312 - ـ فصل : أكثر الزاد فإن السفر طويل .
ما رأيت أكثر أذى للمؤمن من مخالطة من لا يصلح فإن الطبع يسرق .
فإن لم يتشبه بهم و لم يسرق منهم فتر عن عمله .
فإن رؤية الدنيا تحث على طلبها و قد رأى رسول الله صلى الله عليه و سلم سترا على بابه فهتكه و قال [ مالي و للدنيا ] و لبس ثوبا له طراز فرماه و قال : [ شغلتني أعلامه ] و لبس خاتما ثم رماه و قال : [ نظرت إليكم و نظرت إليه ] .
و كذلك رؤية أرباب الدنيا و دورهم و أحوالهم خصوصا لمن له نفس تطلب الرفعة .
و كذا سماع الأغاني و مخالطة الصوفية الذين لا نظر لهم اليوم إلا في لرزق الحاصل .
لو كان من أي مكان قبلوه و لا يتورعون أن يأخذوا من ظالم و ليس عندهم خوف كما كان أوائلهم .
فقد كان سري السقطي يبكي طول الليل و كان يبالغ في الورع و هم ليس لهم ورع سري و لا لهم تعبد الجنيد .
و إنما ثم أكل و رقص و بطالة و سماع أغاني من المردان حتى قال بعض من يعتبر قوله : حضرت مع رجل كبير يومىء إليه من مشايخ الربط و مغنيهم أمرد فقام الشيخ و نقطه بدينار على خده .
و ادعاؤهم أن سماع هذه الأشياء يدعو إلى الآخرة فوق الكذب و ليس العجب منهم إنما العجب من جهال ينفقون عليهم فيفقون عليهم .
و لقد كان جماعة من القدماء يورن أوائل الصوفية يتعبدون و يتورعون فيعجبهم حالهم و هم معذورون في إعجابهم بهم .
و إن كان أكثر القوم في تعبدهم على غير الجادة كما ذكرت في كتابي المسمى بتلبيس إبليس .
فأما اليوم فقد برح الخفاء أحدهم يتردد إلى الظلمة و يأكل أموالهم و يصافحهم بقميص ليس فيه طراز و هذا هو التصوف فحسب .
أو لا يستحي من الله من زهد في رفيع الأثواب لأجل الخلائق لا لأجل الحق .
و لا يزهد في مطعم و لا شبهة فالبعد عن هؤلاء لازم .
و ينبغي للمنفرد لطاعة الله تعالى عن الخلق ألا يخرج إلى سوق جهده فإن خرج ضرورة غض بصره و ألا يزور صاحب منصب و لا يلقاه فإن إضطر دارى الأمر .
و لا يخالط عاميا إلا لضررة مع التحرز و لايفتح على نفسه باب التزوج بل يقنع بامرأة فيها دين .
فقد قال الشاعر : .
( و المرء ما دام ذا عين يقلبها ... في أعين العين موقوف على الخطر ) .
( يسر مقلته ما ضر مهجته ... لا مرحبا بسرور عاد بالضرر ) .
فإن كان يغلب عليه العلم انفرد بدراسته و احترز من الأتباع المتعلمين و إن غلبت عليه العبادة زاد في إحترازه و ليجعل خلوته أنيسه و النظر في سير السلف جليسه .
و ليكن له وظيفة من زيارة قبور الصالحين و الخلوة بها .
و لا ينبغي أن يفوته ورد قيام الليل و ليكن بعد النصف الأول فليطل مهما قدر فإنه زمان بعيد المثل .
و ليمثل رحيله عن قرب ليقصر أمله و ليتزود في الطريق على قدر طول السفر .
نسأل الله D يقظه من فضله و إقبالا على خدمته و ألا يخذلنا بالإلتفات عنه إنه قريب مجيب