فمن القسم الأول من لا ترجى توبته الخوارج ومن القسم الثاني من ترجى توبته أهل التقبيح والتحسين على الجملة ومن عد مذهب الظاهرية من البدع .
فمن القسم الأول الخوارج بشهادة الصادق المصدوق رسول الله A حيث قال : .
[ يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية ] ومنه هؤلاء الذين أعرقوا في البدعة حتى اعترضوا على كتاب الله وسنة نبيه وهم بالتكفير أحق من غيرهم ممن لم يبلغ مبلغهم .
ومن القسم الثاني أهل التحسين والتقبيح على الجملة إذا لم يؤدهم عقلهم إلى ما تقدم .
ومنه ما ذهب إليه الظاهرية ـ على رأي من عدها من البدع ـ وما أشبه ذلك وذلك أنه يقول : من خرج عن الفرق ببدعته وإن كانت جزئية فلا يخلو صاحبها من تجاريها في قلبه وإشرابها له لكن على قدرها وبذلك أيضا تدخل تحت ما تقدم من الأدلة على أن لا توبة له لكن التجاري المشبه بالكلب لا يبلغه كل صاحب بدعة إلا أنه يبقى وجه التفرقة بين من أشرب قلبه بدعة من البدع ذلك الإشراب وبين من لم يبلغ ممن هو معدود في الفرق فإن الجميع متصفون بوصف الفرقة التي هي نتيجة العداوة والبغضاء .
وسبب التفريق بينهما ـ والله أعلم ـ أمران : إما أن يقال : إن الذي أشربها من شأنه أن يدعو إلى بدعته فيظهر بسببها المعاداة والذي لم يشربها لا يدعو إليها ولا ينتصب للدعاء إليها ووجه ذلك أن الأول لم يدع إليها إلا وهي وقد بلغت من قلبه مبلغا عظيما بحيث يطرح ما سواها في جنبها حتى صار ذا بصيرة فيها لا ينثني عنها وقد أعمت بصره وأصمت سمعه واستولت على كليته وهي غاية المحبة ومن أحب شيئا من هذا النوع من المحبة وإلى بسببه وعادى ولم يبال بما لقي في طريقه بخلاف من لم يبلغ ذلك المبلغ فإنما هي عنده بمنزلة مسألة علمية حصلها ونكته اهتدى إليها فهي مدخرة في خزانة حفظه يحكم بها على من وافق وخالف لكن بحيث يقدر على إمساك نفسه عن الإظهار مخافة النكال والقيام عليه بأنواع الإضرار ومعلوم أن كل من داهن على نفسه في شيء وهو قادر على إظهاره لم يبلغ منه ذلك الشيء مبلغ الاستيلاء فكذلك البدعة إذا استخفى بها صاحبها .
وإما أن يقال : إن من أشربها ناصب عليها بالدعوة المقترنة بالخروج عن الجماعة والسواد الأعظم وهي الخاصية التي ظهرت في الخوارج وسائر من كان على رأيهم .
ومثل ما حكى ابن العربي في العواصم قال : أخبرني جماعة من أهل السنة بمدينة السلام : أنه ورد بها الأستاذ ابو القاسم عبد الكريم بن هوران القشيري الصوفي من نيسابور فعقد مجلسا للذكر وحضر فيه كافة الخلق وقرأ القارىء : { الرحمن على العرش استوى } قال لي أخصهم : من أنت ـ يعني الحنابلة ـ يقومون في أثناء المجلس ويقولون قاعد ! بأرفع صوت وأبعده مدى وثار إليهم أهل السنة من أصحاب القشيري ومن أهل الحضرة وتثاور الفئتان وغلبت العامة فاحجروهم إلى مدرسة النظامية وحصروهم فيها ورموهم بالنشاب فمات منهم قوم وركب زعيم الكفاة وبعض الدادية فسكنوا ثورانهم .
فهذا أيضا ممن أشرب قلبه حب البدعة حتى أداه ذلك إلى القتل فكل من بلغ هذا المبلغ حقيق أن يوصف بالوصف الذي وصف به رسول الله A وإن بلغ من ذلك الحرب .
وكذلك هؤلاء الذين داخلوا الملوك فأدلوا إليهم بالحجة الواهية وصغروا في أنفسهم حملة السنة وحماة الملة حتى وقفوهم مواقف البلوى وأذاقوهم مرارة البأساة والضراء وانتهى بأقوام إلى القتل حسبما وقعت المحنة به زمان بشر المريسي في حضرة المأمون وابن أبي داؤد وغيرهما .
فإن لم تبلغ البدعة بصاحبها هذه المناصبة فهو غير مشرب حبها في قلبه كالمثال في الحديث وكم من أهل بدعة لم يقوموا ببدعتهم قيام الخوارج وغيرهم بل استتروا بها جدا ولم يتعرضوا للدعاء إلبها جهارا كما فعل غيرهم ومنهم من يعد في العلماء والرواة وأهل العدالة بسبب عدم سهرتهم بما انتحلوه .
فهذا الوجه يظهر أنه أولى الوجوه بالصواب وبالله التوفيق