النوع الثاني الجهل بالمقاصدأن الله تعالى أنزل الشريعة فيها تبيان كل شيء .
أن الله تعالى أنزل الشريعة على رسوله A فيها تبيان كل شيء يحتاج إليه الخلق في تكاليفهم التي أمروا بها وتعبداتهم التي طوقوها في أعناقهم ولم يمت رسول الله A حتى كمل الدين بشهادة الله تعالى بذلك حيث قال تعالى : { اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا } فكل من زعم أنه بقي في الدين شيء لم يكمل فقد كذب بقوله : اليوم أكملت لكم دينكم .
فلا يقال : قد وجدنا من النوازل والوقائع المتجددة ما لم يكن في الكتاب ولا في السنة نص عليه ولا عموم ينتظمه وأن مسائل الجد في الفرائض والحرام في الطلاق ومسألة الساقط على جريح محفوف بجرحى وسائر المسائل الاجتهادية التي لا نص فيها من كتاب ولا سنة فأين الكلام فيها ؟ .
فيقال في الجواب : أولا أن قوله تعالى : { اليوم أكملت لكم دينكم } إن اعتبرت فيها الجزئيات من المسائل والنوازل فهو كما أوردتم ولكن المراد كلياتها فلم يبق للدين قاعدة يحتاج إليها في الضروريات والحاجيات أو التكميليات إلا وقد بينت غاية البيان نعم يبقى تنزيل الجزئيات على تلك الكليات موكولا إلى نظر المجتهد فإن قاعدة الاجتهاد أيضا ثابتة في الكتاب والسنة فلا بد من إعمالها ولا يسع الناس تركها وإذا ثبت في الشريعة أشعرت بأن ثم مجالا للإجتهاد ولايوجد ذلك إلا فيما لا نص فيه ولو كان المراد بالآية الكمال بحسب تحصيل الجزئيات بالفعل فالجزئيات لا نهاية لها فلا تنحصر بمرسوم وقد نص العلماء على هذا المعنى فإنما المراد الكمال بحسب ما يحتاج إليه من القواعد التي يجري عليها ما لا نهاية له من النوازل .
ثم نقول ثانيا : إن النظر في كمالها بحسب خصوص الجزئيات يؤدي إلى الإشكال والالتباس وإلا فهو الذي أدى إلى إيراد هذا السؤال إذ لو نظر السائل إلى الحالة التي وضعت عليها الشريعة وهي حالة الكلية لم يورد سؤاله لأنها موضوعة على الأبدية وإن وضعت الدنيا على الزوال والنهاية .
وأما الجزئية فموضوعة على النهاية المؤدية إلى الحصر في التفصيل وإذ ذاك قد يتوهم أنها لم تكمل فيكون خلافا لقوله تعالى : { اليوم أكملت لكم دينكم } وقوله تعالى : { ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل } الآية ولا شك أن كلام الله هو الصادق وما خالفه فهو المخالف فظاهر إذ ذاك أن الآية على عمومها وإطلاقها وأن النوازل التي لا عهد بها لا تؤثر في صحة هذا الكمال لأنها إما محتاج إليها وإما غير محتاج إليها فإن كانت محتاجا إليها فهي مسائل الاجتهاد الجارية على الأصول الشرعية فأحكامها قد تقدمت ولم يبق إلا منظر المجتهد إلى أي دليل يستند خاصة وإن كانت غير محتاج إليها فهي البدع المحدثات إذ لو كانت محتاجا إليها لما سكت عنها في الشرع لكنها مسكوت عنها بالفرض ولا دليل عليها فيه كما تقدم فليست بمحتاج إليها فعلى كل تقدير قد كمل الدين والحمد لله .
ومن الدليل على أن هذا المعنى هو الذي فهمه الصحابة Bهم أنهم لم يسمع عنهم قط إيراد ذلك السؤال ولا قال أحد منهم : لم لم ينص على حكم الجد مع الإخوة ؟ وعلى حكم من قال لزوجته : أنت علي حرام ؟ واشباه ذلك مما لم يجدوا فيه عن الشارع نصا بل قالوا فيها وحكموا بالاجتهاد واعتبروا بمعان شرعية ترجع في التحصيل إلى الكتاب والسنة وإن لم يكن بالنص فإنه بالمعنى فقد ظهر إذا وجه كمال الدين على أتم الوجوه .
وننتقل منه إلى معنى آخر وهو أن الله سبحانه وتعالى أنزل القرآن مبرأ عن الإختلاف والتضاد ليحصل فيه كمال التدبر والاعتبار فقال سبحانه وتعالى : { أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا } فدل معنى الآية على أنه بريء من الاختلاف فهو يصدق بعضه بعضا ويعضد بعضه بعضا من جهة اللفظ ومن جهة المعنى .
فأما جهة اللفظ فإن الفصاحة فيه متواترة مطردة بخلاف كلام المخلوق .
فإنك تراه إلى الاختلاف ما هو فيأتي بالفصل من الكلام الجزل الفصيح فلا يكاد يختمه إلا وقد عرض له في أثنائه ما نقص من منصب فصاحته وهكذا تجد القصيدة الواحدة منها ما يكون على نسق الفصاحة اللائقة ومنها ما لا يكون كذلك .
وأما جهة المعنى فإن معاني القرآن على كثرتها أو على تكرارها بحسب مقتضيات الأحوال على حفظ وبلوغ غاية في إيصالها إلى غايتها من غير إخلال بشيء منها ولا تضاد ولا تعارض على وجه لا سبيل إلى البشر أن يدانوه ولذلك لما سمعته أهل البلاغة الأولى والفصاحة الأصلية ـ وهم العرب ـ لم يعارضوه ولم يغيروا في وجه إعجازه بشيء مما نفي الله تعالى عنه وهم أحرص ما كانوا على الإعتراض فيه والغض من جانبه ثم لما أسلموا وعاينوا معانيه وتفكروا في غرائبه لم يزدهم البحث إلا بصيرة في أنه لا اختلاف فيه ولا تعارض والذي نقل من ذلك يسير توقفوا فيه توقف المسترشد حتى يرشدوا إلى وجه الصواب أو توقف المتثبت في الطريق .
وقد صح أن سهل بن حنيف قال يوم صفين وحكم الحكمين : يا أيها الناس اتهموا رأيكم فلقد رأيتنا مع رسول الله A يوم أبي جندل ولو نستطيع أن نرد على رسول الله A أمره لرددناه وإيم الله ما وضعنا سيوفنا من على عواتقنا منذ أسلمنا لأمر يفظعنا إلا أسهلن بنا أمر نعرفه الحديث .
فوجد الشاهد منه أمران : قوله اتهموا الرأي فإن معارضة الظواهر في غالب الأمر رأي غير مبني على أصل يرجع إليه وقوله في الحديث ـ وهو النكتة في الباب ـ : والله ما وضعنا سيوفنا إلى آخره فإن معناه : أن كل ما ورد عليهم في شرع الله مما يصادم الرأي فإنه حق يتبين على التدريج حتى يظهر فساد ذلك الرأي وأنه كان شبهة عرضت وإشكالا ينبغي أن لا يلتفت إليه بل يتهم أولا ويعتمد على ما جاء في الشرع فإنه إن لم يتبين اليوم تبين غدا ولو فرض أنه لا يتبين أبدا فلا حرج فإنه متمسك بالعروة الوثقى .
وفي الصحيح [ عن عمر Bه قال : سمعت هشام بن حكيم بن حزام يقرأ سورة الفرقان في حياة رسول الله A فاستمعت لقراءته فإذا هو يقرأ على حروف كثيرة لم يقرئنيها رسول الله A فكدت أساوره في الصلاة فصبرت حتى سلم فلببته بردائه فقلت : من أقرأك هذه السورة التي سمعتك تقرأ ؟ فقال : أقرأنيها رسول الله A فقلت : كذبت فإن رسول الله A قد أقرأنيها على غير ما قرأت فانطلقت به أقوده إلى رسول الله A فقلت : إني سمعت هذا يقرأ سورة الفرقان على حروف لم تقرئنيها فقال رسول الله A : أرسله اقرأ يا هشام فقرأ عليه القراءة التي سمعته يقرأ فقال رسول الله A : كذلك أنزلت ـ ثم قال ـ اقرأ يا عمر ! القراءة التي أقرأني فقال ـ كذلك أنزلت إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف فاقرؤوا ما تيسر منه ] .
وهذه المسألة إنما هي إشكال وقع لبعض الصحابة في نقل الشرع بين لهم جوابه النبي A ولم يكن ذلك دليلا على أن فيه اختلافا فإن الاختلاف بين المكلفين في بعض معانيه أو مسائله لا يستلزم أن يكون فيه نفسه اختلاف فقد اختلفت الأمم في النبوات ولم يكن ذلك دليلا على وقوع الاختلاف في نفس النبوات واختلفت في مسائل كثيرة من علوم التوحيد ولم يكن اختلافهم دليلا على وقوع الاختلاف فيما اختلفوا فيه فكذلك ما نحن فيه .
وإذا ثبت هذا صح منه أن القرآن في نفسه لا اختلاف فيه ثم نبني على هذا معنى آخر وهو أنه لما تبين تنزهه عن الاختلاف صح أن يكون حكما بين جميع المختلفين لأنه إنما يقرر معنى هو الحق والحق لا يختلف في نفسه فكل اختلاف صدر من مكلف فالقرآن هو المهيمن عليه قال الله تعالى : { فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا } فهذه الآية وما أشبهها صريحة في الرد إلى كتاب الله تعالى وإلى سنة نبيه لأن السنة بيان الكتاب وهو دليل على أن الحق فيه واضح وأن البيان فيه شاف لا شيء بعده يقوم مقامه وهكذا فعل الصحابة Bهم لأنهم كانوا إذا اختلفوا في مسألة ردوها إلى الكتاب والسنة وقضاياهم شاهدة بهذا المعنى لا يجهلها من زوال الفقه فلا فائدة في جلبها إلى هذا الموضع لشهرتها فهو إذا مما كان عليه الصحابة