فصل قال الله تعالى : يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم إلى آخر الآيتين .
قال الله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين } { وكلوا مما رزقكم الله حلالا طيبا واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون } روي في سبب نزول هذه الآية أخبار جملتها تدور على معنى واحد وهو يتحريم ما أحل الله من الطيبات تدينا أو شبه التدين والله نهى عن ذلك وجعله اعتداء والله لا يحب المعتدين ثم قرر الإباحة تقريرا زائدة على ما تقرر بقوله : { وكلوا مما رزقكم الله حلالا طيبا } ثم أمرهم بالتقوى وذلك مشعر بأن تحريم ما أحل الله خارج عن درجة التقوى .
فخرج إسماعيل القاضي من حديث أبي قلابة Bه قال : [ أراد ناس من أصحاب رسول الله A أن يرفضوا الدنيا وتركوا النساء وترهبوا فقام رسول الله A فغلظ فيهم المقالة فقال : إنما هلك من كان قبلكم بالتشديد شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم فأولئك بقاياهم في الديار والصوامع اعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وحجوا واعتمروا واستقيموا يستقم بكم ] قال : نزلت فيهم : { يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم } .
وفي الترمذي عن ابن عباس Bهما قال : .
[ إن رجلا أتى النبي A فقال : يا رسول الله ! إني إذا أصبت اللحم انتشرت للنساء وأخذتني شهوتي فحرمت علي اللحم فأنزل الله الآية ] حديث حسن .
وفي رواية عن ابن عباس Bهما قال : .
[ نزلت هذه الآية في رهط من أصحاب رسول الله A منهم أبو بكر وعمر وعلي وابن مسعود وعثمان بن مظعون والمقداد بن الأسودالكندي وسالم مولى أبي حذيفة Bهم اجتمعوا في دار عثمان بن مظعون الجمحي فتوافقوا أن يجبوا أنفسهم بأن يعتزلوا النساء ولا يأكلوا لحما ولا دسما وأن يلبسوا المسوح ولا يأكلوا من الطعام إلا قوتا وأن يسيحوا في الأرض كهيئة الرهبان فبلغ ذلك رسول الله A من أمرهم فأتى عثمان بن مظعون في منزله فلم يجده فيه ولا إياهم فقال لامرأة عثمان أم حكيم ابنة أبي أمية بن حارثة السلمي : أحق ما بلغني عن زوجك وأصحابه ؟ قالت : ما هو يا رسول الله ؟ فأخبرها فكرهت أن لا تحدث رسول الله A وكرهت أن تبدي على زوجها فقالت إن كان أخبرك عثمان فقد صدق فقال لها رسول الله A : قولي لزوجك وأصحابه إذا رجعوا : إن رسول الله يقول لكم : إني آكل وأشرب وآكل اللحم والدسم وأنام وآتي النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني فلما رجع عثمان وأصحابه أخبرتهم امرأته بما أمر به رسول الله A فقالوا : لقد بلغ رسول الله A أمرنا فما أعجبه فذروا ما كره رسول الله A ونزل فيها : { يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم } ] قال : من الطعام والشراب والجماع { ولا تعتدوا } قال : في قطع المذاكير { إن الله لا يحب المعتدين } قال : الحلال إلى الحرام .
وفي الصحيح [ عن عبد الله قال : .
كنا نغزو مع رسول الله A ليس معنا نساء فقلنا : ألا نختصي ؟ فنهانا عن ذلك فرخص لنا بعد ذلك أن نتزوج المرأة بالثوب إلى أجل ] يعني ـ والله أعلم ـ نكاح المتعة المنسوخ [ ثم قرأ ابن مسعود : { يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم } ] .
ثم ذكر إسماعيل عن يحيى بن يعمر : [ أن عثمان بن مظعون هم بالسياحة وهو يصوم النهار ويقوم الليل وكانت امرأته عطرة فتركت الكحل والخضاب فقالت لها امرأة من أزواج النبي A : أشهيد أنت أم مغيب ؟ فقالت : بل شهيد غير أن عثمان لا يريد النساء فذكرت ذلك للنبي A فلقيه رسول الله A فقال له : أتؤمن بما نؤمن به ؟ قال : نعم قال : فاصنع مثل ما نصنع { لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم } ] الآية .
وخرج سعيد بن منصور عن خضير عن أبي مالك قال : نزلت في عثمان بن مظعون وأصحابه كانوا حرموا عليهم كثيرا من الطعام والنساء وهم بعضهم أن يقطع ذكره فأنزل الله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا } الآية .
وعن قتادة قال : نزلت في ناس م نأصحاب رسول الله A أرادوا أن يتخلوا عن الدنيا وتركوا النساء وترهبوا منهم علي بن أبي طالب وعثمان بن مظعون .
وخرج ابن المبارك [ أن عثمان بن مظعون أتى النبي A فقال : أئذن لي في الإختصاء فقال النبي A : ليس منا من خصى أو اختصى إن اختصاء أمتي الصيام قال يا رسول الله ! ائذن لي في السياحة قال : إن سياحة أمتي الجهاد في سبيل الله قال : يا رسول الله ! ائذن لي في الترهب قال : إن ترهب أمتي الجلوس في المساجد لانتظار الصلاة ] .
وفي الصحيح : .
رد رسول الله A التبتل على عثمان بن مظعون ولو أذن له لاختصى .
وهذا كله واضح في أن جميع هذه الأشياء تحريم لما هو حلال في الشرع وإهمال لما قصد الشارع إعماله ـ وإن كان يقصد سلوك طريق الآخرة ـ لأنه نوع من الرهبانية في الإسلام .
وإلى منع تحريم الحلال ذهب الصحابة والتابعون ومن بعدهم إلا أنه إذا كان التحريم غير محلوف عليه فلا كفارة وإن كان محلوفا عليه ففيه الكفارة ويعمل الحالف بما أحل الله له .
ومن ذلك ما ذكر إسماعيل القاضي عن معقل أنه سأل ابن مسعود Bه فقال : إني حلفت أن لا أنام على فراشي سنة فتلا عبد الله : { يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا } الآية ادن فكل وكفر عن يمينك ونم على فراشك .
وفي رواية : كان معقل يكثر الصوم والصلاة فحلف أن لا ينام على فراشه فأتى ابن مسعود Bه فسأله عن ذلك فقرأ عليه الآية .
وعن المغيرة قال : قلت لإبراهيم في هذه الآية : { لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم } أهو الرجل يحرم الشيء مما أحل الله له ؟ قال : نعم .
وعن مسروق قال : أتى عبد الله بضرع فقال للقوم : ادنوا فأخذوا يطعمون فقال رجل : إني حرمت الضرع فقال عبد الله : هذا من خطوات الشيطان { يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم } ادن فكل وكفر عن يمينك .
وعلى ذلك جرت الفتيا في الإسلام : إن كل من حرم على نفسه شيئا مما أحل الله له فليس ذلك التحريم بشيء فليأكل إن كان مأكولا وليشرب إن كان مشروبا وليلبس إن كان ملبوسأ وليملك إن كان مملوكا وكأنه إجماع منهم منقول عن مالك و أبي حنيفة و الشافعي وغيرهم واختلفوا في الزوجة ومذهب مالك أن التحريم طلاق كالطلاق الثلاث وما سوى ذلك فهو باطل لأن القرآن شهد بكونه اعتداء حتى إنه إن حرم على نفسه وطء أمة غيره قاصدا به العتق فوطؤها حلال وكذلك سائر الأشياء من اللباس والمسكن والصمت والاستظلال والاستضحاء وقد تقدم الحديث في الناذر للصوم قائما في الشمس ساكتا فإنه تحريم للجلوس والكلام والاستظلال والنبي A أمره بالجلوس والتكلم والاستظلال قال مالك : أمره ليتم ما كان له فيه طاعة ويترك ما كان عليه فيه معصية .
فتأملوا كيف جعل مالك ترك الحلال معصية ! وهو مقتضى الآية في قوله تعالى : { ولا تعتدوا } الآية ومقتضى قول ابن مسعود Bه لصاحب الضرع : هذا من خطوات الشيطان .
وقد ضعف ابن رشد الحفيد الاستدلال من المالكية بالحديث وتفسير مالك له وذكر أن قوله في الحديث : ويترك ما كان عليه فيه معصية ليس بالظاهر أن ترك الكلام معصية وقد أخبر الله تعالى أنه نذر مريم ـ قال ـ وكذلك يشبه أن يكون القيام للشمس ليس معصية إلا ما يتعلق من جهة تعب الجسم والنفس وقد يستحب للحاج أن لا يستظل فإن قيل : فيه معصية فالقياس على ما نهي عنه من التعب لا بالنص والأصل فيه أنه من المباحات .
وما قاله ابن رشد غير ظاهر ولم يقل مالك في الحديث ما قال استنباطا منه بل الظاهر أنه استدل بالآية المتكلم فيها وحمل الحديث عليها بترك الكلام وإن كان في الشرائع الأول مشروعا فهو منسوخ بهذه الشريعة فهو عمل في مشروع بغير مشروع وكذلك القيام في الشمس زيادة من باب تحريم الحلال وإن استحب في موضع فلا يلزم استحبابه في آخر