فهذه سياقة نعمة الله عليك فى الإدراكات ولا تظنن أنا استوفيناها فإن الحواس الظاهرة هى بعض الإدراكات والبصر واحد من جملة الحواس والعين آلة واحدة له وقد ركبت العين من عشر طبقات مختلفة بعضها رطوبات وبعضها أغشية وبعض الأغشية كأنها نسج العنكوب وبعضها كالمشيمة وبعض تلك الرطوبات كأنه بياض البيض وبعضها كأنه الجمد ولكل واحدة من هذه الطبقات العشر صفة وصورة وشكل وهيئة وعرض وتدوير وتركيب ولو اختلت طبقة واحدة من جملة العشر أو صفة واحدة من صفات كل طبقة لاختل البصر وعجز عنه الأطباء والكحالون كلهم فهذا فى حس واحد فقس به حاسة السمع وسائر الحواس بل لا يمكن أن تستوفى حكم الله تعالى وأنواع نعمة فى جسم البصر وطبقاته فى مجلدات كثيرة مع أن جملته لا تزيد على جوزة صغيرة فكيف ظنك بجميع البدن وسائر أعضائه وعجائبه فهذه مرامز إلى نعم الله تعالى بخلق الإدراكات الطرف الثانى فى أصناف النعم فى خلق الإرادات .
اعلم أنه لو خلق لك البصر حتى تدرك به الغذاء من بعد ولم يخلق لك ميل فى الطبع وشوق إليه وشهوة له تستحثك على الحركة لكان البشر معطلا فكم من مريض يرى الطعام وهو أنفع الأشياء له وقد سقطت شهوته فلا يتناوله فيبقى البصر والإدراك معطلا فى حقه فاضطررت إلى أن يكون لك ميل إلى ما يوافقك يسمى شهوة ونفرة عما يخالفك تسمى كراهة لتطلب بالشهوة وتهرب بالكراهة فخلق الله تعالى فيك شهوة الطعام وسلطها عليك ووكلها بك كالمتقاصى الذى يضطرك إلى التناول حتى تتناول وتغتذى فتبقى بالغذاء وهذا مما يشاركك فيه الحيوانات دون النبات ثم هذه الشهوة لو لم تسكن إذا أخذت مقدار الحاجة أسرفت وأهلكت نفسك فخلق الله لك الكراهة عند الشبع لتترك الأكل بها لا كالزرع فإنه لا يزال يجتذب الماء إذا انصب فى أسفله حتى يفسد فيحتاج إلى آدمى يقدر غذاءه بقدر الحاجة فيسقيه مرة ويقطع عنه الماء أخرى وكما خلقت لك هذه الشهوة حتى تأكل فيبقى به بدنك خلق لك شهوة الجماع حتى تجامع فيبقى به نسلك ولو قصصنا عليك عجائب صنع الله تعالى فى خلق الرحم وخلق دم الحيض وتأليف الجنين من المنى ودم الحيض وكيفية خلق الأنثيين والعروق السالكة إليها من الفقار الذى هو مستقر النطفة وكيفية انصباب ماء المرأة من الترائب بواسطة العروق وكيفية انقسام مقعر الرحم إلى قوالب تقع النطفة فى بعضها فتتشكل بشكل الذكور وتقع فى بعضها فتتشكل بشكل الإناث وكيفية إدارتها فى أطوار خلقها مضغة وعلقة ثم عظما ولحما ودما وكيفية قسمة أجزائها إلى رأس ويد ورجل وبطن وظهر وسائر الأعضاء لقضيت من أنواع نعم الله تعالى عليك فى مبدأ خلقك كل العجب فضلا عما تراه الآن ولكنا لسنا نريد أن نتعرض الا لنعم الله تعالى فى الأكل وحده كى لا يطول الكلام فإذن شهوة الطعام أحد ضروب الإرادات وذلك لا يكفيك فإنه تأتيك المهلكات من الجوانب فلو لم يخلق فيك الغضب الذى به تدفع كل ما يضادك ولا يوافقك لبقيت عرضة للآفات ولأخذ منك كل ما حصلته من الغذاء فإن كل واحد يشتهى ما فى يديك فتحتاج إلى داعية فى دفعه ومقاتلته وهى داعية الغضب الذى به تدفع كل ما يضادك ولا يوافقك ثم هذا لا يكفيك إذ الشهوة والغضب لا يدعوان إلى إلا ما يضر وينفع فى الحال وأما فى المآل فلا تكفى فيه هذه الإرادة فخلق الله تعالى لك إرادة أخرى مسخرة تحت إشارة العقل المعرف للعواقب كما خلق الشهوة والغضب مسخرة تحت إدراك الحس المدرك للحالة الحاضرة فتم بها انتفاعك بالعقل إذ كان مجرد المعرفة بأن هذه الشهوة مثلا تضرك لا يغنيك فى الاحتراز عنها ما لم يكن لك ميل إلى العمل بموجب المعرفة وهذه