فصل وأما القسم الثالث : وهو أن يصير الوصف عرضة .
وأما القسم الثالث : وهو أن يصير الوصف عرضة لأن ينضم إلى العبادة حتى يعتقد فيه أنه من أوصافها أوجزء منها فهذا القسم ينظر فيه من جهة النهي عن الذرائع وهو إن كان في الجملة متفقا عليه ففيه في التفصيل نزاع بين العلماء إذ ليس كل ما هو ذريعة إلى ممنوع يمنع بدليل الخلاف الواقع في بيوع الآجال وما كان نحوها غير أن أبا بكر الطرطوشي يحكي الاتفاق في هذا النوع استقراء من مسائل وقعت للعلماء منعوها سدا للذريعة وإذا ثبت الخلاف في بعض التفاصيل لم ينكر أن يقول به قائل في بعض ما نحن فيه ولنمثله أولا ثم نتكلم حكمه بحول الله .
فمن ذلك .
ما جاء في حديث من : نهي رسول الله A أن يتقدم شهر رمضان بصيام يوم أو يومين ووجه ذلك عند العلماء مخافة أن يعد ذلك من جملة رمضان .
ومنه ما ثبت عن عثمان Bه أنه كان لا يقصر في السفر فيقال له : ألست قصرت مع النبي A ؟ فيقول : بلى ! ولكني إمام الناس فينظر إلي الأعراب وأهل البادية أصلي ركعتين فيقول : هكذا فرضت فالقصر في السفر سنة أو واجب ومع ذلك تركه خوف أن يتذرع به لأمر حادث في الدين غير مشروع .
ومنه قصة عمر Bه في غسله من الاحتلام حتى أسفر وقوله لمن راجعه في ذلك وأن يأخذ من أثوابهم ما يصلي به ثم يغسل ثوبه على السعة : لو فعلته لكانت سنة بل أغسل ما رأيت وأنصح ما لم أر .
وقال حذيفة بن أسيد : شهدت أبا بكر وعمر Bهما وكانا لا يضحيان مخافة أن يرى أنها واجبة .
ونحو ذلك عن ابن مسعود Bه قال : إني لأترك أضحيتي ـ وإني لمن أيسركم ـ مخافة أن يظن الجيران أنها واجبة .
وكثير من هذا عن السلف الصالح .
وقد كره مالك إتباع رمضان بست من شوال وواقفه أبو حنيفة فقال : لا أستحبها مع ما جاء في ذلك من الحديث الصحيح وأخبر مالك عن غيره ممن يقتدى به أنهم كانوا لا يصومونها ويخافون بدعتها .
ومنه ما تقدم في اتباع الآثار كمجيء قبا ونحو ذلك .
وبالجملة فكل عمل أصله ثابت شرعا إلا أن في إظهار العمل به والمداومة عليه ما يخاف أن يعتقد أنه سنة فتركه مطلوب في الجملة أيضا من باب سد الذرائع ولذلك كره مالك دعاء التوجه بعد الإحرام وقبل القراءة وكره غسل اليد قبل الطعام وأنكر على من جعل ثوبه في المسجد أمامه في الصف .
ولنرجع إلى ما كنا فيه فاعلموا أنه إن ذهب مجتهد إلى عدم سد الذريعة في غير محل النص مما يتضمنه هذا الباب فلا شك أن العمل الواقع عنده مشروع ويكون لصاحبه أجره ومن ذهب إلى سدها ـ ويظهر ذلك من كثير من السلف من الصحابة والتابعين وغيرهم ـ فلا شك أن ذلك العمل ممنوع ومنعه يقتضي بظاهره أنه ملوم عليه وموجب للذم إلا أن يذهب إلى أن النهي فيه راجع إلى أمر مجاور فهو محل نظر واشتباه ربما يتوهم فيه انفكاك الأمرين بحيث يصح أن يكون العمل مأمورا به من جهة نفسه ومنهيا عنه من جهة مآله ولنا فيه مسلكان : .
أحدهما : التمسك بمجرد النهي في أصل المسألة كقوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا } وقوله تعالى : { ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم } وفي الحديث أنه E : .
[ نهى عن أن يجمع بين المتفرق ويفرق المجتمع خشية الصدقة ] .
و [ نهى عن بيع السلف ] وعلله العلماء بالربا المتذرع إليه في ضمن السلف ونهى عن الخلوة بالأجنبيات وعن سفر المرأة مع غير ذي محرم وأمر النساء بالاحتجاب عن أبصار الرجال والرجال بغض الابصار إلى أشباه ذلك مما عللوا الأمر فيه والنهي بالتذرع لا بغيره .
والنهي أصله أن يقع على المنهي عنه وإن كان معللا وصرفه إلى أمر مجاور خلاف أصل الدليل فلا يعدل عن الأصل إلا بدليل فكل عبادة نهى عنها فليست بعبادة إذ لو كانت عبادة لم ينه عنها فالعامل بها عامل بغير مشروع فإذا اعتقد فيها التعبد مع هذا النهي كان مبتدعا بها .
لا يقال : إن نفس التعليل يشعر بالمجاورة وإن الذي نهي عنه غير الذي أمربه وانفكاكهما متصور لأنا نقول : قد تقرر أن المجاور إذا صار كالوصف اللازم انتهض النهي عن الجملة لا عن نفس الوصف بانفراده وهو مبين في القسم الثاني .
المسلك الثاني : ما دل في بعض مسائل الذرائع على أن الذرائع في الحكم بمنزلة المتذرع إليه ومنه ما ثبت في الصحيح من قول رسول الله A : .
[ من أكبر الكبائر أن يسب الرجل والديه قالوا : يا رسول الله ! وهل يسب الرجل والديه ؟ قال : نعم يسب أبا الرجل فيسب أباه وأمه ] فجعل سب الرجل لوالدي غيره بمنزلة سبه لوالديه نفسه حتى ترجمه عنها بقوله : [ أن يسب الرجل والديه ] ولم يقل : أن يسب الرجل والديه أو نحو ذلك وهو غاية معنى ما نحن فيه .
ومثله حديث عائشة Bها مع أم ولد زيد بن أرقم Bه وقولها : أبلغي زيد بن أرقم أنه قد أبطل جهاده مع رسول الله A أن لم يبت وإنما يكون هذا الوعيد فيمن فعل ما لا يحل له لا مما فعله كبيرة حتى ترغب آخرا بالآية : { فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف } .
وهي نازلة في غير العمل بالربا فعدت العمل بما يتذرع به إلى الربا بمنزلة العمل بالربا مع أنا نقطع أن زيد بن أرقم وأم ولده لم يقصدوا قصد الربا كما لا يمكن ذا عقل أن يقصد والديه بالسب .
وإذا ثبت هذا المعنى في بعض الذرائع ثبت في الجميع إذ لا فرق فيما لم يدع مما لم ينص عليه إلا ألزم الخصم مثله في المنصوص عليه فلا عبادة أو مباحا يتصور فيه أن يكون ذريعة إلى غير جائز إلا وهو غير عبادة ولا مباح .
لكن هذا القسم إنما يكون النهي بحسب ما يصير وسيلة إليه في مراتب النهي إن كانت البدعة من قبيل الكبائر فالوسيلة كذلك أو من قبيل الصغائر فهي كذلك والكلام في هذه المسألة يتسع ولكن هذه الإشارة كافية فيها وبالله التوفيق