فصل وأما القسم الثاني : وهو أن يصير العمل أو غيره كالوصف للعمل المشروع .
وأما القسم الثاني : وهو أن يصير العمل العادي أو غيره كالوصف للعمل المشروع إلا أن الدليل على أن العمل المشروع لم يتصف في الشرع بذلك الوصف فظاهر الأمر انقلاب العمل المشروع غير مشروع ويبين ذلك من الأدلة عموم قوله E : .
[ كل عمل ليس عليه أمرنا فهو رد ] وهذا العمل عند اتصافه بالوصف المذكور عمل ليس عليه أمره E فهو إذا رد كصلاة الفرض مثلا إذا صلاها القادر الصحيح قاعدا أو سبح في موضع القراءة أو قرأ التسبيح وما أشبه ذلك .
وقد نهى E عن الصلاة بعد الصبح وبعد العصر ونهى عن الصلاة عند طلوع الشمس وغروبها فبالغ كثير من العلماء في تعميم النهي حتى عدوا صلاة الفرض في ذلك الوقت داخلا تحت النهي فباشر النهي الصلاة لأجل اتصافها بأنها واقعة في زمان مخصوص كما اعتبر فيها الزمان باتفاق في الفرض فلا تصلى الظهر قبل الزوال ولا المغرب قبل الغروب .
ونهى E عن صيام الفطر والأضحى والاتفاق على بطلان الحج في غير أشهر الحج فكل من تعبد لله تعالى بشيء من هذه العبادات الواقعة في غير أزمانها تعبد ببدعة حقيقية لا إضافية فلا جهة لها إلى المشروع بل غلبت عليها جهة الابتداع فلا ثواب فيها على ذلك التقدير فلو فرضنا قائلا يقول بصحة الصلاة الواقعة في وقت الكراهية أو صحة الصوم الواقع يوم العيد فعلى فرض أن النهي راجع إلى أمر لم يصر للعبادة كالوصف بل الأمر منفك منفرد ـ حسبما تبين بحول الله .
ويدخل في هذا القسم ما جرى به العمل في بعض الناس كالذي حكى القرافي عن العجم في اعتقاده كون صلاة الصبح يوم الجمعة ثلاث ركعات فإن قراءة سورة السجدة لما التزمت فيها وحوفظ عليها اعتقدوا فيها الركنية فعدوها ركعة ثالثة فصارت السجدة إذا وصفا لازما وجزءا من صلاة صبح الجمعة فوجب أن تبطل .
وعلى هذا الترتيب ينبغي أن تجري العبادات المشروعة إذا خصت بأزمان مخصوصة بالرأي المجرد من حيث فهمنا تلبسا بالأعمال على الجملة فصيروا ذلك الزائد وصفا فيه مخرج له عن أصله وذلك أن الصفة مع الموصوف من حيث هي صفة له لا تفارقه هي من جملته .
وذلك لأنا نقول : إن الصفة هي عين الموصوف إذا كانت لازمة له حقيقة أو اعتبارا ولو فرضنا ارتفاعها عنه لارتفع الموصوف من حيث هو موصوف بها كارتفاع الإنسان بارتفاع الناطق أو الضاحك فإذا كانت الصفة الزائدة على المشروع على هذه النسبة صار المجموع منهما غير مشروع فارتفع اعتبار المشروع الأصلي .
ومن أمثلة ذلك أيضا قراءة القرآن بالإدارة على صوت واحد فإن تلك الهيئة زائدة على مشروعية القراءة وكذلك الجهر الذي اعتاده أرباب الزوايا وربما لطف اعتبار الصفة فيشك في بطلان المشروعية كما وقع في العتبية عن مالك في مسألة الاعتماد في الصلاة لا يحرك رجليه وأن أول من أحدثه رجل قد عرف ـ قال ـ وقد كان مساء ( أي يساء الثناء عليه ) فقيل له : أفعيب ؟ قال : قد عيب عليه ذلك وهذا مكروه من الفعل ولم يذكر فيها أن الصلاة باطلة وذلك لضعف وصف الاعتماد أن يؤثر في الصلاة ولطفه بالنسبة إلى كمال هيئتها وهكذا ينبغي أن يكون النظر في المسألة بالنسبة إلى اتصاف العمل بما يؤثر فيه أو لا يؤثر فيه فإذا غلب الوصف على العمل كان أقرب إلى الفساد وإذا لم يغلب لم يكن أقرب وبقي في حكم النظر فيدخل ها هنا نظر الاحتياط للعبادة إذا صار العمل في الاعتبار من المتشابهات .
واعلموا أنه حيث قلنا : إن العمل الزائد على المشروع يصير وصفا لها أو كالوصف فإنما يعتبر بأحد أمور ثلاثة : إما القصد وإما بالعادة وإما بالشرع أو النقصان .
أما بالعادة فكالجهر والاجتماع في الذكر المشهور بين متصوفة الزمان فإن بينه وبين الذكر المشروع بونا بعيدا إذ هما كالمتضادين عادة وكالذي حكى ابن وضاح عن الأعمش عن بعض أصحابه قال : مر عبد الله برجل يقص في المسجد على أصحابه وهو يقول : سبحوا عشرا وهللوا عشرا : فقال عبد الله : إنكم لأهدى من أصحاب محمد A أو أضل بل هذه ( يعني أضل ) وفي رواية عنه أن رجلا كان يجمع الناس فيقول : رحم الله من قال كذا وكذا مرة سبحان الله ـ قال ـ فيقول القوم ويقول : رحم الله من قال كذا وكذا مرة الحمد لله ـ قال ـ فيقول القوم ـ قال ـ فمر بهم عبد الله بن مسعود Bه فقال لهم : هديتم لما لم يهد نبيكم ! وإنكم لتمسكون بذنب ضلالة .
وذكر له أن ناسا بالكوفة يسبحون بالحصى في المسجد فأتاهم وقد كوم كل رجل منهم بين يديه كوما من حصى ـ قال ـ فلم يزل يحصبهم بالحصى حتى أخرجهم من المسجد ويقول : لقد أحدثتم بدعة وظلما وقد فضلتم أصحاب محمد A علما ؟ فهذه أمور أخرجت الذكر المشروع كالذي تقدم من النهي عن الصلاة في الأوقات المكروهة أوالصلوات المفروضة إذا صليت قبل أوقاتها فإنا قد فهمنا من الشرع القصد إلى النهي عنها والمنهي عنه لا يكون متعبدا به وكذلك صيام يوم العيد .
وخرج ابن وضاح من حديث أبان بن أبي عباس قال : لقيت طلحة بن عبيد الله الخزاعي فقلت له : قوم من إخوانك من أهل السنة والجماعة لا يطعنون على أحد من المسلمين يجتمعون في بيت هذا يوما وفي بيت هذا يوما ويجتمعون يوم النيروز والمهرجان ويصومونها فقال طلحة : بدعة من أشد البدع والله لهم أشد تعظيما للنيروز والمهرجان من عبادتهم ثم استيقظ أنس بن مالك Bه فرقيت إليه وسألته كما سألت طلحة فرد علي مثل قول طلحة كأنهما كان على ميعاد فجعل صوم تلك الأيام من تعظيم ما تعظمه المجوس وذاك القصد لو كان أفسد للعبادة فكذلك ما كان نحوه .
وعن يونس بن عبيد أن رجلا قال للـ حسن : يا أبا سعيد ! ما ترى في مجلسنا هذا ؟ قوم من أهل السنة والجماعة لا يطعنون على أحد نجتمع في بيت هذا يوما وفي بيت هذا يوما فنقرأ كتاب الله وندعو لأنفسنا ولعامة المسلمين ؟ قال : فنهى الحسن عن ذلك أشد النهي .
والنقل في هذا المعنى كثير فلو لم يبلغ العمل الزائد ذلك المبلغ كان أخف وانفرد العمل بحكمه والعمل المشروع بحكمه كما حكى ابن وضاح عن عبد الرحمن أبي بكرة قال : كنت جالسا عند الأسود بن سريع وكان مجلسه في مؤخر المسجد الجامع فافتتح سورة بني إسرائيل حتى بلغ : ( وكبره تكبيرا ) فرفع أصواتهم الذين كانوا حوله جلوسا فجاء مجالد بن مسعود متوكئا على عصاه فلما رآه القوم قالوا : مرحبا اجلس قال : ما كنت لأجلس إليكم وإن كان مجلسكم حسنا ولكنكم صنعتم قبلي شيئا أنكره المسلمون فإياكم وما أنكر المسلمون فتحسينه المجلس كان لقراءة القرآن وأما رفع الصوت فكان خارجا عن ذلك فلم ينضم إلى العمل الحسن حتى إذا انضم إليه صار المجموع غير مشروع .
ويشبه هذا ما في سماع ابن القاسم عن مالك في القوم يجتمعون جميعا فيقرؤون في السورة الواحدة مثل ما يفعل أهل الإسكندرية فكره ذلك وأنكر أن يكون من عمل الناس .
وسئل ابن القاسم أيضا عن نحو ذلك فحكى الكراهية عن مالك ونهى عنها ورآها بدعة .
وقال في رواية أخرى عن مالك : وسئل عن القراءة بالمسجد فقال : لم يكن بالأمر القديم وإنما هو شيء أحدث ولم يأت آخر هذه الأمة بأهدى مما كان عليه أولها والقرآن حسن .
قال ابن رشد : يريد التزام القراءة في المسجد بإثر صلاة من الصلوات على وجه ما مخصوص حتى يصير ذلك كله ما يجامع قرطبة إثر صلاة الصبح ( قال ) : فرأى ذلك بدعة .
فقوله في الرواية : والقرآن حسن يحتمل أن يقال : إنه يعني أن تلك الزيادة من الاجتماع وجعله في المسجد منفصل لا يقدح في حسن قراءة القرآن ويحتمل ـ وهو الظاهر ـ أنه يقول : قراءة حسن على غير ذلك الوجه بدليل قوله في موضع آخر : ما يعجبني أن يقرأ القرآن إلا في الصلاة والمساجد لا في الأسواق والطرق فيريد أنه لا يقرأ إلا على النحو الذي يقرؤه السلف وذلك يدل على أن قراءة الإدارة مكروهة عنده فلا تفعل أصلا وتحرز بقوله : والقرآن حسن من توهم أنه يكره قراءة القرآن مطلقا فلا يكون في كلام مالك دليل على انفكاك الاجتماع من القراءة والله أعلم