فقد كان المسجد يحوى في زمن الصحابة رضي الله تعالى عنهم جميعا من أصحاب رسول الله A كلهم مفتون وكانوا يتدافعون الفتوى .
وكل من كان يفتى كان يود أن يكفيه غيره .
وعند هذا ينبغي أن يتقى شياطين الإنس إذا قالوا لا تفعل هذا فإن هذا الباب لو فتح لاندرست العلوم من بين الخلق وليقل لهم إن دين الإسلام مستغن عني فإنه قد كان معمورا قبلي وكذلك يكون بعدي ولو مت لا تنهدم أركان الإسلام فإن الدين مستغن عني وأما أنا فلست مستغنيا عن إصلاح قلبي .
وأما أداء ذلك إلى اندارس العلم فخيال يدل على غاية الجهل فإن الناس لو حبسوا في السجن وقيدوا بالقيود وتوعدوا بالنار على طلب العلم لكان حب الرياسة والعلو يحملهم على كسر القيود وهدم حيطان الحصون والخروج منها والاشتغال بطلب العلم .
فالعلم لا يندرس ما دام الشيطان يحبب إلى الخلق الرياسة والشيطان لا يفتر عن عمله إلى يوم القيامة .
بل ينتهض لنشر العلم أقوام لا نصيب لهم في الآخرة كما قال رسول الله A إن الله يؤيد هذا الدين بأقوام لا خلاق لهم // حديث ان الله يؤيد هذا الدين بأقوام لا خلاق لهم تقدم // و إن الله ليؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر // حديث ان الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر تقدم أيضا في العلم // فلا ينبغي أن يغتر العالم بهذه التلبيسات فيشتغل بمخالطة الخلق حتى يتربي في قلبه حب الجاه والثناء والتعظيم فإن ذلك بذر النفاق .
قال A حب الجاه والمال ينبت النفاق في القلب كما ينبت الماء البقل // حديث حب المال والجاه ينبت النفاق في القلب الحديث تقدم // وقال رسول الله A ما ذئبان ضاريان أرسلا في زريبة غنم بأكثر إفساد فيها من حب الجاه والمال في دين المرء المسلم // حديث ما ذئبان جائعان أرسلا في زريبة غنم الحديث تقدم // ولا ينقلع حب الجاه من القلب إلا بالاعتزال عن الناس والهرب من مخالطتهم وترك كل ما يزيد جاهه في قلوبهم .
فليكن فكر العالم في التفطن لخفايا هذه الصفات من قلبه وفي استنباط طريق الخلاص منها وهذه وظيفة العالم المتقي .
فأما أمثالنا فينبغي أن يكون تفكرنا فيما يقوي إيماننا بيوم الحساب إذ لو رآنا السلف الصالحون لقالوا قطعا إن هؤلاء لا يؤمنون بيوم الحساب فما أعمالنا أعمال من يؤمن بالجنة والنار فإن من خاف شيئا هرب منه ومن رجا شيئا طلبه وقد علمنا أن الهرب من النار بترك الشبهات والحرام وبترك المعاصي ونحن منهمكون فيها وأن طلب الجنة بتكثير نوافل الطاعات ونحن مقصرون في الفرائض منها .
فلم يحصل لنا من ثمرة العلم إلا أنه يقتدى بنا في الحرص على الدنيا والتكالب عليها ويقال لو كان هذا مذموما لكان العلماء أحق وأولى باجتنابه منا .
فليتنا كنا كالعوام إذا متنا ماتت معنا ذنوبنا .
فما أعظم الفتنة التى تعرضنا لها لو تفكرنا فنسأل الله تعالى أن يصلحنا ويصلح بنا ويوفقنا للتوبة قبل أن يتوفانا إنه الكريم اللطيف بنا المنعم علينا .
فهذه مجاري أفكار العلماء والصالحين في علم المعاملة فإن فرغوا منها انقطع التفاتهم عن أنفسهم وارتقوا منها إلى التفكر في جلال الله وعظمته والتنعم بمشاهدته بعين القلب ولا يتم ذلك إلا بعد الانفكاك من جميع المهلكات والاتصاف بجميع المنجيات وإن ظهر شيء منه قبل ذلك كان مدخولا معلولا مكدرا مقطوعا وكان ضعيفا كالبرق الخاطف لا يثبت ولا يدوم ويكون كالعاشق الذي خلا بمعشوقه ولكن تحت ثيابه حيات وعقارب تلدغه مرة بعد أخرى فتنغص عليه لذة المشاهدة ولا طريق له في كمال التنعم إلا بإخراج العقارب والحيات من ثيابه .
وهذه الصفات المذمومة عقارب وحيات وهي مؤذيات ومشوشات وفي القبر يزيد ألم لدغها على