارقا في مجن قيمته ثلاثة دراهم // .
وغل واحد في الغنيمة عباءة // حديث غل واحد من الغنائم عباءة رواه البخاري من حديث عبد الله ابن عمر واسم الغال كركرة // .
لم يمتنع أحد من شراء المجان والعباء في الدنيا وكذلك كل ما سرق وكذلك كان يعرف أن في الناس من يربى في الدراهم والدنانير .
وما ترك رسول الله A ولا الناس الدراهم والدنانير بالكلية // حديث إن في الناس من كان يربى في الدراهم والدنانير وما ترك رسول الله A ولا الناس الدراهم بالكلية هذا معروف وسيأتي حديث جابر بعده بحديث وهو يدل على ذلك // .
وبالجملة إنما تنفك الدنيا عن الحرام إذا عصم الخلق كلهم عن المعاصي وهو محال .
وإذا لم يشترط هذا في الدنيا لم يشترط أيضا في بلد إلا إذا وقع بين جماعة محصورين بل اجتناب هذا من ورع الموسوسين إذا لم ينقل ذلك عن رسول الله A ولا عن أحد من الصحابة ولا يتصور الوفاء به في ملة من الملل ولا في عصر من الأعصار .
فإن قلت فكل عدد محصور في علم الله .
فما حد المحصور ولو أراد الإنسان أن يحصر أهل بلد لقدر عليه أيضا إن تمكن منه فاعلم أن تحديد أمثال هذه الأمور غير ممكن وإنما يضبط بالتقريب .
فنقول كل عدد لو اجتمع على صعيد واحد لعسر على الناظر عدهم بمجرد النظر كالألف والألفين فهو غير محصور وما سهل كالعشرة والعشرين فهو محصور وبين الطرفين أوساط متشابهة تحلق بأحد الطرفين بالظن وما وقع الشك فيه أستفتى فيه القلب فإن الإثم حزاز القلوب .
وفي مثل هذا المقام قال رسول الله A لوابصة استفت قلبك وإن أفتوك وأفتوك وأفتوك // حديث استفت قلبك وإن أفتوك وأفتوك وأفتوك قاله لوابصة تقدم // .
وكذا الأقسام الأربعة التي ذكرناها في المثال الأول يقع فيها أطراف متقابلة واضحة في النفي والإثبات وأوساط متشابهة فالمفتى يفتى بالظن وعلى المستفتي أن يستفتي