فصل إذا ثبت هذا فالدخول في عمل على نية الإلتزام له .
إذا ثبت هذا فالدخول في عمل على نية الإلتزام له إن كان في المعتاد بحيث إذا داوم عليه أورث مللا ينبغي أن يعتقد أن هذا الالتزام مكروه ابتداء إذ هو مؤد إلى أمور جميعها منهي عنه : .
أحدها : أن الله ورسوله أهدى في هذا الدين التسهيل والتيسير وهذا الملتزم يشبه من لم يقبل هديته وذلك يضاهي ردها على مهديها وهو غير لائق بالمملوك مع سيده فكيف يليق بالعبد مع ربه ؟ .
والثاني : خوف التقصير أو العجز عن القيام بما هو أولى وآكد في الشرع وقال A إخبارا عن داود عليه السلام : .
[ إنه كان يصوم يوما ويفطر يوما ولا يفر إذا لاقى ] تنبيها على أنه لم يضعفه الصيام عن لقاء لعدو فيفر ويترك الجهاد في مواطن نكيده بسبب ضعفه .
وقيل لعبد الله بن مسعود Bه : إنك لتقل الصوم فقال : إنه يشغلني عن قراءة القرآن وقراءة أحب إلي منه .
ولذلك كره مالك إحياء الليل كله وقال : لعله يصبح مغلوبا وفي رسوله الله A أسوة ثم قال : لا بأس به ما لم يضر بصلاة الصبح .
وقد جاء في : صيام يوم عرفة أنه يكفر سنتين ثم إن الإفطار فيه للحاج أفضل لأنه قوة على الوقوف والدعاء ولابن وهب في ذلك حكاية وقد جاء في الحديث : .
[ إن لأهلك عليك حقا ولزوارك عليك حقا ولنفسك عليك حقا ] فإذا انقطع إلى عباده لا تلزمه الأصل فربما أخل بشيء من هذه الحقوق .
وعن أبي جحيفة رضي الله تعالى عنه قال : .
[ آخر ما آخى رسول الله A بين سلمان وأبي الدرداء فزارسلمان أبا الدرداء فرأى أم الدرداء متبذلة فقال : ما شأنك مبتذلة ؟ قالت : إن أخاك أبا الدرداء ليست له حاجة في الدنيا قال : فلما جاء ابو الدرداء قرب إليه طعاما فقال : كل فإني صائم قال : ما أنا بآكل حتى تأكل قال : فأكل فلما كان الليل ذهب ابو الدرداء ليقوم فقال له سلمان : نم فنام ثم ذهب يقوم فقال له : نم فنام فلما كان عند الصبح قال له سلمان : قم الآن فقاما فصليا فقال سلمان : إن لنفسك عليك حقا ولربك عليك حقا ولضيفك عليك حقا ولأهلك عليك حقا فأعط لكل ذي حق حقه فأتيا النبي A فذكرا ذلك له فقال : صدق سلمان ] قال الترمذي : صحيح وهذا الحديث قد جمع التنبيه على حق الأهل بالوطء والاستمتاع وما يرجع إليه والضيف بالخدمة والتأنيس والمؤاكلة وغيرها والولد يالقيام عليهم بالاكتساب والخدمة والنفس بترك إدخال المشتقات عليها وحق الرب سبحانه بجميع ما تقدم وبوظائف أخر فرائض ونوافل آكد مما هو فيه .
والواجب أن يعطى لكل ذي حق حقه وإذا التزم الإنسان أمرا من الأمور المندوبة أو أمرين أو ثلاثة فقد يصده ذلك عن القيام بغيرها أو عن كماله على وجهة فيكون ملوما .
والثالث : خوف كراهية النفس لذلك العمل الملتزم لأنه قد فرض من جنس ما يشق الدوام عليه فتدخل المشقة بحيث لا يقرب من وقت العمل إلا والنفس تشمئز منه وتود لو لم تعمل أو تتمنى لو لم تلتزم وإلى هذا المعنى يشير حديث عائشة Bها عن النبي A أنه قال : .
[ إن هذا الدين متين فأوغلوا فيه برفق ولا تبغضوا لأنفسكم عبادة الله فإن المنبت لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى ] يشبه الموغل بالعنف بالمنبت وهو المنقطع في بعض الطريق تعنيفا على الظهر ـ وهو المركوب ـ حتى وقف فلم يقدر على السير ولو رفق بدايته لوصل إلى رأس المسافة .
فكذلك الإنسان عمره مسافة والغاية الموت ودابته نفسه فكما هو المطلوب الرفق بنفسه حتى يسهل عليها قطع مسافة العمر بحمل التكليف فنهى في الحديث عن التسبب في تبغيض العبادة للنفس وما نهى الشرع عنه لا يكون حسنا .
وخرج الطبراني من حديث ابن عباس Bهما قال : .
[ لما نزلت : { يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا * وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا } دعا رسول الله A عليا ومعاذا فقال : انطلقا فبشرا ويسرا ولا تعسرا فإني أنزلت علي : { يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا * وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا } ] .
وخرج مسلم [ عن سعيد بن أبي بردة عن أبيه عن جده : أن النبي A بعثه ومعاذا إلى اليمن فقال : .
بشرا ولا تنفرا ويسرا ولا تعسرا وتطاوعا ولا تختلفا ] .
وعنه [ أن النبي A كان إذا بعث أحدا من أصحابه في بعض أمره قال : بشروا ولا تنفروا ويسروا ولا تعسروا ] وهذا نهي عن التعسير الذي التزام الحرج في التعبد نوع منه .
وفي الطبري عن جابر بن عبد الله قال : [ مر النبي A على رجل يصلي على صخرة بمكة فأتى ناحية مكة فمكث مليا ثم انصرف فوجد الرجل يصلي على حاله فقال : أيها الناس عليكم بالقصد والقسط ـ ثلاثاـ فإن الله لن يمل حتى تملوا ] .
وعن بريدة الأسلمي : .
[ أن النبي A رأى رجلا يصلي فقال : من هذا ؟ فقلت : هذا فلان فذكرت من عبادته وصلاته فقال : إن خير دينكم يسره ] .
وهذا يشعر بعدم الرضا بتلك الحالة وإنما ذلك مخافة الكراهية للعمل وكراهية العمل مظنة للترك الذي هو مكروه لمن ألزم نفسه لأجل نقض العهد .
وهو الوجه الرابع : وقد مر في الوجه الثالث ما يدل عليه فإن قوله A : [ فإن المنبت لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى ومع قوله : ولا تبغضوا إلى أنفسكم العبادة ] يدل على أن بعض العمل وكراهيته مظنة الانقطاع ولذلك مثل A بالمنبت ـ وهو المنقطع عن استيفاء المسافة ـ وهو الذي دل عليه قول الله تعالى : { فما رعوها حق رعايتها } على التفسير المذكور .
والخامس : الخوف من الدخول تحت الغلو في الدين فإن الغلو هو المبالغة في الأمر ومجاوزة الحد فيه إلى حيز الإسراف وقد دل عليه مما تقدم أشياء حيث قال النبي A : [ يا ايها الناس عليكم أنفسكم بالقصد ] الحديث وقال الله D : { يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم } .
[ وعن ابن عباس Bهما قال : قال لي رسول الله A غداة العقبة : اجمع لي حصيات من حصى الحذف فلما وضعتهن في يده قال : بأمثال هؤلاء ؟ بأمثال هؤلاء ؟ إياكم والغلو في الدين فإنما هلك من كان قبلكم بالغلو في الدين ] .
فأشار إلى أن الآية في النهي عن الغلو يشتمل معناها على كل ما هو غلو وإفراط واكثر هذه الأحاديث المقيدة آنفا اخرجها الطبري .
وخرج أيضا عن يحيى بن جعدة قال : كان يقال اعمل وأنت مشفق ودع العمل وأنت تحبه : عمل دائم وإن قل خير من عمل كثير منقطع وأتى معاذا رجل فقال : أوصني قال : أمطيعي أنت ؟ قال : نعم قال : صل ونم وأفطر وصم واكتسب ولا تأت الله إلا وأنت مسلم وإياك ودعوة المظلوم .
وعن إسحاق بن سويد [ أن رسول الله A قال لعبد بن مطرف : يا عبد الل ه العلم أفضل من العمل والحسنة بين السيئتين وخير الأمور أوسطها وشر السير الحقحقة ] .
ومعنى قوله : [ إن الحسنة بين السيئتين ] أن الحسنة هي القصد والعدل والسيئتين مجاوزة الحد والتقصير وهو الذي دل على معناه قول الله تعالى : { ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط } الآية وقوله : { والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا } الآية ومعنى الحقحقة ارفع السير وإتعاب الظهر وهو راجع إلى الغلو والإفراط .
ونحوه عن يزيد بن مرة الجعفي قال : العلم خير من العمل والحسنة بين السيئتين .
وعن كعب الأحبار : إن هذا الدين متين فلا تبغض إليك دين الله وأوغل برفق فإن المنبت لم يقطع بعدا ولم يسبق ظهرا واعمل عمل المرء الذي يرى أنه لا يموت اليوم واحذر حذر المرء الذي يرى أنه يموت غدا .
وخرج ابن وهب نحوه عن عبد الله بن عمرو بن العاص .
وهذه إشارة إلى الأخذ بالعمل الذي يقتضي المداومة عليه من غير حرج .
وعن عمر بن إسحاق قال أدركت من أصحاب رسول الله A أكثر ممن سبقني منهم ؟ فمارأيت قوما أيسر سيرة ولا أقل تشديدا منهم .
وقال الحسن : دين الله وضع فوق التقصير ودون الغلو .
والأدلة في هذا المعنى جميعها راجع إلى أنه لا حرج في الدين والحرج كما ينطبق على الحرج الحالي ـ كالشروع في عبادة شاقة في نفسها ـ كذلك ينطلق على الحرج المآلي إذ كان الحرج لازما مع الدوام كقصة عبد الله بن عمرو Bهما وغيرها ـ مما تقدم ـ مع أن الدوام مطلوب حسبما اقتضاه قول ابي أمامة Bه في قوله تعالى : { فما رعوها حق رعايتها } وقوله A : .
[ أحب العمل إلى الله ما داوم عليه صاحبه وإن قل ] فلذلك كان A إذا عمل عملا أثبته حتى قضى ركعتين ما بين الظهر والعصر بعد العصر .
هذا إن كان العامل لا ينوي الدوام فيه فكيف إذ عقد في نيته أن لا يتركه ؟ فهو أحرى بطلب الدوام فلذلك [ قال رسول الله A لعبد الله بن عمرو : يا عبد الله لا تكن مثل فلان كان يقوم الليل فترك قيام الليل ] وهو حديث صحيح فنهاه A أن يكون مثل فلان وهو ظاهر في كراهته الترك من ذلك الفلان وغيره .
فالحاصل أن هذا القسم الذي هو مظنة للمشقة عند الدوام ـ مطلوب الترك لعلة كثرته ففهم عند تقريره أنه إذا فقدت زال طلب الترك وإذا ارتفع طلب الترك رجع إلى أصل العمل ـ وهو طلب الفعل ـ .
فالداخل فيه على التزام شرطه داخل في مكروه ابتداء من وجه لإمكان عدم الوفاء بالشرط وفي المندوب إليه حملا على ظاهر العزيمة على الوفاء .
فمن حيث الندب أمره الشارع بالوفاء ومن حيث الكراهية كره له أن يدخل فيه .
وحين صارت الكراهة هي المقدمة كان دخوله في العمل لقصد القربة يشبه الدخول فيه بغير أمر فأشبه المبتدع الداخل في عبادة غير مأمور بها فقد يستسهل بهذا الاعتبار إطلاق البدعة عليها كما استسهله أبو أمامة Bه .
ومن حيث كان العمل مأمورا به ابتداء قبل النظر في المآل أو مع قطع النظر عن المشقة أو مع اعتقاد الوفاء بالشرط أشبه صاحبه من دخل في نافلة قصدا للتعبد بها وذلك صحيح جار على مقتضى أدلة الندب ولذلك أمر بعد الدخول فيه بالوفاء كان نذرا أو التزاما بالقلب غير نذر ولو كان بدعة داخلة في حد البدعة لم يؤمر بالوفاء ولكان عمله باطلا .
ولذلك جاء في الحديث [ أن رسول الله A رأى رجلا قائما في الشمس فقال : مابال هذا ؟ فقالوا : نذر أن لا يستظل ولا يتكلم ولا يجلس ويصوم فقال A : مروه فليجلس وليتكلم وليستظل وليتم صيامه ] .
فأنت ترى كيف أبطل عليه التبدع بما ليس بمشروع وأمره بالوفاء بما هو مشروع في الأصل فلولا الفرق بينهما معنى لم يكن للتفرقة بينهما معنى مفهوم وأيضا فإذا كان الداخل مأمورا بالدوام لزم من ذلك أن يكون الدخول طاعة بل لا بد لأن المباح فضلا عن المكروه والمحرم لا يؤمر بالدوام عليه ولا نظير لذلك في الشريعة عليه أيد قوله A : .
[ من نذر أن يطيع الله فليطعه ] ولأن الله مدح من أوفى بنذره في قوله سبحانه : { يوفون بالنذر } في معرج المدح وترتب الجزاء الحسن وفي آية الحديد : { فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم } ولا يكون الأجر إى على مطلوب شرعا .
فتأملوا هذا المعنى فهو الذي يجري عليه عمل السلف الصالح Bهم بمقتضى الأدلة وبه يرتفع إشكال التعارض الظاهر لبادي الرأي حتى تنتظم الآيات والأحاديث وسير من تقدم والحمد لله غير أنه يبقى بعدها إشكالان قويان وبالنظر في الجواب عنهما ينتظم معنى المسألة على تمامه فنعقد في كل إشكال فصلا