@ 15 @ : واعلم : أن العرب تستعمل جاء وأتى بمعنى : فعل ، فقوله : { فَقَدْ جَاءوا ظُلْماً } ، أي : فعلوه ، وقيل : بتقدير الباء ، أي : جاءوا بظلم ، ومن إتيان أتى بمعنى فعل قوله تعالى : { لاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْاْ } ، أي : بما فعلوه . وقول زهير بن أبي سلمى : % ( فما يك من خير أتوه فإنما % توارثه آباء آبائهم قبل ) % .
واعلم بأن الإفك هو أسوأ الكذب ، لأنه قلب للكلام عن الحقّ إلى الباطل ، والعرب تقول : أفكه بمعنى قلبه ، ومنه قوله تعالى في قوم لوط : { وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيّنَاتِ } ، وقوله : { وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى } ، وإنما قيل لها مؤتفكات ؛ لأن الملك أفكها ، أي : قلبها ؛ كما أوضحه تعالى بقوله : { جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا } . { وَقَالُواْ أَسَاطِيرُ الاٌّ وَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِىَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً * قُلْ أَنزَلَهُ الَّذِى يَعْلَمُ السِّرَّ فِى السَّمَاواتِ وَالاٌّ رْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً } . ذكر جلَّ وعلا في الأولى من هاتين الآيتين أن الكفّار ، قالوا : إن هذا القرءان { أَسَاطِيرُ الاْوَّلِينَ } ، أي : مما كتبه ، وسطره الأوّلون كأحاديث رستم واسفنديار ، وأن النبيّ صلى الله عليه وسلم جمعه ، وأخذه من تلك الأساطير ، وأنه اكتتب تلك الأساطير ، قال الزمخشري : أي كتبها لنفسه وأخذها ، كما تقول : استكب الماء واصطبّه إذا سكبه وصبّه لنفسه وأخذه ، وقوله : { فَهِىَ تُمْلَى عَلَيْهِ } ، أي : تلقى إليه ، وتقرأ عليه عند إرادته كتابتها ليكتبها ، والإملاء إلقاء الكلام على الكاتب ليكتبه ، والهمزة مبدّلة من اللام تخفيفًا ، والأصل في الإملاء الإملال باللام ، ومنه قوله تعالى : { فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِى عَلَيْهِ الْحَقُّ } . .
وقوله : { بُكْرَةً وَأَصِيلاً } ، البكرة : أوّل النهار ، والأصيل : آخره . .
وما ذكره جلَّ وعلا في هذه الآية من أن الكفّار ، قالوا : إن القرءان أساطير الأوّلين ، وأن النبيّ صلى الله عليه وسلم تعلمه من غيره ، وكتبه جاء موضحًا في آيات متعدّدة ؛ كقوله تعالى : { وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ ءايَاتُنَا قَالُواْ قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاء لَقُلْنَا مِثْلَ هَاذَا إِنْ هَاذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الاوَّلِينَ } . .
وقد ذكرنا آنفًا الآيات الدالَّة على أنهم افتروا عليه أنه تعلّم القرءان من غيره ، وأوضحنا تعنّتهم ، وكذبهم في ذلك في سورة ( النحل ) ، ودلالة الآيات على ذلك في الكلام على قوله تعالى : { لّسَانُ الَّذِى يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِىٌّ } ، فأغنى ذلك عن إعادته هنا .