فصل : الوجه السادس من النقل .
ويصحح هذا النقل ما أشار إليه الحديث الصحيح في قوله E في الخوارج : .
[ يخرج من ضئضىء هذا قوم تحقرون صلاتكم مع صلاتهم وصيامكم مع صيامهم ـ إلى أن قال ـ يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية ] فبين أولا اجتهادهم ثم بين آخرا بعدهم من الله تعالى .
وهو بين أيضا من جهة أنه لا يقبل منه صرف ولا عدل كما تقدم فكل عمل يعمله على البدعة فكما لو لم يعمله ويزيد على تارك العمل بالعناد الذي تضمنه ابتداعه والفساد الداخل على الناس به في أصل الشريعة وفي فروع الأعمال والاعتقادات وهو يظن مع ذلك أن بدعته تقربه من الله وتوصله إلى الجنة .
وقد ثبت بالنقل الصحيح الصريح بأنه لا يقربه إلى الله إلا العمل بما شرع وعلى الوجه الذي شرع ـ وهو تاركه وأن البدع تحبط الأعمال ـ وهو ينتحلها .
وأما أن البدع مظنة إلقاء العداوة والبغضاء بين أهل الإسلام فلأنها تقتضي التفرق شيعا .
وقد أشار إلى ذلك القرآن الكريم حسبما تقدم في قوله تعالى : { ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات } وقوله : { ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله } وقوله : { ولا تكونوا من المشركين * من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا كل حزب بما لديهم فرحون } وقوله : { إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء } وما أشبه ذلك من الآيات في هذا المعنى .
وقد بين E : .
[ أن الفساد ذات البين هي الحالقة وأنها تحلق الدين ] هذه الشواهد تدل على وقوع الافتراق والعداوة عند وقوع الابتداع .
وأول شاهد عليه في الواقع قصة الخوارج إذ عادوا أهل الإسلام حتى صاروا يقتلونهم ويدعون الكفار كما أخبر عنه الحديث الصحيح ثم يليهم كل من كان له صولة منهم بقرب الملوك فإنهم تناولوا أهل السنة بكل نكال وعذاب وقتل أيضا حسبما بينه جميع أهل الأخبار .
ثم يليهم كل من ابتدع بدعة فإن من شأنهم أن يثبطوا الناس عن اتباع الشريعة ويذمونهم ويزعمون أنهم الأرجاس الأنجاس المكبين على الدنيا ويضعون عليهم شواهد الآيات في ذم الدنيا وذم المكبين عليها كما يروى عن عمرو بن عبيد أنه قال : لو شهد عندي علي وعثمان وطلحة والزبير على شراك نعل ما أجزت شهادتهم .
وعن معاذ بن معاذ قال : قلت لعمرو بن عبيد : كيف حدث الحسن عن عثمان أنه ورث امرأة عبد الرحمن بعد انقضاء عدتها ؟ فقال : إن فعل عثمان لم يكن سنة .
وقيل له : كيف حدث الحسن عن سمرة في السكتتين ؟ فقال : ما تصنع بسمرة ! قبح الله سمرة اهـ بل قبح الله عمرو بن عبيد وسئل يوما عم شيء فأجاب فيه .
قال الراوي : قلت ليس هكذا يقول أصحابنا قال : ومن أصحابك لا أبا لك ؟ قلت : أيوب ويونس وأبن عون والتميمي قال أولئك أنجاس أرجاس أموات غير أحياء .
فهكذا أهل الضلال يسبون السلف الصالح لعل بضاعتهم تنفق { ويأبى الله إلا أن يتم نوره } .
وأصل هذا الفساد من قبل الخوراج فهم أول من لعن السلف الصالح وكفر الصحابة B الصحابة ومثل هذا كله يورث العدواة والبغضاء .
وأيضا فإن فرقة النجاة وهم أهل السنة مأمورون بعداوة أهل البدع والتشريد بهم والتنكيل بمن انحاش إلى جهتهم يالقتل فما دونه وقد حذر العلماء من مصاحبتهم ومجالستهم حسبما تقدم وذلك مظنة إلقاء العداوة والبغضاء لكن الدرك فيها على من تسبب في الخوراج عن الجماعة بما أحدثه من اتباع غير سبيل المؤمنين لا على التعادي مطلقا كيف ونحن مأمورون بمعاداتهم وهم مأمورون بموالاتنا والرجوع إلى الجماعة ؟ .
وأما أنها مانعة من شفاعة محمد A فلما روي أنه عليه السلام قال : .
[ حلت شفاعتي لأمتي إلا صاحب بدعة ] ويشير إلى صحة المعنى فيه ما في الصحيح قال : .
[ أول من يكسى يوم القيامة إبراهيم وأنه سيؤتى برجال من أمتي فيؤخذ بهم ذات الشمال ـ إلى قوله فيقال لم يزالوا مرتدين على أعقابهم ] الحديث وقد تقدم ففيه أنه لم يذكر لهم شفاعة رسول الله A وإنما قال : [ فأقول لهم سحقا كما قال العبد الصالح ] ويظهر من أول الحديث أن ذلك الارتداء لم يكن ارتداد كفر لقوله : [ وإنه سيؤتى برجال من أمتي ] ولو كانوا مرتدين عن الإسلام لما نسبوا إلى أمته ولأنه عليه السلام أتى بالآية وفيها { وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم } ولو علم النبي A أنهم خارجون عن الإسلام جملة لما ذكرها لأن من مات على الكفر لا غفران له البتة وإنما يرجى الغفران لمن لم يخرجه عمله عن الإسلام لقول الله تعالى : { إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } .
ومثل هذا الحديث حديث الموطأ لقوله فيه : [ فأقول فسحقا فسحقا ] .
وأما أنها رافعة للسنن التي تقابلها فقد تقدم الاستشهاد عليه في أن الموقر لصاحبها معين على هدم الإسلام .
وأما أن على مبتدعها إثم من عمل بها إلى يوم القيامة فلقوله تعالى : { ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم } ولما في الصحيح من قوله E : .
[ من سن سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها ] الحديث .
وإلى ذلك أشار الحديث الآخر : .
[ ما من نفس تقتل ظلما إلا كان على ابن آدم الأول كفل منها لأنه أول من سن القتل ] .
وهذا التعليل يشعر بمقتضى الحديث قبله إذ علل تعليق الإثم على ابن آدم لكونه أول من سن القتل فدل على أن من سن ما لا يرضاه الله ورسوله فهو مثله إذ لم يتعلق الإثم بمن سن القتل لكونه قتلا دون غيره بل لكونه سن سنة سوء وجعلها طريقا مسلوكة .
ومثل هذا ما جاء في معناه مما تقدم أو يأتي كقوله : .
[ ومن ابتدع بدعة ضلالة لا ترضي الله ورسوله كان عليه مثل آثام من عمل بها لا ينقص ذلك من أوزار الناس شيئا ] وغير ذلك من الأحاديث .
فليتق الله امرؤ ربه ولينظر قبل الإحداث في أي مزلة يضع قدمه في مصون أمره يثق بعقله في التشريع ويتهم ربه فيما شرع ولا يدري المسكين ما الذي يوضع له في ميزان شيئاته مما ليس في حسابه ولا شعر أنه من عمله فما من بدعة يبتدعها أحد فيعمل بها من بعده إلا كتب عليه إثم ذلك العامل زيادة إلى إثم ابتداعه أولا ثم عمله ثانيا .
وإذا ثبت أن كل بدعة تبتدع فلا تزداد على طول الزمان إلا مضيا ـ حسبما تقدم ـ واشتهارا وانتشارا فعلى وزان ذلك يكون إثم المبتدع لها كما أن من سن سنة حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة وأيضا فإذا كانت كل بدعة يلزمها إماتة سنة تقابلها كان على المبتدع إثم ذلك أيضا فهو إثم زائد على إثم الابتداع وذلك الإثم يتضاعف تضاعف إثم البدعة بالعمل بها لأنها كلما تجددت في قول أو عمل تجددت في قول إماتة السنة كذلك .
واعتبروا ذلك ببدعة الخوراج فإن النبي A عرفنا بأنهم : .
[ يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية ] الحديث إلى آخره ففيه بيان أنهم لم يبق لهم من الدين إلا ما إذا نظر فيه الناظر شك فيه وتمارى هل هو موجود فيهم أم لا ؟ وإنما سببه الابتداع في دين الله وهو الذي دل عليه قوله : [ يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان ] وقوله : [ يقرؤون القرآن لا يتجاوز تراقيهم ] فهذه بدع ثلاث إعاذة الله بفضله .
وأما أن صاحبها ليس له من توبة فلما جاء من قوله E : .
[ إن الله حجر التوبة على كل صاحب بدعة ] .
وعن يحيى بن أبي عمرو الشيباني قال : كان يقال يأبى الله لصاحب بدعة بتوبة وما انتقل صاحب بدعة إلا إلى أشر منها .
ونحوه عن طريق علي بن أبي طالب Bه قال : ما كان رجل على رأي من البدعة فتركه إلا إلى ما هو شر منه .
خرج هذه الآثار ابن وضاح .
وخرج ابن وهب عن عمر بن عبد العزيز أنه كان يقول : اثنان لا نعاتبهما : صاحب طمع وصاحب هوى فإنهما لا ينزعان .
وعن ابن شوذب قال : سمعت عبد الله بن القاسم وهو يقول : ما كان عبد على هوى تركه إلا ما هو شر منه قال : فذكرت ذلك لبعض أصحابنا فقال : تصديقه في حديث عن النبي A : .
[ يمرقون من الدين مروق السهم من الرمية ثم لا يرجعون إليه حتى يرجع السهم على فوقه ] .
وعن أيوب قال : كان رجل يرى رأيا فرجع فأتيت محمدا فرحا بذلك أخبره فقلت : أشعرت أن فلانا ترك رأيه الذي كان يرى ؟ فقال : انظر إلام يتحول ؟ إن آخر الحديث أشد عليهم من الأول وأوله : [ يمرقون من الدين ] وآخره : [ ثم لا يعودون ] وهو حديث أبي ذر أن النبي A قال : .
[ سيكون من أمتي قوم يقرؤون القرآن ولا يجاوز حلاقيمهم يخرجون من الدين كما يخرج السهم من الرمية ثم لا يعودون فيه هم شر الخلق والخليقة ] .
فهذه شهادة الحديث الصحيح لمعنى هذه الآثار وحاصلها أنه [ لا ] توبة لصاحب البدعة عن بدعته فإن خرج عنها فإنما يخرج إلى ما هو شر منها كما في حديث أيوب أو يكون ممن يظهر الخروج عنها وهو مصر عليها بعد كقصة غيلان مع عمر بن عبد العزيز .
ويدل على ذلك أيضا حديث الفرق إذ قال فيه : .
[ وإنه سيخرج في أمتي أقوام تجارى بهم تلك الأهواء كما يتجارى الكلب بصاحبه لا يبقى منه عرق ولا مفصل إلا دخله ] وهذا النفي يقتضي العموم بإطلاق ولكنه قد يحمل على العموم العادي إذ لا يبعد أن يتوب عما رأى ويرجع إلى الحق كما نقل عن عبد الله بن الحسن العنبري وما نقلوه في مناظرة ابن عباس الحرورية الخارجين على علي Bه وفي مناظرة عمر بن عبد العزيز لبعضهم ولكن الغالب في الواقع الإصرار .
ومن هنالك قلنا : يبعد أن يتوب بعضهم لأن الحديث يقتضي العموم بظاهره وسيأتي بيان ذلك بأبسط من هذا إن شاء الله .
وسبب بعده عن التوبة أن الدخول تحت تكاليف الشريعة صعب على النفس لأنه أمر مخالف للهوى وصاد عن سبيل الشهوات فيثقل عليها جدا لأن الحق ثقيل والنفس إنما تنشط بما يوافق هواها لا بما يخالفه وكل بدعة فللهوى فيها مدخل لأنها راجعة إلى نظر مخترعها لا إلى نظر الشارع فعلى حكم التبع لا بحكم الأصل مع ضميمة أ خرى وهي أن المبتدع لا بد له من تعلق بشبهة دليل ينسبها إلى الشارع ويدعي أن ما ذكره هو مقصود الشارع فصار هواه مقصودا بدليل شرعي في زعمه فكيف يمكنه الخروج عن ذلك وداعي الهوى مستمسك بحسن ما يتمسك به ؟ وهو الدليل الشرعي في الجملة .
ومن الدليل على ذلك ما روي عن الأوزاعي قال : بلغني أن من ابتدع بدعة ضلالة آلفه الشيطان العبادة أو ألقى عليه الخشوع والبكاء كي يصطاد به وقال بعض الصحابة : أشد الناس عبداة مفتون واحتج بقوله E : [ يحقر أحدكم صلاته في صلاته وصيامه في صيامه ] إلى آخر الحديث .
ويحقق ما قاله الواقع كما نقل في الأخبار عن الخوارج وغيرهم .
فالمبتدع يزيد في الاجتهاد لينال في الدنيا التعظيم والمال والجاه وغير ذلك من أصناف الشهوات بل التعظيم على شهوات الدنيا ألا ترى إلى انقطاع الرهبان في الصوامع والديارات عن جميع الملذوذات ومقاساتهم في أصناف العبادات والكف عن الشهوات ؟ وهم مع ذلك خالدون في جهنم قال الله : { وجوه يومئذ خاشعة * عاملة ناصبة * تصلى نارا حامية } وقال : { قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا * الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا } وما ذاك إلا لخفة يجدونها في ذلك الالتزام ونشاط بداخلهم يستسهلون به الصعب بسبب ما داخل النفس من الهوى فإذا بدا للمبتدع ما هو عليه رآه محبوبا عنده لاستبعاده للشهوات وعمله من جملتها ورآه موافقا للدليل عنده فما الذي يصده عن الاستمساك به والازدياد منه ؟ وهو يرى أن أعماله أفضل من أعمال غيره واعتقاد أنه أوفق وأعلى ؟ أفيفيد البرهان مطلبا ؟ { كذلك يضل الله من يشاء ويهدي من يشاء } .
وأما أن المبتدع يلقى عليه الذل في الدنيا والغضب من الله تعالى : فلقوله تعالى : { إن الذين اتخذوا العجل سينالهم غضب من ربهم وذلة في الحياة الدنيا وكذلك نجزي المفترين } حسبما جاء في تفسير الآية عن بعض السلف وقد تقدم ووجهه ظاهر لأن المتخذين للعجل إنما ضلوا به حتى عبدوه لما سمعوا من خواره ولما ألقى إليهم السامري فيه فكان في حقهم شبهة خرجوا بها عن الحق الذي كان في أيديهم قال الله تعالى : { وكذلك نجزي المفترين } فهو عموم فيهم وفيمن أشبههم من حيث كانت البدع كلها افتراء على الله حسبما أخبر في كتابه في قوله تعالى : { قد خسر الذين قتلوا أولادهم سفها بغير علم وحرموا ما رزقهم الله افتراء على الله } .
فإذا كل من ابتدع في دين الله فهو ذليل حقير بسبب بدعته وإن ظهر لبادي الرأي عزه وجبريته فهم في أنفسهم أذلاء وأيضا فإن الذلة الحاضرة بين أيدينا موجودة في غالب الأحوال ألا ترى أحوال المبتدعة في زمان التابعين وفيما بعد ذلك ؟ حتى تلبسوا بالسلاطين ولاذوا بأهل الدنيا ومن لم يقدر على ذلك استخفى ببدعته وهرب بها عن مخالطة الجمهور وعمل بأعمالها على التقية .
وقد أخبر الله أن هؤلاء الذين اتخذوا العجل سينالهم ما وعدهم فأنجز الله وعده فقال : { وضربت عليهم الذلة والمسكنة وباءوا بغضب من الله } وصدق ذلك الواقع باليهود حيثما حلوا في أي مكان وزمان كانوا لا يزالون أذلاء مقهورين : { ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون } ومن جملة الاعتداء اتخاذهم العجل هذا بالنسبة إلى الذلة وأما الغضب فمضمون بصادق أن يكون المبتدع داخلا في حكم الغضب والله الواقي بفضله .
وأما البعد عن حوض رسول الله A فلحديث الموطأ : .
[ فليذادن رجال عن حوضي كما يذاد البعير الضال ] الحديث وفي البخاري عن أسماء عن النبي A أنه قال : .
[ أنا على حوضي أنتظر من يرد علي فيؤخذ بناس من دوني فأقول : أمتي ! فيقال : إنك لا تدري مشوا القهقرى ] وفي حديث عبد الله : .
[ أنا فرطكم على الحوض ليرفعن إلي رجال منكم حتى إذا تأهبت لأتناولهم اختلجوا دوني فأقول : أي رب ! أصحابي يقول : لا تدري ما أحدثوه بعدك ] .
والأظهر أنهم من الداخلين في غمار هذه الأمة لأجل ما دل على ذلك فيهم وهو الغرة والتحجيل لأن ذلك لا يكون لأهل الكفر المحض كان كفرهم أصلا أو ارتدادا .
ولقوله : [ قد بدلوا بعدك ] ولو كان الكفر لقال : قد كفروا بعدك وأقرب ما يحمل عليه تبديل السنة وهو واقع على أهل البدع ومن قال : إنه النفاق فذلك غير خارج عن مقصودنا لأن أهل النفاق إنما أخذوا الشريعة تقية لا تعبدا فوضعوها غير مواضعها وهو عين الابتداع .
ويجري هذا المجرى كل من اتخذ السنة والعمل بها حيلة وذريعة إلى نيل حطام الدنيا لا على التعبد بها لله تعالى لأنه تبديل لها وإخراج لها عن وضعها الشرعي .
وأما الخوف عليه من أن يكون كافرا فلأن العلماء من السلف الأول وغيرهم اختلفوا في تكفير كثير من فرقهم مثل الخوارج والقدرية وغيرهم ودل ذلك ظاهر قوله تعالى : { إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء } وقوله : { يوم تبيض وجوه وتسود وجوه } الآية وقد حكم العلماء بكفر جملة منهم كالباطنية وسواهم لأن مذهبهم راجع إلى مذهب الحلولية القائلين بما يشبه قول النصارى في اللاهوت والناسوت والعلماء إذا اختلفوا في أمر : هل هو كفر أم لا ؟ فكل عاقل يربأ بنفسه أن ينسب إلى خطه خسف كهذه بحيث يقال له : إن العلماء اختلفوا : هل أنت كافر أم ضال غير كافر ؟ أو يقال : إن جماعة من أهل العلم قالوا .
بكفرك وأنت حلال الدم .
وأما أنه يخاف على صاحبها سوء الخاتمة والعياذ بالله فلأن صاحبها مرتكب إثما وعاص لله تعالى حتما ولا تقول الآن : هو عاص بالكبائر أو بالصغائر بل نقول : هو مصر على ما نهى الله عنه والأصرار يعظم الصغيرة إن كانت صغيرة حتى تصير كبيرة وإن كانت كبيرة فأعظم ومن مات مصرا على المعصية فيخاف عليه فربما إذا كشف الغطاء وعاين علامات الآخرة استفزه الشيطان وغلبه على قلبه حتى يموت على التغيير والتبديل وخصوصا حين كان مطيعا له فيما تقدم من زمانه مع حب الدنيا المستولي عليه .
قال عبد الحق الإشبيلي : إن سوء الخاتمة لا يكون لمن استقام ظاهره وصلح باطنه ما سمع بهذا قط ولا علم به والحمد لله وإنما يكون لمن كان له فساد في العقل أو إصرار على الكبائر وإقدام على العظائم أو لمن كان مستقيما ثم تغيرت حاله وخرج عن سننه وأخذ في طريق غير طريقه فيكون عمله ذلك سببا لسوء خاتمته وسوء عاقبته والعياذ بالله قال الله تعالى : { إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم } .
فهذا ظاهر إذا اغتر بالبدعة من حيث هي معصية فإذا نظرنا إلى كونها بدعة فذلك أعظم لأن المبتدع مع كونه مصرا على ما نهي عنه يزيد على المصر بأنه معارض للشريعة بعقله غير مسلم لها في تحصيل أمره معتقدا في المعصية أنها طاعة حيث حسن ما قبحه الشارع وفي الطاعة أنها لا تكون طاعة إلا بضميمه نظره فهو قد قبح ما حسنه الشارع ومن كان هكذا فحقيق بالقرب من سوء الخاتمة إلا ما شاء الله وقد قال تعالى في جملة ذم : { أفأمنوا مكر الله فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون } .
والمكر جلب السوء من حيث لا يفطن له وسوء الخاتمة من مكر الله إذ يأتي الإنسان من حيث لا يشعر به اللهم إنا نسألك العفو العافية .
وأما اسوداد وجهه في الآخرة فقد تقدم في ذلك معنى قوله : { يوم تبيض وجوه وتسود وجوه } وفيها أيضا الوعيد بالعذاب لقوله : { فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون } وقوله قبل ذلك : { وأولئك لهم عذاب عظيم } .
حكى عياض عن مالك من رواية ابن نافع عنه قال : لو أن العبد ارتكب الكبائر كلها دون الإشراك بالله شيئا ثم نجا من هذه الأهواء لرجوت أن يكون في أعلى جنات الفردوس لأن كل كبيرة بين العبد وربه وهو منها على رجاء وكل هوى ليس هو منه على رجاء إنما يهوي بصاحبه في نار جهنم .
وأما البراءة منه ففي قوله : { إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء } وفي الحديث : .
[ أنا بريء منهم وهم براء مني ] .
وقال ابن عمر Bه في أهل القدر : إذا لقيت أولئك فأخبرهم أني بريء منهم وأنهم براء مني .
وجاء عن الحسن : لا تجالس صاحب بدعة فإنه يمرض قلبك .
وعن سفيان الثوري : من جالس صاحب بدعة لم يسلم من إحدى ثلاث : إما أن يكون فتنة لغيره وإما أن يقع بقلبه شيء يزل به فيدخله النار وإما أن يقول : والله لا أبالي ما تكلموا به وإني واثق بنفسي فمن يأمن بغير الله طرفة عين على دينه سلبه إياه .
وعن يحيى بن أبي كثير قال : إذا لقيت صاحب بدعة في طريق فخذ في طريق آخر .
وعن أبي قلابة قال : لا تجالسوا أهل الأهواء ولا تجادلوهم فإني لا آمن أن يغمروكم في ضلالتهم ويلبسوا عليكم ما كنتم تعرفون .
وعن إبراهيم قال : لا تجالسوا أصحاب الأهواء ولا تكلموهم فإني أخاف أن ترتد قلوبكم .
والآثار في ذلك كثيرة ويعضدها ما روي عنه عليه السلام أنه قال : .
[ المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل ] ووجه ذلك ظاهر منبه عليه في كلام أبي قلابة إذ قد يكون المرء على يقين من أمر من أمور السنة فيلقي له صاحب الهوى فيه هوى مما يحتمله اللفظ لا أصل له أو يزيد له فيه قيدا من رأيه فيقبله قلبه فإذا رجع إلى ما كان يعرفه وجده مظلما فإما أن يشعر به فيرده بالعلم أو لا يقدر على رده وأما أن لا يشعر به فيمضي مع من هلك .
قال ابن وهب : وسمعت مالكا إذا جاءه بعض أهل الأهواء يقول : أما أنا فعلى بينة من ربي وأما أنت فشاك فاذهب إلى شاك مثلك فخاصمه ثم قرأ : .
{ قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة } .
فهذا شأن من تقدم من عدم تمكين زائغ القلب أن يسمع كلامه .
ومثل رده بالعلم جوابه لمن سأله في قوله : { الرحمن على العرش استوى } كيف استوى ؟ فقال له : الاستواء معلوم والكيف مجهول والسؤال عنه بدعة وأراك صاحب بدعة ثم أمر بإخراج السائل .
ومثل ما لا يقدر على رده ما حكى الباجي قال : قال مالك : كان يقال : لا تمكن زائغ القلب من أذنك فإنك لا تدري ما يعلقك من ذلك .
ولقد سمع رجل من الأنصار من أهل المدينة شيئا من بعض أهل القدر فعلق قلبه فكان يأتي إخوانه الذين يستنصحهم فإذا نهوه قال : فكيف بما علق قلبي لو علمت أن الله يرضى أن ألقي نفسي من فوق هذه المنارة فعلت .
ثم حكى أيضا عن مالك أنه قال : لا تجالس القدري ولا تكلمه إلا أن تجلس إليه فتغلظ عليه لقوله : { لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله } فلا توادوهم .
وأما أنه يخشى عليه الفتنة فلما حكى عياض عن سفيان بن عيينة أنه قال : سألت مالكا عمن أحرم من المدينة وراء الميقات ؟ فقال : هذا مخالف لله ورسوله أخشى عليه الفتنة في الدنيا والعذاب الأليم في الآخرة أما سمعت قوله تعالى : { فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم } وقد أمر النبي A أن يهل من المواقيت .
وحكى ابن العربي عن الزبير بن بكار قال : سمعت مالك بن أنس ـ وأتاه رجل فقال : يا أبا عبد الله من أين أحرم ؟ ـ قال : من ذي الحليفة من حيث أحرم رسول الله A فقال : إني أريد أن أحرم من المسجد فقال لا تفعل قال : فإني أريد أن أحرم من المسجد من عند القبر قال : لا تفعل فإني أخشى عليك الفتنة فقال : واي فتنة هذه ؟ إنما هي أميال أزيدها قال : وأي فتنة أعظم من أن ترى أنك سبقت إلى فضيلة قصر عنها رسول الله A ؟ إني سمعت الله يقول : { فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم } .
وهذه الفتنة التي ذكرها مالك C تفسير الآية هي شأن أهل البدع وقاعدتهم التي يؤسسون عليها بنيانهم فإنهم يرون أن ما ذكره الله في كتابه وما سنه نبيه A دون ما اهتدوا إليه بعقولهم .
وفي مثل ذلك قال ابن مسعود Bه فيما روي عن ابن وضاح : لقد هديتم لما لم يهتد له نبيكم وإنكم لتمسكون بذنب ضلالة ـ إذ مر بقوم كان رجل يجمعهم يقول : رحم الله من قال كذا وكذا مرة سبحان الله فيقول القوم ويقول رحم الله من قال كذا وكذا مرة الحمد لله فيقول القوم .
ثم إن ما استدل به مالك من الآيات الكريمة نزلت في شان المنافقين حين أمر رسول الله A بحفر الخندق وهم الذين كانوا يتسللون لواذا .
وقد تقدم أن النفاق من أصله بدعة لأنه وضع بدعة في الشريعة على غير ما وضعها الله تعالى ولذلك لما أخبر تعالى عن المنافقين قال : { أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى } فمن حيث كانت عامة في المخالفين عن أمره يدخلون أيضا من باب أحرى .
فهذه جملة يستدل بها على ما بقي إذ ما تقدم من الآيات والأحاديث فيها مما يتعلق بهذا المعنى كثير وبسط معانيها طويل فلنقتصر على ما ذكرنا وبالله التوفيق