فقال من الانس بالله وفي أخبار داود عليه السلام لا تستأنس الى احد من خلقي فإني إنما أقطع عني رجلين رجل استبطأ ثوابي فانقطع ورجلا نسيني فرضي بحاله وعلامة ذلك أن أكله الى نفسه وأن أدعه في الدنيا حيران ومهما أنس بغير الله كان بقدر أنسه بغير الله مستوحشا من الله تعالى ساقطا عن درجة محبته وفي قصة برخ وهو العبد الاسود الذي استسقى به موسى عليه السلام أن الله تعالى قال لموسى عليه السلام إن برخا نعم العبد هو لي الا أن فيه عيبا قال يارب وما عيبه فقال يعجبه نسيم الاسحار فيسكن اليه ومن أحبني لم يسكن الى شيء وروى أن عابدا عبد الله تعالى في غيضة دهرا طويلا فنظر الى طائر وقد عشش في شجرة يأوى اليها ويصفر عندها فقال لو حولت مسجدي الى تلك الشجرة فكنت آنس بصوت هذا الطائر قال : ففعل فأوحى الله تعالى الى نبى ذلك الزمان قل لفلان العابد استأنست بمخلوق لاحطنك درجة لا تنالها بشيء من عملك ابدا .
فإذن علامة المحبة كمال الانس بمناجاة المحبوب وكمال التنعم بالخلوة به وكمال الاستيحاش من كل ما ينغص عليه الخلوة ويعوق عن لذة المناجاة وعلامة الانس مصير العقل والفهم كله مستغرقا بلذة المناجاة كالذي يخاطب معشوقه ويناجيه وقد انتهت هذه اللذة ببعضهم حتى كان في صلاته ووقع الحريق في داره فلم يشعر به وقطعت رجل بعضهم بسبب علة اصابته وهو في الصلاة فلم يشعر به ومهما غلب عليه الحب والانس صارت الخلوة والمناجاة قرة عينه يدفع بها جميع الهموم بل يستغرق الانس والحب قلبه حتى لا يفهم أمور الدنيا ما لم تكرر على سمعه مرارا مثل العاشق الولهان فانه يكلم الناس بلسانه وأنسه في الباطن بذكر حبيبه فالمحب من لا يطمئن الا بمحبوبه وقال قتادة في قوله تعالى الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب قال هشت اليه واستأنست به وقال الصديق رضي الله تعالى عنه من ذاق من خالص محبة الله شغله ذلك عن طلب الدنيا وأوحشه عن جميع البشر .
وقال مطرف بن أبي بكر : الحب لا يسأم من حديث حبيبه وأوحى الله تعالى الى داود عليه السلام قد كذب من ادعى محبتي اذا جنه الليل نام عني أليس كل محب يحب لقاء حبيبه فها أنا ذا موجود لمن طلبني وقال موسى عليه السلام يا رب أين أنت فأقصدك فقال اذا قصدت فقد وصلت وقال يحيى بن معاذ من أحب الله أبغض نفسه وقال أيضا من لم تكن فيه ثلاث خصال فليس بمحب يؤثر كلام الله تعالى على كلام الخلق ولقاء الله تعالى على لقاء الخلق والعبادة على خدمة الخلق ومنها أن لا يتأسف على مما يفوته ما سوى الله D ويعظم تأسفه على فوت كل ساعة خلت عن ذكر الله تعالى وطاعته فيكثر رجوعه عند الغفلات بالاستعطاف والاستعتاب والتوبة قال بعض العارفين إن لله عبادا احبوه واطمأنوا اليه فذهب عنهم التأسف على الفائت فلم يتشاغلوا بحظ أنفسهم إذ كان ملك مليكهم تاما وما شاء كان فما كان لهم فهو واصل اليهم وما فاتهم فبحسن تدبيره لهم وحق المحب اذا رجع من غفلته في لحظته أن يقبل على محبوبه ويشتغل بالعتاب ويسأله ويقول رب باي ذنب قطعت برك عني وأبعدتني عن حضرتك وشغلتني بنفسي وبمتابعة الشيطان فيستخرج ذلك منه صفاء ذكر ورقة قلب يكفر عنه ما سبق من الغفلة وتكون هفوته سببا لتجدد ذكره وصفاء قلبه ومهما لم ير المحب الا المحبوب ولم ير شيئا الا منه لم يتأسف ولم يشك واستقبل الكل بالرضا وعلم أن المحبوب لم يقدر له الا ما فيه خيرته ويذكر قوله وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم .
ومنها أن يتنعم بالطاعة ولا يستثقلها ويسقط عنه تعبها كما قال بعضهم كابدت الليل عشرين سنة ثم تنعمت به