82 - ـ فصل : عزلة العالم عن الشر .
بكرت يوما أطلب الخلوة إلى جامع الرصافة فجعلت أجول و حدي و أتفكر في ذلك المكان و من كان به من العلماء و الصالحين .
و رأيت أقواما قد جاوروا فيه فسألت أحدهم : منذ كم أنت ها هنا ؟ فأومأ إلي قريب من أربعين سنة .
فرأيته في بيت كثير الدرن و الوسخ و جعلت أتفكر في حبسه لنفسه عن النكاح هذه المدة فأخذت النفس تحسن ذلك و تذم الدنيا و الاغترار بها .
فأقبل العلم ينكر على النفس و نهض الفهم لحقائق الأمور و موضوع الشرع يقوي ما قال العلم فينحل من ذلك أن قلت للنفس : اعلمي أن هؤلاء على ضربين منهم من يجاهد نفسه في الصبر على هذه الأحوال فتفوته فضائل المخالطة لأهل العلم و العمل و طلب الولد و نفع الخلق و انتفاع نفسه بمجالسة أهل الفهم فيحدث له من حاله تشابه فيها الوحش فيؤثر الانفراد .
و ربما يبس الطبع و ساء الخلق و ربما حدث من حبس مائة المحتقن سميه من أفسدت بدنه وعقله و ربما أورثته الخلوة وسوسة و ربما ظن أنه من الأولياء واستغنى بما يعرفه و ربما خيل له الشيطان أشياء من الخيالات و هو يعدها كرامات ربما ظن أن الذي هو فيه الغاية لا يدري أنه إلى الكراهة أقرب .
فإن رسول الله صلى الله عليه و سلم : نهى أن يبيت الرجل وحده و هؤلاء كل منهم يبيت وحده و نهى عن التبتل و هذا تبتل و نهىعن الرهبانية و هذا من خفىخدع إبليس التي يوقع بها في ورطات الضلالة بألطف وجه و أخفاه .
و الضرب الثاني : مشايخ قد فنوا فانقطعوا ضرورة إذ ليس لأحدهم مأوى فهم في مقام الزمني .
و إن كان الضرب الأول قد قطعوا حبل نفوسهم في العلم و العمل و الكسب و تعلقت هممهم بفتوح يطرق عليهم الباب فرضوا بالعمى بعد البصر و بالزمن بعد الإطلاق قالت لي النفس : لا أرضى هذا الذي تقوله فإنك إنما تميل إلى إيثار نكاح المستحسنات و المطاعم المشتهيات فإذا لم تكن من أهل التعبد فلا تطعن فيهم .
فقلت لها : إن فهمت حدثتك و إن كنت تقلدين صور الأحوال فلا فهم لك .
أما المستحسنات فإن المقصود من النكاح أشياء منها طلب الولد و منها شفاء النفس بإخراج الفضلة المؤذية و كمال خروجها لا يكون إلى بوجود المستحسن .
و اعتبر هذا بالوطء دون الفرج فإنه يخرج من الفضلات ما لا يخرج بالوطء في الفرج .
و بتمام خروج تلك الفضلة تفرغ النفس عن شواغلها فتدري أين هي .
كما نأمر القاضي بالأكل قبل الحكم و ننهاه عن الحكم و هو غضبان أو حاقن .
و بكمال بلوغ هذا الغرض يكون كمال الولد لتمام النطفة التي خلق منها .
ثم للنفس حظ فهو يستوفيه إستيفاء الناقة حظها من العلف في السفر و ذلك بعين على سيرها .
و أما المطاعم فالجاهل من يطلبها لذاتها أو لنفس لذاتها .
و إنما المراد إصلاح الناقة لجمع همها و نيل مرادها من غرضها الصارف لها عن الفكر في هواها .
و إذا تأملت حال الشرب الأول رأيت من هذا عجبا فإن النبي صلى الله عليه و سلم إختار لنفسه عائشة Bها و كانت مستحسنة [ و رأى زينب استحسنها فتزوجها و كذلك إختار صفية و كان إذا وصفت له إمرأة بعث يخطبها ] .
و كان لعلي Bه أربع حرائر و سبع عشرة سرية مات عنهن .
و قبل هذه الأمة فقد كان لداود عليه السلام مائة إمرأة و لسليمان عليه السلام ألف إمرأة فمن ادعى خللا في هذه الطرق أو أن هؤلاء آثروا هواهم و أنفقوا بضائع العمر في هذه الأغراض و غيرها أفضل فقد إدعى على الكاملين النقصان و إنما هو الناقص في فهمه لا هم .
و قد كان سفيان الثوري إذا سافر ففي سفرته حمل مشوية و فالوذج و كان حسن الطعم و كان يقول : [ إن الدابة إذا لم تحسن إليها لم تعمل ] .
و هذه الفنون التي أشرت إليها إن قصدت للحاجة إليها أو لقضاء و طر النفس منها أو لبلوغ الأغراض الدينية و الدنيوية منها فكله قصد صحيح لا يعكر عليه من يقوم و يقعد في ركعات لا يفهم معناها و في تسبيحات أكثر ألفاظها ردية .
كلا ليس إلا العلم الذي هو أفضل الصفات و أشرف العبادات و هو الأمر بالمصالح و الناطق بالنصائح .
ثم منفعة العلم معروفة و زهد الزاهد لا يتعدى عتبة بابه و قد قال صلى الله عليه و سلم : [ لأن يهدي الله بك رجلا خير لك مما طلعت الشمس ] .
ثم اعتبر فضل الرسل على الأنبياء عليهم الصلاة و السلام و الجوارح على التي لا تصيد و الطين منه ما ينتفع به على الطين في المقلع .
و غاية العلماء تصرفهم بالعلم في المباح و أكثر المتزهدين جهلة يستعبدهم تقبيل اليد لأجل تركهم ما أبيح .
فكم فوتت العزلة علما يصلح به أهل الدين و كم أوقعت في بلية هلك بها الدين و إنما عزلة العالم عن الشر فحسب و الله الموفق