الكبيرة التاسعة و الأربعون : اللطم و النياحة و شق الثوب و حلق الرأس و نتفه و الدعاء بالويل و الثبور عند المصيبة .
روينا في صحيح البخاري [ عن عبد الله بن مسعود Bه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ليس منا من لطم الخدود و شق الجيوب و دعا بدعوى الجاهلية ] .
و روينا في صحيحهما [ عن أبي موسى الأشعري Bه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم : بريء من الصالقة و الحالقة و الشاقة ] الصالقة : التي ترفع صوتها بالنياحة و الحالقة : التي تحلق شعرها و تنتفه عند المصيبة و الشاقة : التي تشق ثيابها عند المصيبة و كل هذا حرام باتفاق العلماء و كذلك يحرم نشر الشعر و لطم الخدود و خمش الوجه و الدعاء بالويل و الثبور .
و عن [ أم عطية Bها قالت : أخذ علينا رسول الله صلى الله عليه و سلم في البيعة أن لا ننوح ] رواه البخاري و [ عن أبي هريرة Bه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : اثنتان في الناس هما بهم كفر : الطعن في الأنساب و النياحة على الميت ] رواه مسلم .
و [ عن أبي سعيد الخدري Bه قال : لعن رسول الله صلى الله عليه و سلم النائحة و المستمعة ] رواه تعالى داود و [ عن أبي بردة قال : وجع أبو موسى الأشعري فغشي عليه و رأسه في حجر امرأة من أهله فأقبلت تصيح برنة فلم يستطع أن يرد عليها فلما أفاق قال : أنا بريء مما برىء منه رسول الله صلى الله عليه و سلم إن رسول الله صلى الله عليه و سلم بريء من الصالقة و الحالقة و الشاقة ] .
و عن النعمان بن بشير Bه قال : أغمي على عبد الله بن رواحة فجعلت أخته تعدد عليه فتقول : و اكذا واكذا فقال حين أفاق : ما قلت شيئا إلا قيل لي أنت كذا أنت كذا أخرجه البخاري .
و في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ الميت يعذب في قبره بما نيح عليه ] و عن أبي موسى Bه قال : ما من ميت يموت فيقوم باكيهم فيقول : واسيداه واجبلاه واكذا واكذا و نحو ذلك إلا و كل به ملكان يلهزانه : أهكذا أنت ؟ أخرجه الترمذي .
و قال صلى الله عليه و سلم : [ النائحة إذا لم تتب قبل موتها تقام يوم القيامة و عليها سربال من قطران و درع من جرب ] و قال صلى الله عليه و سلم : [ إنما نهيت عن صوتين أحمقين فاجرين : صوت عند نغمة و لهو و لعب و مزامير شيطان و صوت عند مصيبة خمش في وجوه و شق في جيوب ورنة شيطان ] و قال الحسن : صوتان ملعونان مزمار عند نغمة و رنة عند مصيبة .
و قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ إن هذه النوائح يجعلن صفين في النار فينبحن في أهل النار كما تنبح الكلاب ] و عن الأوزاعي : أن عمر بن الخطاب سمع صوت بكاء فدخل و معه غيره فمال عليهن ضربا حتى بلغ النائحة فضربها حتى سقط خمارها و قال : اضرب فإنها نائحة و لا حرمة لها إنها لا تبكي بشجوكم إنها تهريق دموعها لأخذ دراهمكم و إنها تؤذي موتاكم في قبورهم و أحياكم في دورهم لأنها تنهي عن الصبر و قد أمر الله به و تأمر بالجزع و قد نهى الله عنه .
و اعلم أن النياحة : رفع صوت بالندب : تعديد النائحة بصوتها محاسن الميت و قيل : هو البكاء عليه مع ذكر محاسنه .
قال العلماء : و يحرم رفع الصوت بإفراط بالبكاء و أما البكاء على الميت من غير ندب و لا نياحة فليس بحرام روينا في صحيح البخاري و مسلم [ عن ابن عمر Bهما أن رسول الله صلى الله عليه و سلم عاد سعد بن عبادة و معه عبد الرحمن بن عوف و سعد بن أبي وقاص و عبد الله بن مسعود Bهم فبكى رسول الله صلى الله عليه و سلم فلما رأى القوم بكاء رسول الله صلى الله عليه و سلم بكوا فقال : ألا تسمعون أن الله لا يعذب بدمع العين و لا بحزن القلب و لكن يعذب بهذا أو يرحم ] و أشار إلى لسانه و روينا في صحيحهما [ عن أسامة بن زيد أن رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال سعد : ما هذا يا رسول الله ؟ قال : هذه رحمة جعلها الله في قلوب عباده و إنما يرحم الله من عباده الرحماء ] و روينا في صحيح البخاري [ عن أنس Bه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم دخل على ابنه إبراهيم و هو يجود بنفسه فجعلت عينا رسول الله صلى الله عليه و سلم تذرفان فقال له عبد الرحمن بن عوف : و أنت يا رسول الله ؟ قال : يا ابن عوف : إنها رحمة ثم أتبعها بأخرى فقال : إن العين لتدمع و القلب يحزن و لا نقول إلا ما يرضي ربنا و إنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون ] .
و أما الأحاديث الصحيحة : أن الميت يعذب ببكاء أهله عليه فليست على ظاهرها و إطلاقها بل هي مؤولة و اختلف العلماء في تأويلها على أقوال أظهرها و الله أعلم أنها محمولة على أن يكون له سبب في البكاء إما أن يكون قد أوصاهم به أو غير ذلك .
قال أصحاب الشافعي : و يجوز قبل الموت و بعده و لكن قبله أولى للحديث الصحيح : [ فإذا وجبت فلا تبكين باكية ] و قد نص الشافعي و الأصحاب لأنه يكره البكاء بعد الموت كراهة تنزيه و لا يحرم و تأولوا حديث [ فلا تبكين باكية ] على الكراهة و الله أعلم .
( فصل ) و إنما كان للنائحة هذا العذاب و اللعنة لأنها تأمر بالجزع و تنهى عن الصبر و الله و رسوله قد أمر بالصبر و الاحتساب و نهيا عن الجزع و السخط قال الله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر و الصلاة إن الله مع الصابرين } .
قال عطاء عن ابن عباس يقول : إني معكم أنصركم و لا أخذلكم قال الله تعالى : { و لنبلونكم } أي لنعاملنكم معاملة المبتلي لأن الله يعلم عاقبة الأمور فلا يحتاج إلى الابتلاء ليعلم العاقبة و لكنه يعاملهم معاملة من يبتلي فمن صبر أثابه على صبره و من لم يصبر لم يستحق الثواب و قول الله { بشيء من الخوف و الجوع } قال ابن عباس : يعني خوف العدو و الجوع يعني المجاعة و القحط { و نقص من الأموال } يعني الخسران و النقصان في المال و هلاك المواشي { و الأنفس } بالموت و القتل و المرض و الشيب { و الثمرات } يعني الحوائج و أن لا تخرج الثمرة كما كانت تخرج ثم ختم الآية بتبشير الصابرين ليدل على أن من صبر على هذه المصائب كان على وعد الثواب من الله تعالى فقال تعالى : { و بشر الصابرين } ثم نعتهم فقال : { الذين إذا أصابتهم مصيبة } أي نالتهم نكبة مما ذكر و لا يقال فيما أصيب بخير مصيبة { قالوا إنا لله } عبيد الله فيصنع بنا ما يشاء { و إنا إليه راجعون } بالهلاك و بالفناء و معنى الرجوع إلى الله الرجوع إلى انفراده بالحكم إذ قد ملك في الدنيا قوما الحكم فإذا زال حكم العباد رجع الأمر إلى الله عز و جل .
و [ عن عائشة Bها أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : ما من مصيبة يصاب بها المؤمن إلا كفر الله بها عنه حتى الشوكة يشاكها ] رواه مسلم و [ عن علقمة بن مرثد بن سابط عن أبيه قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : من أصيب بمصيبة فليذكر مصيبته بي فإنها أعظم المصائب ] و قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إذا مات ولد العبد يقول الله للملائكة قبضتم ولد عبدي ؟ فيقولون : حمدك و استرجع فيقول الله تعالى : ابنوا لعبدي بيتا في الجنة و سموه بيت الحمد [ و عن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : يقول الله تعالى ما لعبدي عندي جزاء إذا قبضت صفيه من أهل الدنيا ثم احتسب إلا الجنة ] رواه البخاري .
و قال عليه الصلاة و السلام : [ من سعادة بني آدم رضاه بما قضى الله و من شقاوة ابن آدم سخطه بما قضى الله تعالى ] و عن عمر بن الخطاب Bه قال : إذا قبض ملك الموت عليه السلام روح المؤمن قام على الباب و لأهل البيت ضجة فمنهم الصاكة وجهها و منهم الناشرة شعرها و منهم الداعية بويلها فيقول ملك الموت عليه السلام : مم هذا الجزع و مم هذا الفزع ؟ فوالله ما انتقصت لأحد منكم عمرا و لا ذهبت لأحد منكم برزق و لا ظلمت لأحد منكم شيئا فإن كانت شكايتكم و سخطكم علي فإني و الله مأمور و إن كان على ميتكم فإنه مقهور و إن كان على ربكم فأنتم به كافرون و إن لي بكم عودة بعد عودة حتى لا أبقي منكم أحدا .
و قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ و الذي نفسي بيده لو يرون مكانه و يسمعون كلامه لذهلوا عن ميتهم و لبكوا على أنفسهم ] .
( فصل في التعزية ) [ عن عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : من عزى مصابا فله مثل أجره ] رواه الترمذي .
و [ عن أبي بردة Bه عن النبي صلى الله عليه و سلم قال لفاطمة Bها : من عزى ثكلى كسي بردا من الجنة ] رواه الترمذي .
و [ عن عبد الله بن عمرو بن العاص Bهما أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال لفاطمة Bها : ما أخرجك يا فاطمة من بيتك ؟ قالت : أتيت أهل هذا البيت فترحمت إليهم ميتهم و عزيتهم به ] .
و [ عن عمرو حزم عن النبي صلى الله عليه و سلم : ما من مؤمن يعزي أخاه بمصيبة إلا كساه الله من حلل الكرامة يوم القيامة ] .
و اعلم رحمك الله أن التعزية هي التصبير و ذكر ما يسلي صاحب الميت و يخفف حزنه و يهون مصيبته و هي مستحبة لأنها مشتملة على الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر و هي أيضا داخلة في قول الله تعالى : { و تعاونوا على البر و التقوى } و هذا من أحسن ما يستدل به في التعزية .
و أعلم أن التعزية ـ هي الأمر بالصبر ـ مستحبة قبل الدفن و بعده قال أصحاب الشافعي : من حين يموت الميت و تبقى بعد الدفن إلى ثلاثة أيام قال أصحابنا و تكره التعزية بعد ثلاثة أيام لأن التعزية تسكن قلب المصاب و الغالب سكون قلبه بعد الثالثة فلا يجدد له الحزن هكذا قاله الجماهير من أصحابنا و قال أبو العباس من أصحابنا : لا بأس بالتعزية بعد ثلاثة أيام بل تبقى أبدا و إن طال الزمان قال النووي C و المختار أنها لا تفعل بعد ثلاثة أيام إلا في صورتين استثناهما أصحابنا و هما إذا كان المعزى أو صاحب المصيبة غائبا حال الدفن و اتفق رجوعه بعد ثلاثة أيام و التعزية بعد الدفن أفضل منها قبله لأن أهل الميت مشغولون بتجهيزه و لأن وحشتهم بعد دفنه لفراقه أكثر هذا إذا لم ير منهم جزعا فإن رآه قدم التعزية ليسكنهم و الله أعلم و يكره الجلوس للتعزية يعني أن يجتمع أهل الميت في بيت ليقصدهم من أراد التعزية و لفظ التعزية مشهور و أحسن ما يعزى به ما روينا في الصحيحين [ عن أسامة بن زيد Bه قال : أرسلت إحدى بنات رسول الله صلى الله عليه و سلم للرسول تدعوه و تخبره أن ابنا لها في الموت فقال عليه الصلاة و السلام للرسول : ارجع إليها فأخبرها إن لله ما أخذ و له ما أعطى و كل شيء عنده بأجل مسمى فمرها فلتصبر و لتحتسب ] و ذكر تمام الحديث قال النووي C : فهذا الحديث من أعظم قواعد الإسلام المشتملة على مهمات كثيرة من أصول الدين و فروعه و الأداب و الصبر على النوازل كلها و الهموم و الأسقام و غير من ذلك من الأغراض .
و معنى قوله صلى الله عليه و سلم : [ إن لله ما أخذ ] أن العالم كله ملك لله لم يأخذ ما هو لكم بل هو أخذ ما هو له عندكم في معنى العارية و قوله : [ و له ما أعطي ] ما وهبه لكم ليس خارجا عن ملكه بل هو له سبحانه يفعل فيه ما يشاء [ و كل شيء عنده بأجل مسمى ] فلا تجزعوا فإن من قبضه فقد انقضى أجله المسمى فمحال تأخيره أو تقديمه عنه فإذا علمتم هذا كله فاصبروا و احتسبوا ما نزل بكم و الله أعلم .
و [ عن معاوية بن أياس عن أبيه Bه عن النبي صلى الله عليه و سلم : أنه فقد رجلا من أصحابه فسأل عنه فقالوا : يا رسول الله ابنه الذي رأيته هلك فلقيه النبي صلى الله عليه و سلم فسأله عن ابنه فأخبره أنه هلك فعزاه عليه ثم قال : يا فلان إيما كان أحب إليك أن تمتع به عمرك أو لا تأتي غدا بابا من أبواب الجنة إلا وجدته قد سبقك إليه يفتحه لك ؟ فقال : يا نبي الله يسبقني إلى الجنة يفتحها لي و هو أحب إلي قال : فذلك لك فقيل : يا رسول الله هذا له خاصة أم للمسلمين عامة ؟ قال : بل للمسلمين عامة ] و [ عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه خرج إلى البقيع فأتى امرأة جاثية على قبر تبكي فقال لها : يا أمة الله اتقي الله و اصبري قالت : يا عبد الله إني أنا الحرى الثكلى قال : يا أمة الله اتقي الله و اصبري قالت : يا عبد الله لو كنت مصابا عذرتني قال : يا أمة الله اتقي الله و اصبري قالت : يا عبد الله قد أسمعتني فانصرف قال : فانصرف عنها رسول الله صلى الله عليه و سلم و بصر بها رجل من المسلمين فأتاها فسألها ما قال لك الرجل ؟ فأخبرته بما قال و بما ردت عليه فقال لها أتعرفينه ؟ قالت : لا و الله قال : ويحك ذلك رسول الله صلى الله عليه و سلم فبادرت تسعى حتى أدركته فقالت : يا رسول الله أصبر قال : إنما الصبر عند الصدمة الأولى ] أي إنما يجمل الصبر عند مفاجأة المصيبة و أما فيما بعد فيقع السلو طبعا و في صحيح مسلم : مات ابن لأبي طلحة من أم سليم فقالت لأهله : لا تحدثوا أبا طلحة حتى أكون أنا أحدثه فجاء أبو طلحة فقربت إليه عشاء فأكل و شرب ثم تصنعت له أحسن ما كانت تتصنع قبل ذلك فوقع بها فلما رأت أنه قد شبع و أصاب منها قالت : يا أبا طلحة أرأيت لو أن قوما أعاروا عاريتهم أهل بيت فطلبوا عاريتهم ألهم أن يمنعوهم ؟ قال : لا قالت أم سليم : فاحتسب ابنك قال : فغضب أبو طلحة فقال : تركتني حتى إذا تلطخت أخبرتني بابني و الله لا تغلبيني على الصبر فانطلق حتى أتى رسول الله صلى الله عليه و سلم فاخبره بما كان فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ بارك الله لكما في ليلتكما ] فذكر الحديث و في الحديث : [ ما أعطي أحدا عطاء خيرا و أوسع من الصبر ] و قال علي Bه للأشعث بن قيس : إنك إن صبرت إيمانا و احتسابا و إلا سلوت كما تسلو البهائم و كتب حكيم إلى رجل قد أصيب بمصيبة : إنك قد ذهب منك ما رزئت به فلا يذهبن عنك ما عرضت عنه و هو الأجر و قال آخر : العاقل يصنع أول يوم من أيام المصيبة ما يفعله الجاهل بعد خمسة أيام قلت : قد علم أن ممر الزمان يسلي المصاب فلذلك أمر الشارع بالصبر عند الصدمة الأولى و بلغ الشافعي Bه أن عبد الرحمن بن مهدي C مات له ابن فجزع عليه عبد الرحمن جزعا شديدا فبعث إليه الشافعي C يقول : يا أخي عز نفسك بما تعزي به غيرك و استقبح من فعلك ما تستقبحه من فعل غيرك و اعلم أن أمضى المصائب فقد سرور و حرمان أجر فكيف إذا اجتمعا مع اكتساب وزر ؟ فتناول حظك يا أخي إذا قرب منك قبل أن تطلبه و قد نأى عنك ألهمك الله عند المصائب صبرا و احرز لنا و لك بالصبر أجرا و كتب إليه يقول : .
( إني معزيك لا أني على ثقة ... من الحياة و لكن سنة الدين ) .
( فما المعزي بباق بعد ميته ... و لا المعزى و لو عاش إلى حين ) .
و كتب رجل إلى بعض إخوانه يعزيه بابنه : أما بعد فإن الولد على والده ما عاش حزن و فتنه فإذا قدمه فصلاة و رحمة فلا تحزن على ما فاتك من حزنه و فتنته و لا تضيع ما عوضك الله تعالى من صلاته و رحمته و قال موسى بن المهدي لإبراهيم بن سلمة و عزاه بابنه : أسرك و هو بلية و فتنة و أحزنك و هو صلاة و رحمة ؟ .
و عزى رجل رجلا فقال : إن من كان لك في الآخرة أجرا خير ممن كان في الدنيا سرورا و فرحا .
و عن عبد الله بن عمر Bهما أنه دفن ابنا له ثم ضحك عند القبر فقيل له : أتضحك عند القبر ؟ فقال : أردت أن أرغم الشيطان و عن ابن جريج C قال : من لم يتعرض مصيبته بالأجر و الإحتساب سلا كما تسلو البهائم و عن حميد الأعرج قال : رأيت سعيد بن جبير C يقول في ابنه و نظر إليه : إني أعلم خير خلة فيك قيل و ما هي ؟ قال : بموت فاحتسبه .
و عن الحسن البصري C : إن رجلا حزن على ولد له و شكا ذلك إليه فقال الحسن كان ابنك يغيب عنك ؟ قال : نعم كان غيبته أكثر من حضوره قال : فاتركه غائبا فإنه لم يغب عنك غيبة إلا لك فيها أجر أعظم من هذه فقال : يا أبا سعيد هونت علي وجدي على ابني .
و دخل عمر بن عبد العزيز على ابنه في وجعه فقال : يا بني كيف تجدك ؟ ؟ قال : أجدني في الحق قال : يا بني لأن تكون في ميزاني أحب إلي من أن أكون في ميزانك قال : يا أبت لأن يكون ما تحب أحب إلي من أن يكون ما أحب .
و مات ابن الإمام الشافعي فأنشد يقول : .
( و ما الدهر إلا هكذا فاصطبر له ... رزيه مال أو فراق حبيب ) .
و وقعت في رجل عروة الآكلة فقطعها من الساق و لم يمسكه أحد و هو شيخ كبير و لم يدع ورده تلك الليلة إلا إنه قال : لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا و تمثل بهذه الأبيات : .
( لعمري ما أهويت كفي لريبة ... و لا نقلتني نحو فاحشة رجلي ) .
( و لا قادني سمعي و لا بصري لها ... و لا دلني رأيي عليها و لا عقلي ) .
( و أعلم أني لم تصبني مصيبة ... من الدهر إلا قد أصابت فتى قبلي ) .
و قال Bه : اللهم إن كنت ابتليت فقد عافيت و إن كنت أخذت فقد أبقيت أخذت عضوا و أبقيت أعضاء و أخذت إبنا و أبقيت أبناء .
و قدم على الوليد في تلك الليلة رجل أعمى من بني عبس فسأله عن عينيه فقال : بت ليلة في بطن واد و لم أعلم في الأرض عبسيا ماله على مالي فطرقنا سيل فذهب ما كان لي من مال و أهل و ولد غير بعير و صبي و كان البعير صعبا فند ـ أي شرد ـ فاتبعته فما جاوزت الصبي إلا بيسير حتى سمعت صوته فرجعت فإذا رأس الصبي في بطنه فقتله ثم اتبعت البعير لأخذه فنفحني برجله فأصاب وجهي فحطمه و أذهب عيني فأصبحت لا أهل لي و لا مال و لا ولد و لا بعير فقال الوليد : انطلقوا به إلى عروة ليعلم أن في الأرض من هو أشد منه بلاء .
و ذكر أن عثمان Bه لما ضرب جعل يقول و الدماء تسيل على لحيته : لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين اللهم إني أستعين بك عليهم و استعينك على جميع أموري و أسألك الصبر على ما ابتليتني .
و قال المدائني : رأيت بالبادية امرأة لم أرى جلدا أنضر منها و لا أحسن وجها منها فقلت : تالله إن فعل هذا بك الاعتدال و السرور فقالت : كلا و الله إني لبدع أحزان و خلف هموم و سأخبرك : كان لي زوج و كان لي منه إبنان فذبح أبوهما شاة في يوم الأضحى و الصبيان يلعبان فقال الأكبر للأصغر : أتريد أن أريك كيف ذبح أبي الشاة قال : نعم فذبحه فلما نظر إلى الدم جزع ففزع نحو الجبل فأكله الذئب فخرج أبوه في طلبه فتاه أبوه فمات عطشا فأفردني الدهر فقلت لها و كيف أنت و الصبر ؟ فقالت : لو دام لي لدمت له و لكنه كان جرحا فاندمل .
و [ عن ابن عباس Bهما قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : من كان له فرطان من أمتي دخل الجنة يعني ولدين .
قالت عائشة Bها : بأبي أنت و أمي فمن كان له فرط ؟ قال صلى الله عليه و سلم : و من كان له فرط يا موفقة فمن لم يكن له فرط من أمتك ؟ قال أنا فرط أمتي لم يصابوا بمثلي ] .
و [ عن عبيدة Bه عن أبيه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : من قدم ثلاثة من الولد لم يبلغوا الحنث كانوا له حصنا من النار فقال أبو الدرداء : قدمت اثنين قال : و اثنين : قال أبي كعب سيد القراء قدمت واحدا قال صلى الله عليه و سلم : و واحدا و لكن ذلك في أول صدمة ] و عن وكيع قال : كان لإبراهيم الحربي ابن و كان له عشرة سنة قد حفظ القرآن و تفقه من الفقه و الحديث شيئا كثيرا فمات فجئت أعزيه قال لي : كنت أشتهي موت ابني هذا قلت يا أبا اسحاق أنت عالم الدنيا تقول مثل هذا ؟ قد أنجب و حفظ القرآن و تفقه الفقه و الحديث قال : نعم رأيت في المنام كأن القيامة قد قامت و كأن صبيانا في أيديهم قلال ماء يستقبلون الناس يسقونهم و كان اليوم يوم حار شديد حره قال فقلت لأحدهم : اسقني من هذا الماء قال : فنظر إلي و قال لي : ليس أنت أبي : فقلت و من أنتم ؟ نحن الصبيان الذين متنا في الإسلام و خلفنا آباءنا نستقبلهم فنسقيهم الماء قال : فلهذا تمنيت موته .
و روى مسلم عن أبي حسان قال : قلت لأبي هريرة Bه حدثنا بحديث تطيب به أنفسنا عن موتانا قال : نعم صغارهم دعاميص الجنة يتلقى أحدهم أباه أو قال أبويه فيأخذ بثوبه أو قال بيده فلا ينتهي حتى يدخل الجنة .
و عن مالك بن دينار C تعالى قال : كنت في أول أمري مكبا على اللهو و شرب الخمر فاشتريت جارية و تسريت بها و ولدت لي بنتا فأحببتها حبا شديدا إلى أن دبت و مشت فكنت إذا جلست لشرب الخمر جاءت و جذبتني عليه فأهرقته بين يدي فلما بلغت من العمر سنتين ماتت فاكمدني حزنها قال : فلما كان ليلة النصف من شعبان بت و أنا ثمل من الخمر فرأيت في النوم كأن القيامة قد قامت و خرجت من قبري و إذا بتنين قد تبعني يريد أكلي ـ و التنين الحية العظيمة ـ قال : فهربت منه فتبعني و صار كلما أسرعت يهرع خلفي و أنا خائف منه فمررت في طريقي على شيخ نقي الثياب ضعيف فقلت يا شيخ بالله أجرني من هذا التنين الذي يريد أكلي و إهلاكي فقال : يا ولدي أنا شيخ كبير و هذا أقوى مني و لا طاقة لي به و لكن مر و أسرع فلعل الله أن ينجيك منه قال : فأسرعت في الهرب و هو ورائي فأشرفت على طبقات النار و هي تفور فكدت أن أهوي فيها و إذا قائل يقول : لست من أهلي فرجعت هاربا و التنين في أثري فأشرفت على جبل مستنير و فيه طاقات و عليها أبواب و ستور و إذا بقائل يقول : أدركوا هذا البائس قبل أن يدركه عدوه فتحت الأبواب و رفعت الستور و أشرقت علي منها أطفال بوجوه كالأقمار و إذا ابنتي معهم فلما رأتني نزلت إلى كفة من نور و ضربت بيدها اليمنى إلى التنين فولى هاربا و جلست في حجري وقالت يا أبت : { ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله و ما نزل من الحق } فقلت : يا بنية و أنتم تعرفون القرآن ؟ قالت : نحن أعرف به منكم قلت : يا بنية ما تصنعون ههنا ؟ قالت : نحن من مات من أطفال المسلمين أسكنا ههنا إلى يوم القيامة ننتظركم تقدمون علينا فقلت : يا بنية ما هذا التنين الذي يطاردني و يريد إهلاكي ؟ قالت : يا أبت ذلك عملك السوء قويته فأراد إهلاكك فقلت : و من ذلك الشيخ الضعيف الذي رأيته ؟ قالت : ذلك عملك الصالح أضعفته حتى لم يكن له طاقة بعملك السوء فتب إلى الله و لا تكن من الهالكين قال ثم ارتفعت عني و استيقظت فتبت إلى الله من ساعتي .
فانظر رحمك الله إلى بركة الذرية إذا ماتوا صغارا ذكورا كانوا أو إناثا و إنما يحصل للوالدين النفع بهما في الآخرة إذا صبروا و احتسبوا و قالوا : الحمد لله إنا لله و إنا إليه راجعون فيحصل لهم ما وعد الله تعالى بقوله : { الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله } أي نحن و أموالنا يصنع بنا ما يشاء { و إنا إليه راجعون } إقرار بالهلاك و الفناء .
و [ عن ثوبان Bه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ما أصاب عبدا مصيبة إلا بإحدى خلتين إما بذنب لم يكن الله ليغفر له إلا بتلك المصيبة أو بدرجة لم يكن الله يبلغه إياها إلا بتلك المصيبة ] .
و قال سعيد بن جبير : لقد أعطيت هذه الأمة عند المصيبة ما لم تعط الأنبياء قبلهم { إنا لله و إنا إليه راجعون } و لو أعطيته الأنبياء عليهم السلام لأعطيه يعقوب عليه السلام إذ يقول : يا أسفي على يوسف .
و [ عن أم سلمة Bهما قالت : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : من قال عند المصيبة { إنا لله و إنا إليه راجعون } اللهم أجرني في مصيبتي و اخلف لي خيرا منها إلا آجره الله و أخلف له خيرا منها قالت فلما توفي أبو سلمة قالت : من خير من أبي سلمة ؟ ثم قلتها فأخلفني الله رسول الله صلى الله عليه و سلم ] رواه مسلم .
و عن الشعبي أن شريحا قال : إني لأصاب المصيبة فأحمد الله عليها أربع مرات : أحمده إذا لم يكن أعظم منها و أحمده إذ رزقني الصبر عليها و أحمده إذ وفقني للاسترجاع لما أرجو من الثواب و أحمده إذ لم يجعلها في ديني و قوله { أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة } الصلوات من الله الرحمة و المغفرة { و أولئك هم المهتدون } يريد الذين اهتدوا للترجيع و قيل إلى الجنة و الثواب .
و عن سعيد بن المسيب عن عمر بن الخطاب Bه قال : نعم العدلان و نعم العلاوة { أولئك عليهم صلوات من ربهم و رحمة } نعم العدلان { و أولئك هم المهتدون } نعم العلاوة .
و أما إذا سخط صاحب المصيبة و دعا بالويل و الثبور أو لطم خدا أو شق جيبا أو نشر شعرا أو حلقة أو قطعة أو نتفه فله السخط من الله تعالى و عليه اللعنة رجلا كان أو امرأة .
و قد روي أيضا أن الضرب على الفخذ عند المصيبة يحبط الأجر و قد روي أن من أصابته مصيبة فخرق عليها ثوبا أو لطم خدا أو شق جيبا أو نتف شعرا فكأنما رمحا يريد أن يحارب ربه و قد تقدم أن الله عز و جل لا يعذب ببكاء العين و لا بحزن القلب و لكن يعذب بهذا ـ يعني ما يقول صاحب المصيبة بلسانه يعني من الندب و النياحة ـ و قد تقدم أن الميت يعذب في قبره بما نيح عليه إذا قالت النائحة : و اعضداه وا ناصراه و اكاسياه جبذ الميت و قيل له أنت عضدها ؟ أنت ناصرها ؟ أنت كاسها ؟ فالنواح حرام لأنه مهيج للحزن و دافع عن الصبر و فيه مخالفة التسليم للقضاء و الإذعان لأمر الله تعالى حكاية : قال صالح المري : كنت ذات ليلة جمعة بين المقابر فنمت وإذا بالقبور قد شققت و خرج الأموات منها و جلسوا حلقا حلقا و نزلت عليهم أطباق مغطية و إذا فيهم شاب يعذب بأنواع العذاب من بينهم قال : فتقدمت إليه و قلت يا شاب ما شأنك من بين هؤلاء القوم ؟ فقال : يا صالح بالله عليك بلغ ما آمرك به و أد الأمانة و ارحم غربتي لعل الله عز و جل أن يجعل لي على يديك مخرجا : إني لما مت و لي والدة جمعت النوادب و النوائح يندبن علي و ينحن كل يوم فأنا معذب بذلك النار عن يميني و عن شمالي و خلفي و أمامي لسوء مقال أمي فلا جزاها الله عني خيرا ثم بكي حتى بكيت لبكائه ثم قال : يا صالح بالله عليك اذهب إليها فهي في المكان الفلاني و علم لي المكان و قل لها لم تعذبي ولدك يا أماه ربيتني و من الأسواء وقيتني فلما مت في العذاب رميتني .
يا أماه لو رأيتني : الأغلال في عنقي و القيد في قدمي و ملائكة العذاب تضربني و تنهرني فلو رأيت سوء حالي لرحمتني و إن لم تتركي ما أنت عليه من الندب و النياحة الله بيني و بينك يوم تشقق سماء عن سماء و يبرز الخلائق لفصل القضاء قال صالح : فاستيقظت فزعا و مكثت في مكاني قلقا إلى الفجر فلما أصبحت دخلت البلد و لم يكن لي هم إلا الدار التي لأم الصبي الشاب فاستدللت عليها فأتيتها فإذا بالباب مسود و صوت النوادب و النوائح خارج من الدار فطرقت الباب فخرجت إلي عجوز فقالت ما تريد يا هذا ؟ فقلت : أريد أم الشاب الذي مات فقالت : ما تصنع بها هي مشغولة بحزنها فقلت : أرسليها إلي معي رسالة من ولدها فدخلت فأخبرتها فخرجت أم و عليها ثياب سود و وجهها قد اسود من كثرة البكاء و اللطم فقالت لي : من أنت ؟ قلت : أنا صالح المري جرى لي البارحة في المقابر مع ولدك كذا و كذا رأيته في العذاب و هو يقول : يا أمي ربيتني و من الأسواء وقيتيني فلما مت في العذاب رميتيني و إن لم تتركي ما أنت عليه الله بيني و بينك يوم تشقق سماء عن سماء فلما سمعت ذلك غشي عليها و سقطت إلى الأرض فلما أفاقت بكت بكاء شديدا و قالت : يا ولدي يعز علي و لو علمت ذلك بحالك ما فعلت و أنا تائبة إلى الله تعالى من ذلك ثم دخلت و صرفت النوائح و لبست غير تلك الثياب و أخرجت إلي كيسا فيه دراهم كثيرة و قالت : يا صالح تصدق بهذه عن ولدي قال صالح : فودعتها و دعوت لها و انصرفت و تصدقت عن ولدها بتلك الدراهم فلما كان ليلة الجمعة الأخرى أتيت المقابر على عادتي فنمت فرأيت أهل القبور قد خرجوا من قبورهم و جلسوا على عادتهم و أتتهم الأطباق و إذ ذاك الشاب ضاحك فرح مسرور فجاءه أيضا طبق فأخذه فلما رآني جاء إلي فقال : يا صالح جزاك الله عني خيرا خفف الله عني العذاب و ذلك بترك أمي ما كانت تفعل و جاءني ما تصدقت به عني قال صالح : فقلت و ما هذه الأطباق ؟ فقال : هذه هدايا الأحياء لأمواتهم من الصدقة و القراءة و الدعاء ينزل عليهم كل ليلة جمعة يقال له هذه هدية فلان إليك فارجع إلى أمي و أقرئها مني السلام و قل لها جزاها الله عني خيرا قد وصل إلي ما تصدقت به عني و أنت عندي عن قريب فاستعدي .
قال صالح : ثم استيقظت و أتيت بعد أيام إلى دار أم الشاب و إذا بنعش موضوع على الباب فقلت لمن هذا ؟ فقالوا : لأم الشاب فحضرت الصلاة عليها و دفنت إلى جانب ولدها بتلك المقبرة فدعوت لهما و انصرفت .
فنسأل الله أن يتوفانا مسلمين و يلحقنا بالصالحين و يعصمنا من النار إنه جواد كريم رؤوف رحيم