في نفسه لا كرامة إلا إذا كان في الغنى زيادة علم أو زيادة ورع فيكون مكرما له بذلك الوصف لا بالغنى فمن كان استرواحه إلى مشاهدة الأغنياء أكثر فهو مراء أو طماع وإلا فالنظر إلى الفقراء يزيد في الرغبة إلى الآخرة ويحبب إلى القلب المسكنة والنظر إلى الأغنياء بخلافه فكيف استروح بالنظر إلى الغني أكثر مما يستروح إلى الفقير وقد حكي أنه لم ير الأغنياء في مجلس أذل منهم فيه في مجلس سفيان الثوري كان يجلسهم وراء الصف ويقدم الفقراء حتى كانوا يتمنون أنهم فقراء في مجلسه .
نعم لك زيادة إكرام للغني إذا كان أقرب إليك أو كان بينك وبينه حق وصداقة سابقة ولكن يكون بحث لو وجدت تلك العلاقة في فقير لكنت لا تقدم الغني عليه في إكرام وتوقير البتة فإن الفقير أكرم على الله من الغني فإيثارك لا يكون إلا طمعا في غناه ورياء له ثم إذا سويت بينهما في المجالسة فيخشى عليك أن تظهر الحكمة والخشوع للغني أكثر مما تظهره للفقير وإنما ذلك رياء خفي أو طمع خفي كما قال ابن السماك لجارية له مالي إذا أتيت بغداد فتحت لي الحكمة فقالت الطمع يشحذ لسانك وقد صدقت فإن اللسان ينطق عند الغني بما لا ينطق به عند الفقير وكذلك يحضر من الخشوع عنده ما لا يحضره عند الفقير .
ومكايد النفس وخفاياها في هذا الفن لا تنحصر ولا ينجيك منها إلا أن تخرج ما سوى الله من قلبك وتتجرد بالشفقة على نفسك بقية عمرك ولا ترضى لها بالنار بسبب شهوات منغصة في أيام متقاربة وتكون في الدنيا كملك من ملوك الدنيا قد أمكنته الشهوات وساعدته اللذات ولكن في بدنه سقم وهو يخاف الهلاك على نفسه في كل ساعة لو اتسع في الشهوات وعلم أنه لو احتمى وجاهد شهوته عاش ودام ملكه فلما عرف ذلك جالس الأطباء وحارف الصيادلة وعود نفسه شرب الأدوية المرة وصبر على بشاعتها وهجر جميع اللذات وصبر على مفارقتها فبدنه كل يوم يزداد نحولا لقلة أكله ولكن سقمه يزداد كل يوم نقصانا لشدة احتمائه فمهما نازعته نفسه إلى شهوة تفكر في توالي الأوجاع والآلام عليه وأداه ذلك إلى الموت المفرق بينه وبين مملكته الموجب لشماتة الأعداء به ومهما اشتد عليه شرب دواء تفكر فيما يستفيده منه من الشفاء الذي هو سبب التمتع بملكه ونعيمه في عيش هنيء وبدن صحيح وقلب رخي وأمر نافذ فيخف عليه مهاجرة اللذات ومصابرة المكروهات .
فكذلك المؤمن المريد لملك الآخرة احتمى عن كل مهلك له في آخرته وهي لذات الدنيا وزهرتها فاجتزى منها بالقليل واختار النحول والذبول والوحشة والحزن والخوف وترك المؤانسة بالخلق خوفا من أن يحل عليه غضب من الله فيهلك ورجاء أن ينجو من عذابه فخف ذلك كله عليه عند شدة يقينه وإيمانه بعاقبة أمره وبما أعد له من النعيم المقيم في رضوان الله أبد الآباد ثم علم أن الله كريم رحيم لمن يزل لعباده المريدين لمرضاته عونا وبهم رءوفا وعليهم عطوفا ولو شاء لأغنانهم عن التعب ولكن أراد أن يبلوهم ويعرف صدق إرادتهم حكمة منه وعدلا ثم إذا تحمل التعب في بدايته أقبل الله عليه بالمعونة والتيسير وحط عنه الأعباء وسهل عليه الصبر وحبب إليه الطاعة ورزقه فيها من لذة المناجاة ما يلهيه عن سائر اللذات ويقويه على إماتة الشهوات ويتولى سياسته وتقويته وأمده بمعونته فإن الكريم لا يضيع سعي الراجي ولا يخيب أمل المحب وهو الذي يقول من تقرب إلي شبرا تقربت إليه ذراعا ويقول تعالى لقد طال شوق الأبرار إلى لقائي وإني إلى لقائهم أشد شوقا فليظهر العبد في البداية جده وصدقه وإخلاصه فلا يعوزه من الله تعالى على القرب ما هو اللائق بجوده وكرمه ورأفته ورحمته تم كتاب ذم الجاه والرياء والحمد لله وحده