ناقصا كالدودة لا تقدر على طلب الغذاء من حيث يبعد عنك بل ما يمس فتحس به فتجذبه إلى نفسك فقط فافتقرت إلى حس تدرك به ما بعد عنك فخلق لك الشم إلا أنك تدرك به الرائحة ولا تدرى أنها جاءت من أى ناحية فتحتاج إلى أن تطوف كثيرا من الجوانب فربما تعثر على الغذاء الذى شممت ريحه وربما لم تعثر فتكون فى غاية النقصان لو لم يخلق لك إلا هذا فخلق لك البصر لتدرك به ما بعد عنك وتدرك جهته فتقصد تلك الجهة بعينها إلا أنه لو لم يخلق لك إلا هذا لكنت ناقصا إذ لا تدرك بهذا ما وراء الجدران والحجب فتبصر غذاء ليس بينك وبينه حجاب وتبصر عدوا لا حجاب بينك وبينه وأما ما بينك وبينه حجاب فلا تبصره وقد لا ينكشف الحجاب إلا بعد قرب العدو فتعجز عن الهرب فخلق لك السمع حتى تدرك به الأصوات من وراء الجدران والحجب عند جريان الحركات لأنك لا تدرك بالبصر إلا شيئا حاضرا وأما الغائب فلا يمكنك معرفته إلا بكلام ينتظم من حروف وأصوات تدرك بحس السمع فاشتدت إليه حاجتك فخلق لك ذلك وميزت بفهم الكلام عن سائر الحيوانات وكل ذلك ما كان يغنيك لو لم يكن لك حس الذوق إذ يصل الغذاء إليك فلا تدرك أنه موافق لك أو مخالف فتأكله فتهلك كالشجرة يصب فى أصلها كل مائع ولا ذوق لها فتجذب وربما يكون ذلك سبب جفافها ثم كل ذلك لا يكفيك لو لم يخلق فى مقدمة دماغك إدراك آخر يسمى حسا مشتركا تتأدى إليه هذه المحسوسات الخمس وتجتمع فيه ولولاه لطال الأمر عليك فإنك إذا أكلت شيئا أصفر مثلا فوجدته مرا مخالفا لك فتركته فإذا رأيته مرة أخرى فلا تعرف أنه مر مضر ما لم تذقه ثانيا لو لا الحس المشترك إذ العين تبصر الصفرة ولا تدرك المرارة فكيف تمتنع والذوق يدرك المرارة ولا يدرك الصفرة فلا بد من حاكم تجتمع عنده الصفرة والمرارة جميعا حتى إذا اردت الصفرة حكم أنه مر فيمتنع عن تناوله ثانيا وهذا كله تشاركك فيه الحيوانات إذ للشاة هذه الحواس كلها فلو لم يكن لك إلا هذا لكنت ناقصا فإن البهيمة يحتال عليها فتؤخذ فلا تدرى كيف تدفع الحيلة عن نفسها وكيف تتخلص إذا قيدت وقد تلقى نفسها فى بئر ولا تدرى أن ذلك يهلكها ولذلك قد تأكل البهيمة ما تستلذه فى الحال ويضرها فى ثانى الحال فتمرض وتموت إذ ليس لها إلا الإحساس بالحاضر فأما إدراك العواقب فلا فميزك الله تعالى وأكرمك بصفة أخرى وهى أشرف من الكل وهو العقل فبه تدرك مضرة الأطعمة ومنفعتها فى الحال والمآل وبه تدرك كيفية طبخ الأطعمة وتأليفها وإعداد أسبابها فتنتفع بعقلك فى الأكل الذى هو سبب صحتك وهو احسن فوائد العقل وأقل الحكم فيه بل الحكمة الكبرى فيه معرفة الله تعالى ومعرفة أفعاله ومعرفة الحكمة فى عالمه وعند ذلك تنقلب فائدة الحواس الخمس فى حقك فتكون الحواس الخمس كالجواسيس واصحاب الأخبار الموكلين بنواحى المملكة وقد وكلت كل واحدة منها بأمر تختص به فواحدة منها بأخبار الألوان والأخرى بأخبار الأصوات والأخرى بأخبار الروائح والأخرى بأخبار الطعوم والأخرى بأخبار الحر والبرد والخشونة والملاسة واللين والصلابة وغيرها وهذه البرد والجواسيس يقتنصون الأخبار من أقطار المملكة ويسلمونها إلى الحس المشترك والحس المشترك قاعد فى مقدمة الدماغ مثل صاحب القصص والكتب على باب الملك يجمع القصص والكتب الواردة من نواحى العالم فيأخذها وهى مختومة ويسلمها إذ ليس له إلا أخذها وجمعها وحفظها فأما معرفة حقائق ما فيها فلا ولكن إذا صادف القلب العاقل الذى هو الأمير والملك سلم الإنهاءات إليه مختومة فيفتشها الملك ويطلع منها على أسرار المملكة ويحكم فيها بأحكام عجيبة لا يمكن استقصاؤها فى هذا المقام وبحسب ما يلوح له من الأحكام والمصالح يحرك الجنود وهى الأعضاء مرة فى الطلب ومرة فى الهرب ومرة فى إتمام التدبيرات التى تعن له