@ 443 @ .
وبعد التأمل ، ظهر والله تعالى أعلم ، أنه سبحانه لا يقسم بشيء في موضع دون غيره ، إلا لغرض يتعلق بهذا الموضع ، يكون بين المقسم به ، والمقسم عليه مناسبة وارتباط ، وقد يظهر ذلك جلياً ، وقد يكون خفياً . .
وهذا فعلاً ما تقتضيه الحكمة والإعجاز في القرآن ، وإن كنت لم أقف على بحث فيه . .
ولكنَّ مما يشير إلى هذا الموضوع ، ما جاء بالإقسام بمكة مرتين ، وفي حالتين متغايرتين . .
الأولى : قوله تعالى : { لاَ أُقْسِمُ بِهَاذَا الْبَلَدِ * وَأَنتَ حِلٌّ بِهَاذَا الْبَلَدِ * وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ * لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِى كَبَدٍ } . .
والموضع الثاني : قوله تعالى : { وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ * وَطُورِ سِينِينَ * وَهَاذَا الْبَلَدِ الاٌّ مِينِ * لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِى أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ } . .
فالمقسم به في الموضعين : مكة المكرمة ، والمقسم عليه في الموضعين خلق الإنسان ، ولكن في الموضع الأول كان المقسم عليه مكابدة الإنسان من أول ولادته إلى نشأته ، إلى كده في حياته ، إلى نهايته ومماته . .
من ذلك مكابدته صلى الله عليه وسلم منذ ولادته إلى حيث مات أبوه قبله ، ولحقت به أمه ، وهو في طفولته ، وبعد الوحي كابد مع قومه ولقى منهم عنتاً شديدًا ، حتى تآمروا على قتله ، فلكأنه يقول له : اصبر على ذلك ، فإن المكابدة لا بد منها ، وهي ملازمة للإنسان كملازمتك لهذا البلد منذ ولادتك . .
وفي ذكر { وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ } إشعار ببدء المكابدة ، وبأشدها من حالة الولادة وطبيعة الطفولة ، ولذا ذكر هنا هذا البلد بدون أي وصف . .
أما في الموضع الثاني : فالمقسم عليه ، وإن كان هو خلق الإنسان ، إلا أنه في أحسن تقويم ، وهي أعظم نعمة عليه جاء بالمقسم به عرضاً للنعم ، وتعددها من التين والزيتون ، سواء كان المراد بهما الفاكهة المذكورة أو أماكنها ، وهو بيت المقدس مع طور سينين .