فصل الوجه السادس من النقل .
يذكر فيه بعض ما في البدع من الأوصاف المحذورة والمعاني المذمومة وأنواع الشؤم وهو كالشرح لما تقدم أولا وفيه زيادة بسط وبيان زائد على ما تقدم في أثناء الأدلة فلنتكلم على ما يسع ذكره بحسب الوقت والحال .
فاعملوا أن البدعة لا يقبل معها عبادة من صلاةولا صيام ولا صدقة ولا غير ها من القربات ومجالس صاحبها تنزع منه العصمة ويوكل إلى نفسه والماشي إليه وموقره معين على هدم الإسلام فما الظن بصاحبها وهو ملعون على لسان الشريعة ويزداد من الله بعبادته بعدا ؟ ! وهي مظنة إلقاء العدواة والبغضاء ومانعة من الشفاعة المحمدية ورافعة للسنن التي تقابلها وعلى مبتدعها إثم من عمل بها وليس له من توبة وتلقى عليه الذلة والغضب من الله ويبعد عن حوض رسول الله A ويخاف عليه أن يكون معدودا في الكفار الخارجين عن الملة وسوء الخاتمة عند الخروج من الدنيا ويسود وجهه في الآخرة يعذب بنار جهنم وقد تبرأ منه رسول الله A وتبرأ منه المسلمون ويخاف عليه الفتنة في الدنيا زيادة إلى عذاب الآخرة .
فأما أن البدعة لا يقبل معها عمل فقد روي عن الأوزاعي أنه قال : كان بعض أهل العلم يقول : لا يقبل الله من ذي بدعة صلاة ولا صياما ولا صدقة ولا جهادا ولا حجا ولا عمرة ولا صرفا ولا عدلا .
وفيما كتب به أسد بن موسى : وإياك أن يكون لك من البدع أخ أوجليس أو صاحب فإنه جاء الأثر : من جالس صاحب بدعة نزعت منه العصمة ووكل إلى نفسه ومن مشى إلى صاحب بدعة مشى إلى هدم الإسلام وجاء : ما من إله يعبد من دون الله أبغض إلى الله من صاحب هوى ووقعت اللعنة من رسول الله A على أهل البدع وإن الله لا يقبل منهم صرفا ولا عدلا ولا فريضة ولا تطوعا وكلما ازدادوا اجتهادا ـ صوما وصلاة ـ ازدادوا من الله بعدا فارفض مجالستهم وأذلهم وأبعدهم كما أبعدهم وأذلهم رسول الله A وأئمة الهدى بعده .
وكان أيوب السخيتاني يقول : ما ازداد صاحب بدعة اجتهادا إلا ازداد من الله بعدا .
وقال هشام بن حسان : لا يقبل الله من صاحب بدعة صلاة ولا صياما ولا زكاة ولا حجا ولا جهادا ولا عمرة ولا صدقة ولا عتقا ولا صرفا ولا عدلا .
وخرج ابن وهب عن عبد الله بن عمر قال : من كان يزعم أن مع الله قاضيا أو رازقا أو يملك لنفسه ضرا أو نفعا أو موتا أو حياة أو نشورا لقي الله فأدحض حجته وأخرس لسانه وجعل صلاته وصيامه هباء منثورا وقطع به الأسباب وكبه في النار على وجهه .
وهذه الأحاديث وما كان نحوها مما ذكرناه تتضمن عمدة صحتها كلها فإن المعنى المقرر فيها له في الشريعة أصل صحيح لا مطعن فيه .
أما أولا : فإنه قد جاء في بعضها ما يقتضي عدم القبول وهو في الصحيح كبدعة القدرية حيث قال فيها عبد بن عمر : .
إذا لقيت أولئك فأخبرهم أني بريء منهم وأنهم براء مني فوالذي يحلف به عبد الله بن عمر لو كان لأحدهم مثل أحد ذهبا فأنفقه ما تقبله الله منه حتى يؤمن بالقدر ثم استشهد بحديث جبريل المذكور في صحيح مسلم .
ومثله حديث الخوارج وقوله فيه : .
يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية ـ بعد قوله ـ [ تحقرون صلاتكم مع صلاتهم وصيامكم مع صيامهم وأعمالكم مع أعمالهم ] الحديث .
وإذا ثبت في بعضهم هذا لأجل بدعة فكل مبتدع بخاف عليه مثل من ذكره .
وأما ثانيا : فإن كان المبتدع لا يقبل منه عمل إما أن يراد أنه لا يقبل له بإطلاق على أي وجه وقع من وفاق سنة أو خلافها وإما أن يراد أنه لا يقبل منه ما ابتدع فيه خاصة دون ما لم يبتدع فيه .
فأما الأول : فيمكن على أحد أوجه ثلاثة .
الأول : أن يكون على ظاهره من أن كل مبتدع أي بدعة كانت فأعماله لا تقبل معها ـ داخلتها تلك البدعة أم لا ويشير إليه حديث ابن عمر المذكور آنفا ويدل عليه حديث علي بن أبي طالب Bه أنه خطب الناس وعليه سيف فيه صحيفه معلقة فقال والله ما عندنا كتاب نقرؤه إلا كتاب الله وما في هذه الصحيفة فنشرها فإذا فيها ـ أسنان الإبل وإذا فيها : المدينة حرم من عير إلى كذا من أحدث فيها حدثا فعليه لعنه الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا وذلك على رأي من فسر الصرف والعدل بالفريضة والنافلة وهذا شديد جدا على أهل الإحداث في الدين .
الثاني : أن تكون بدعته أصلا يتفرع عليه سائر الأعمال كما إذا ذهب إلى إنكار العمل بخبر الواحد بإطلاق فإن عامة التكليف مبني عليه لأن الأمر إنما يرد على المكلف من كتاب الله أو من سنة رسوله وما تفرع منهما راجع إليهما فإن كان واردا من السنة فمعظم نقل السنة بالآحاد بل قد أعوز أن يوجد حديث عن رسول الله A متواترا وإن كان واردا من الكتاب فإنما تبينه السنة فكل ما لم يبين في القرآن فلا بد لمطرح نقل الآحاد أن يستعمل رأيه وهو الابتداع بعينه فيكون فرع ينبني على ذلك بدعة لا يقبل منه شيء كما في الصحيح من قوله عليه السلام : .
[ كل عمل ليس عليه أمرنا فهو رد ] وكما إذا كانت البدعة التي ينبني عليها كل عمل فإن الأعمال بالنيات وإنما لكل امرىء ما نوى .
ومن أمثلة ذلك قول من يقول : إن الأعمال إنما تلزم من لم يبلغ درجة الأولياء المكاشفين بحقائق التوحيد فأما من رفع له الحجاب وكوشف بحقيقة ما هنالك فقد ارتفع التكليف عنه بناء منهم على أصل هو كفر صريح لا يليق في هذا الموضع ذكره .
وفي الترمذي عن أبي رافع عن النبي A أنه قال : .
[ لا ألفين أحدكم متكئا على أريكته يأتيه أمري فيما أمرت به أو نهيت عنه فيقول : لا أدري ! ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه ! ] .
وفي رواية : [ ألا ! هل عسى رجل يبلغه عني الحديث وهو متكىء على أريكته فيقول : بيننا وبينكم كتاب الله ( قال ) فما وجدنا فيه حلالا حللناه وما وجدنا فيه حراما حرمناه وإن ما حرم رسول الله كما حرم الله ] حديث حسن .
وإنما جاء هذا الحديث على الذم وإثبات أن سنة رسول الله A في التحليل والتحريم ككتاب الله فمن ترك ذلك فقد بنى أعماله على رأيه على كتاب الله ولا على سنة رسول الله A .
ومن الأمثلة إذا كانت البدعة تخرج صاحبها عن الإسلام باتفاق أو باختلاف إذ للعملاء في تكفير أهل البدع قولان وفي الظواهر ما يدل على ذلك كقوله عليه السلام في بعض روايات حديث الخوارج حين ذكر السهم بصيغة الخوارج من الرمية بين الفرث والدم ومن الآيات قوله سبحانه وتعالى : { يوم تبيض وجوه وتسود وجوه } ونحو الظواهر المتقدمة .
الوجه الثالث : أن صاحب البدعة في بعض الأمور التعبدية أو غيرها قد يجره اعتقاد بدعته الخاصة إلى التأويل الذي يصير اعتقاده في الشريعة ضعيفا وذلك يبطل عليه جميع عمله بيان ذلك أمثلة : .
منها : أن يترك العقل مع الشرع في التشريع وإنما يأتي الشرع كاشفا لما اقتضاه العقل فما ليت شعري هل حكم هؤلاء في التعبد لله شرعه أم عقولهم ؟ بل صار الشرع في نحلتهم كالتابع المعين لا حاكما متبعا وهذا هو التشريع الذي لم يبق للشرع معه أصالة فكل ما عمل هذا العامل مبنيا على ما اقتضاه عقله وإن شرك الشرع فعلى حكم الشركة لا على إفراد الشرع فلا يصح بناء على الدليل الدال على إبطال التحسين والتقبيح العقليين إذ هو عند علماء الكلام من مشهور البدع وكل بدعة ضلالة .
ومنها : أن المستحسن للبدع يلزمه عادة أن يكون الشرع عنده لم يكمل بعد فلا يكون لقوله تعالى : { اليوم أكملت لكم دينكم } معنى يعتبر به عندهم ومحسن الظن منهم يتأولها حتى يخرجها عن ظاهرها وذلك أن هؤلاء الفرق التي تبتدع العبادات أكثرها ممن يكثر الزهد والانقطاع والانفراد عن الخلق وإلى الاقتداء بهم يجري أغمار العوام والذي يلزم الجماعة وإن كان أتقى خلق الله لا يعدونه إلا من العامة وأما الخاصة فهم أهل تلك الزيادات ولذلك تجد كثيرا من المعتزين بهم والمائلين إلى جهتهم يزدرون بغيرهم ممن لم ينتحل مثل ما انتحلوا ويعدونهم من المحجوبين عن أنوارهم فكل من يعتقد هذا المعنى يضعف في يده قانون الشرع الذي ضبطه السلف الصالح وبين حدوده الفقهاء الراسخون في العلم إذ ليس هو عنده في طريق السلوك بمنهض حتى يدخل مداخل خاصتهم وعند ذلك لا يبقى لعمل في أيديهم روح الاعتماد الحقيقي وهو باب عدم القبول في تلك الأعمال وإن كانت بحسب ظاهر الأمر مشروعة لأن الاعتقاد فيها أفسدها عليهم فحقيق أن لا يقبل ممن هذا شأنه صرف ولا عدل والعياذ بالله ! .
وأما الثاني : وهو أن يراد بعدم القبول لأعمالهم ما ابتدعوا فيه خاصة فيظهر أيضا وعليه يدل الحديث المتقدم : [ كل عمل ليس عليه أمرنا فهو رد ] والجميع من قوله : [ كل بدعة ضلالة ] أي أن صاحبها ليس على الصراط المستقيم وهو معنى عدم القبول وفاق قول الله : { ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله } وصاحب البدعة لا يقتصر في الغالب على الصلاة دون الصيام ولا على الصيام دون الزكاة ولا على الزكاة دون الحج ولا على الحج دون الجهاد إلى غير ذلك من الأعمال لأن الباعث له على ذلك حاضر معه في الجميع وهو الهوى والجهل بشريعة الله كما سيأتي إن شاء الله .
وفي المبسوطة عن يحيى بن يحيى أنه ذكر الأعراف وأهله فتوجع واسترجع ثم قال : قوم أرادوا وجها من الخير فلم يصيبوه فقيل له : يا أبا محمد ! أفيرجى لهم مع ذلك لسعيهم ثواب ؟ قال : ليس في خلاف السنة رجاء ثواب .
وأما أن صاحب البدعة تنزع منه العصمة ويوكل إلى نفسه فقد تقدم نقله ومعناه ظاهر جدا فإن الله تعالى بعث إلينا محمدا A رحمة للعالمين حسبما أخبر في كتابه وقد كنا قبل طلوع ذلك النور الأعظم لا نهتدي سبيلا ولا نعرف من مصالحنا الدنيوية إلا قليلا على غير كمال ولا من مصالحنا الأخروية قليلا ولا كثيرا بل كان كل أحد يركب هواه وإن كان فيه ما فيه ويطرح هوى غيره فلا يلتفت إليه فلا يزال الاختلاف بينهم والفساد فيهم يخص ويعم حتى بعث الله نبيه A لزوال الريب والالتباس وارتفاع الخلاف الواقع بين الناس كما قال الله تعالى : { كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين } إلى قوله : { فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه } وقوله : { وما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا } ولم يكن حاكما بينهم فيما اختلفوا فيه إلا وقد جاءهم بما ينتظم به شملهم وتجتمع به كلمتهم وذلك راجع إلى الجهة التي من أجلها اختلفوا وهو ما يعود عليهم بالصلاح في العاجل والآجل ويدرأ عنهم الفساد على الإطلاق فانخفضت الأديان والدماء والعقل والأنساب والأموال من طرق يعرف مآخذها العلماء وذلك القرآن المنزل على النبي A قولا وعملا وإقرارا ولم يردوا إلى تدبير أنفسهم للعلم بأنهم لا يستطيعون ذلك ولا يستقلون بدرك مصالحهم ولا تدبير أنفسهم فإذا ترك المبتدع هذه الهبات العظيمة والعطايا الجزيلة وأخذ في استصلاح نفسه أو دنياه بنفسه بما لم يجعل الشرع عليه دليلا فكيف له بالعصمة والدخول تحت هذه الرحمة ؟ وقد حل يده من حبل العصمة إلى تدبير نفسه فهو حقيق بالبعد عن الرحمة قال الله تعالى : { واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا } بعد قوله : { اتقوا الله حق تقاته } فأشعر أن الاعتصام بحبل الله هو تقوى الله حقا وأن ما سوى ذلك تفرقة لقوله : { ولا تفرقوا } والفرقة من أخس أوصاف المبتدعة لأنه خرج عن حكم الله وباين جماعة أهل الإسلام .
روى عبد بن حميد بن عبد الله : أن حبل الله الجماعة .
وعن قتادة : حبل الله المتين هذا القرآن وسنته وعهده إلى عباده الذي أمر أن يعتصم بما فيه من الخير والثقة أن يتمسكوا به ويعتصموا بحبله إلى آخر ما قال ومن ذلك قوله تعالى : { واعتصموا بالله هو مولاكم } .
وأما أن الماشي إليه والموقر له معين على هدم الإسلام فقد تقدم من نقله .
وروي أيضا مرفوعا : .
[ من أتى صاحب بدعة ليوقره فقد أعان على هدم الإسلام ] .
وعن هشام بن عروة قال : .
قال رسول الله A : [ من وقر صاحب بدعة فقد أعان على هدم الإسلام ] .
ويجامعها في المعنى ما صح من قوله E : [ من أحدث حدثا أو آوى محدثا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ] الحديث .
فإن الإيواء يجامع التوقير ووجه ذلك ظاهر لأن المشي إليه والتوقير له تعظيم له لأجل بدعته وقد علمنا أن الشرع يأمر بزجره وإهانته وإذلاله بما هو اشد من هذا كالضرب والقتل فصار توقيره صدودا عن العمل بشرع الإسلام وإقبالا على ما يضاده وينافيه والإسلام لا ينهدم إلا بترك العمل به والعمل بما ينافيه .
وأيضا فإن توقير صاحب البدعة مظنة لمفسدتين تعودان على الإسلام بالهدم : .
إحداهما : التفات الجهال والعامة إلى ذلك التوقير فيعتقدون في المبتدع أنه أفضل الناس وأن ما هو عليه خير مما عليه غيره فيؤدي ذلك إلى اتباعه على بدعته دون اتباع أهل السنة على سنتهم .
والثانية : أنه إذا وقر من أجل بدعته صار ذلك كالحادي المحرض له على إنشاء الابتداع في كل شيء .
وعلى كل حال فتحيا البدع وتموت السنن وهو هدم الإسلام بعينه .
وعلى ذلك دل حديث معاذ : فيوشك قائل أن يقول : ما لهم لا يتبعوني وقد قرأت القرآن ؟ ما هم بمتبعي حتى أبتدع لهم غيره وإياكم وما ابتدع فإن ما ابتدع ضلالة فهو يقتضي أن السنن تموت إذا أحييت البدع وإذا ماتت انهدم الإسلام .
وعلى ذلك دل النقل عن السلف زيادة إلى صحة الاعتبار لأن الباطل إذا عمل به لزم ترك العمل بالحق كما في العكس لأن المحل الواحد لا يشتغل إلا بأحد الضدين .
وأيضا فمن السنة الثابتة ترك البدع فمن عمل ببدعة واحدة فقد ترك تلك السنة .
فمما جاء من ذلك ما تقدم ذكره عن حذيفة Bه أنه أخذ حجرين فوضع أحدهما على الآخر ثم قال لأصحابه : هل ترون ما بين هذين الحجرين من النور ؟ قالوا : يا أبا عبد الله ! ما نرى بينهما إلا قليلا قال : والذي نفسي بيده لتظهرن البدع حتى لا يرى من الحق إلا قدر ما بين هذين الحجرين من النور والله لتفشون البدع حتى إذا ترك منها شيء قالوا : تركت السنة وله آخر قد تقدم .
وعن أبي إدريس الخولاني أنه كان يقول : ما أحدثت أمة في دينها بدعة إلا رفع الله بها عنهم سنته .
وعن حسان بن عطية قال : ما أحدث قوم بدعة في دينهم إلا نزع الله من سنتهم مثلها ثم لم يعدها إليهم إلى يوم القيامة .
وعن بعض السلف يرفعه : .
[ لا يحدث رجل في الإسلام بدعة إلا ترك من السنة ما هو خير منها ] .
وعن ابن عباس Bه قال : ما يأتي على الناس من عام إلا أحدثوا فيه بدعة وأماتوا فيه سنة حتى تحيا البدع وتموت السنن .
وأما أن صاحبها ملعون على لسان الشريعة فلقوله E : .
[ من أحدث حدثا آو آوى محدثا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ] .
وعد من الأحاديث والاستنان بسنة سوء لم تكن .
وهذه اللعنة قد اشترك فيها صاحب البدعة مع من كفر بعد إيمانه وقد شهد أن بعثه النبي A حق لا شك فيها وجاءه الهدى من الله والبيان الشافي وذلك قول الله تعالى : { كيف يهدي الله قوما كفروا بعد إيمانهم وشهدوا أن الرسول حق } إلى قوله : { أولئك جزاؤهم أن عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين } إلى آخرها .
واشترك أيضا مع من كتم ما أنزل الله وبينه في كتابه وذلك قوله تعالى : { إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون } إلى آخرها .
فتأملوا المعنى الذي اشترك المبتدع فيه مع هاتين الفرقتين وذلك مضادة الشارع فيما شرع لأن الله تعالى أنزل الكتاب وشرع الشرائع وبين الطريق للسالكين على غاية ما يمكن من البيان فضادها الكافر بأن جحدها جحدا وضادها كاتمها بنفس الكتمان لأن الشارع يبين ويظهر وهذا يكتم ويخفي وضادها المبتدع بأن وضع الوسيلة لترك ما بين وإخفاء ما أظهر لأن من شأنه أن يدخل الإشكال في الواضحات من أجل اتباع المتشابهات لأن الواضحات تهدم له ما بنى عليه من المتشابهات فهو آخذ في إدخال الإشكال على الواضح حتى يرتكب ما جاءت اللعنة في الابتداع به من الله والملائكة والناس أجمعين .
قال أبو مصعب صاحب مالك : قدم علينا ابن مهدي ـ يعني المدينة ـ فصلى ووضع رداءه بين يدي الصف فلما سلم الإمام رمقه الناس بأبصارهم ورمقوا مالكا وكان قد صلى خلف الإمام فلما سلم قال : من ها هنا من الحرس ؟ فجاءه نفسان فقال : خذا صاحب هذا الثوب فاحبساه فحبس فقيل له : إنه ابن مهدي فوجه إليه وقال له : أما خفت الله واتقيته أن وضعت ثوبك بين يديك في الصف وشغلت المصلين بالنظر إليه وأحدثت في مسجدنا شيئا ما كنا نعرفه وقد قال النبي A : .
[ من أحدث في مسجدنا حدثا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ؟ ] فبكى ابن مهدي وآلى على نفسه أن لا يفعل ذلك أبدا في مسجد النبي A ولا في غيره .
وهذا غاية في التوقي والتحفظ في ترك إحداث ما لم يكن خوفا من تلك اللعنة فما ظنك بما سوى وضع الثوب ؟ .
وتقدم حديث الطحاوي : ستة ألعنهم لعنهم الله فذكر فيهم التارك لسنته E أخذا بالبدعة .
وأما أنه يزداد من الله بعدا فلما روي عن الحسن أنه قال : صاحب البدعة ما يزداد من الله اجتهادا صياما وصلاة إلا ازداد من الله بعدا .
وعن أيوب السختياني قال : ما ازداد صاحب بدعة اجتهادا إلا ازداد من الله بعدا