@ 168 @ مُّسَمًّى وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ بِلِقَآءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ } . لما بيَّن جلَّ وعلا أن أكثر الناس وهم الكفّار لا يعلمون ، ثم ذكر أنهم يعلمون ظاهرًا من الحياة الدنيا ، وهم غافلون ، أنكر عليهم غفلتهم عن الآخرة ، مع شدّة وضوع أدلّتها بقوله : { أَوَ لَمْ يَتَفَكَّرُواْ فِى أَنفُسِهِمْ } ، والتفكر : التأمّل والنظر العقلي ، وأصله إعمال الفكر ، والمتأخرون يقولون : الفكر في الاصطلاح حركة النفس في المعقولات ، وأمّا حركتها في المحسوسات فهو في الاصطلاح تخييل . .
وقال الزمخشري في ( الكشاف ) : { فِى أَنفُسِهِمْ } ، يحتمل أن يكون ظرفًا كأنه قيل : أو لم يحدثوا التفكر في أنفسهم ، أي : في قلوبهم الفارغة من الفكر ، والفكر لا يكون إلاّ في القلوب ، ولكنه زيادة تصوير لحال المتفكرين ؛ كقولك : اعتقده في قلبك وأضمره في نفسك وأن يكون صلة للتفكر كقولك : تفكّر في الأمر أجال فيه فكره ، و { مَا خَلَقَ } متعلّق بالقول المحذوف ، معناه : أو لم يتفكروا فيقولوا هذا القول . وقيل معناه : فيعلموا ، لأن في الكلام دليلاً عليه { إِلاَّ بِالْحَقّ وَأَجَلٍ مُّسَمًى } ، أي : ما خلقها باطلاً وعبثًا بغير غرض صحيح ، وحكمة بالغة ، ولا لتبقى خالدة ، وإنما خلقها مقرونة بالحق ، مصحوبة بالحكمة ، وبتقدير أجل مسمى لا بدّ لها أن تنتهي إليه ، وهو قيام الساعة ، ووقت الحساب ، والثواب ، والعقاب . .
ألا ترى إلى قوله : { أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ } ، كيف سمّى تركهم غير راجعين إليه عبثًا ، والباء في قوله : { إِلاَّ بِالْحَقّ } مثلها في قولك : دخلت عليه بثياب السفر ، واشترى الفرس بسرجه ولجامه ، تريد : اشتراه وهو متلبس بالسرج واللجام غير منفك عنها ، وكذلك المعنى : ما خلقها إلا وهي متلبسة بالحق مقترنة به . .
فإن قلت : إذا جعلت في أنفسهم صلة للتفكر فما معناه ؟ .
قلت : معناه أو لم يتفكروا في أنفسهم التي هي أقرب إليهم من غيرها من المخلوقات ، وهم أعلم وأخبر بأحوالها منهم بأحوال ما عداها ، فتدبّروا ما أودعها اللَّه ظاهرًا وباطنًا ، من غرائب الحكم الدالَّة على التدبير دون الإهمال ، وأنه لا بدّ لها من انتهاء إلى وقت يجازيها فيه الحكم الذي دبّر أمرها على الإحسان إحسانًا ، وعلى الإساءة مثلها ، حتى يعلموا عند ذلك أن سائر الخلائق كذلك أمرها جار على الحكمة والتدبير ، وأنّه لا بدّ