الفصل الثالث في المبادئ اللغوية .
اعلم أن البحث إما أن يقع عن ماهية الكلام أو عن كيفية دلالته ثم لما كانت دلالته وضعية فالبحث عن هذه الكيفية إما أن يقع عن الواضع أو الموضوع أو الموضوع له أو عن الطريق التي يعرف بها الوضع فهذه أبحاث خمسة .
البحث الأول : عن ماهية الكلام وهو يقال بالاشتراك على المعنى القائم بالنفس وعلى الأصوات المقطعة المسموعة ولا حاجة إلى البحث في هذا الفن عن المعنى الأول بل المحتاج إلى البحث عنه فيه هو المعنى الثاني فالأصوات كيفية للنفس وهي الكلام المنتظم من الحروف المسموعة المتميزة المتواضع عليها والانتظام هو التأليف للأصوات المتوالية على السمع وخرج بقوله الحروف الحرف الواحد لأن أقل الكلام حرفان وبالمسموعة الحروف المكتوبة وبالمتميزة أصوات ما عدا الإنسان وبالمتواضع عليها المهملات وقد خصص النحاة الكلام بما تضمن كلمتين بالإسناد وذهب كثير من أهل الأصول إلى أن الكلمة الواحدة تسمى كلاما .
البحث الثاني : عن الواضع اختلف في ذلك على أقوال الأول أن الواضع هو الله سبحانه وإليه ذهب الأشعري وأتباعه وابن فورك القول الثاني أن الواضع هو البشر وإليه ذهب أبو هاشم ومن تابعه من المعتزلة القول الثالث أن ابتداء اللغة وقع بالتعليم من الله سبحانه والباقي بالاصطلاح القول الرابع أن ابتداء اللغة وقع بالاصطلاح والباقي توقيف وبه قال الأستاذ أبو اسحق وقيل إنه قال بالذي قبله والقول الخامس أن نفس الألفاظ دلت على معانيها بذاتها وبه قال عباد بن سليمان الصيمري القول السادس أنه يجوز كل واحد من هذه الأقوال من غير جزم بأحدها وبه قال الجمهور كما حكاه صاحب المحصول .
احتج أهل القول الأول بالمنقول والمعقول أما المنقول فمن ثلاثة أوجه : .
الأول : قوله سبحانه : { وعلم آدم الأسماء كلها } دل هذا على أن الأسماء توقيفية وإذا ثبت ذلك في الأسماء ثبت أيضا في الأفعال والحروف إذ لا قائل بالفرق وأيضا الإسم إنما سمي إسما لكونه علامة على مسماه والأفعال والحروف كذلك وتخصيص الإسم ببعض أنواع الكلام اصطلاح للنحاة .
الوجه الثاني : أن الله سبحانه ذم قوما على تسميتهم بعض الأشياء دون توقيف بقوله { إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان } فلو لم تكن اللغة توقيفية لما صح هذا الذم .
الوجه الثالث : قوله سبحانه : { ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم } والمراد اختلاف اللغات لا اختلافات بالتفات الألسن وأما المعقول فمن وجهين : .
الأول : أن الاصطلاح إنما يكون بأن يعرف كل واحد منهم صاحبه ما في ضميره وذلك لا يعرف إلا بطريق كالألفاظ والكتابة وكيفما كان فإن ذلك الطريق إما الاصطلاح ويلزم التسلسل أو التوقيف وهو المطلوب .
الوجه الثاني : أنها لو كانت بالمواضعة لجوز العقل اختلافها وأنها على غير ما كانت عليه لأن اللغات قد تبدلت وحينئذ لا يوثق بها وأجيب عن الاستدلال بقوله { وعلم آدم الأسماء } بأن المراد بالتعليم الإلهام كما في قوله { وعلمناه صنعة لبوس لكم } أو تعليم ما سبق وضعه من خلق آخر أو المراد بالأسماء المسميات بدليل قوله { ثم عرضهم } ويجاب عن الاستدلال بقوله { إن هي إلا أسماء سميتموها } بأن المراد ما اخترعوه من الأسماء للأصنام من البحيرة والسائبة والوصيلة والحام ووجه الذم مخالفة ذلك لما شرعه الله وأجيب عن الاستدلال بقوله { واختلاف ألسنتكم } بأن المراد التوقيف عليها بعد الوضع وإقرار الخلق على وضعها ويجاب على الوجه الأول من المعقول بمنع لزوم التسلسل لأن المراد وضع الواضع هذا الاسم لهذا المسمى ثم تعريف غيره بأنه وضعه كذلك ويجاب عن الوجه الثاني بأن تجويز الاختلاف خلاف الظاهر ومما يدفع هذا القول أن حصول اللغات لو كان بالتوقيف من الله D لكان ذلك بإرسال رسول لتعليم الناس لغتهم لأنه الطريق المعتاد في التعليم للعباد ولم يثبت ذلك ويمكن أن يقال إن آدم عليه السلام علمها غيره وأيضا يمكن أن يقال أن التعليم لا ينحصر في الإرسال لجواز حصوله بالإلهام وفيه أن مجرد الإلهام لا يوجب كون اللغة توقيفية بل هي من وضع الناس بإلهام الله سبحانه لهم كسائر الصنائع .
احتج أهل القول الثاني : بالمنقول والمعقول أما المنقول فقوله سبحانه وتعالى : { وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه } أي بلغتهم فهذا يقتضي تقدم اللغة على بعثة الرسل فلو كانت اللغة توقيفية لم يتصور ذلك إلا بالإرسال فيلزم الدور لأن الآية تدل على سبق اللغات للإرسال والتوقيف يدل على سبق الإرسال لها وأجيب بأن كون التوقيف لا يكون إلا بالإرسال إنما يوجب سبق الإرسال على التوقيف لا سبق الإرسال على اللغات حتى يلزم الدور لأن الإرسال لتعليمها إنما يكون بعد وجودها معلومة للرسول عادة لترتب فائدة الإرسال عليه وأجيب أيضا بأن آدم عليه السلام علمها كما دلت عليه الآية وإذا كان هو الذي علمها لأقدم رسول اندفع الدور وأما المعقول فهو أنها لو كانت توقيفية لكان إما أن يقال إنه تعالى يخلق العلم الضروري بأن وضعها لتلك المعاني أو لا يكون كذلك والأول لا يخلو إما أن يقال خلق ذلك العلم في عاقل أو في غير عاقل وباطل أن يخلقه في عاقل لأن العلم بأنه سبحانه وضع تلك اللفظة لذلك المعنى يتضمن العلم به سبحانه فلو كان ذلك العلم ضروريا لكان العلم به سبحانه ضروريا ولو كان العلم بذاته سبحانه ضروريا لبطل التكليف لكن ذلك باطل لما ثبت أن كل عاقل يجب أن يكون مكلفا وباطل أن يخلقه في غير العاقل لأن من البعيد أن يصير الإنسان الغير العاقل عالما بهذه اللغات العجيبة والتركيبات اللطيفة .
احتج أهل القول الثالث : بأن الاصطلاح لا يصح إلا بأن يعرف كل واحد منهم صاحبه ما في ضميره فإن عرفه بأمر آخر اصطلاحي لزم التسلسل فثبت أنه لا بد في أول الأمر من التوقيف ثم بعد ذلك لا يمتنع أن تحدث لغات كثيرة بسبب الاصطلاح بل ذلك معلوم بالضرورة فإن الناس يحدثون في كل زمان ألفاظا ما كانوا يعلمونها قبل ذلك وأجيب بمنع توقفه على الاصطلاح بل يعرف ذلك بالترديد والقرائن كالأطفال .
وأما أهل القول الرابع : فلعلهم يحتجون على ذلك بأن فهم ما جاء توقيفا لا يكون إلا بعد تقدم الاصطلاح والمواضعة ويجاب عنه بأن التعليم بواسطة رسول أو بإلهام يغني عن ذلك .
واحتج أهل القول الخامس : بأنه لو لم يكن بين الأسماء والمسميات مناسبة بوجه ما لكان تخصيص الاسم المعين للمسمى المعين ترجيحا بدون مرجح وإن كان بينهما مناسبة ثبت المطلوب وأجيب بأنه إن كان الواضع هو الله سبحانه كان تخصيص الاسم المعين بالمسمى المعين كتخصيص الاسم والمسمى كان ذلك ثابتا في وضعه سبحانه وإن خفي علينا وإن كان الواضع البشر فيحتمل أن يكون السبب خطور ذلك اللفظ في ذلك الوقت بالبال دون غيره كما يخطر ببال الواحد منا أن يسمي ولده باسم خاص .
واحتج أهل القول السادس : على ما ذهبوا إليه من الوقف بأن هذه الأدلة التي استدل بها القائلون لا يفيد شيء منها القطع بل لم ينهض شيء منها لمطلق الدلالة فوجب عند ذلك الوقف لأن ما عداه هو من التقول على الله بما لم يقل وأنه باطل وهذا هو الحق .
البحث الثالث : عن الموضوع اعلم أنه لما كان الفرد الواحد من هذا النوع الإنساني لا يستقل وحده بإصلاح جميع ما يحتاج إليه لم يكن بد في ذلك من جمع ليعين بعضهم بعضا فيما يحتاج إليه وحينئذ يحتاج كل واحد منهم إلى تعريف صاحبه بما في نفسه من الحاجات وذلك التعريف لا يكون إلا بطريق من أصوات مقطعة أو حركات مخصوصة أو نحو ذلك فجعلوا الأصوات المقطعة هي الطريق إلى التعريف لأن الأصوات أسهل من غيرها وأقل مؤنة ولكون إخراج النفس أمرا ضروريا فصرفوا هذا الأمر الضروري إلى هذا التعريف ولم يتكلفوا له طريقا أخرى غير ضرورية مع كونها تحتاج إلى مزاولة وأيضا فإن الحركات والإشارات قاصرة عن إفادة جميع ما يراد فإن ما يراد تعريفه قد لا تمكن الإشارة الحسية إليه كالمعدومات إذا عرفت هذا فاعلم أن الموضوعات اللغوية هي كل لفظ وضع لمعنى فيخرج ما ليس بلفظ من الدول الموضوعة وما ليس بموضوع من المحرفات والمهملات ويدخل في اللفظ المفردات والمركبات الستة وهي الإسنادي والوصفي والإضافي والعادي والمزجي والصوتي ومعنى الوضع يتناول أمرين : أعم وأخص فالأعم تعيين اللفظ بإزاء معنى والأخص تعيين اللفظ للدلالة على معنى .
البحث الرابع : عن الموضوع له قال الجويني والرازي وغيرهما : إن اللفظ موضوع للصورة الذهنية سواء كانت موجودة في الذهن والخارج أوفى الذهن فقط وقيل هو موضوع للموجود الخارجي وبه قال أبو إسحاق وقيل هو موضوع للأعم من الذهني والخارجي ورجحه الأصفهاني وقيل أن اللفظ في الأشخاص : أي الأعلام الشخصية موضوع للموجود الخارجي ولا ينافي كونه للموجود الخارجي وجوب استحضار الصورة الذهنية فالصورة الذهنية آلة لملاحظة الوجود الخارجي لا أنها هي الموضوع لها وأما فيما عدا الأعلام الشخصية فاللفظ موضوع لفرد غير معين وهو الفرد المنتشر فيما وضع المفهوم كلى أفراده خارجية أو ذهنية فإن كانت خارجية فالموضوع له فرد ما من تلك الأفراد الخارجية وإن كانت ذهنية له فرد ما من الذهنية وإن كانت ذهنية وخارجية فالاعتبار بالخارجية وقد ألحق علم الجنس بالأعلام الشخصية من يفرق بينه وبين إسم الجنس فيجعل علم الجنس موضوعا للحقيقة المتحدة واسم الجنس لفرد منها غير معين وفي إسم الجنس مذهبان : .
أحدهما : أنه موضوع للماهية مع وحدة لا بعينها ويسمى فردا منتشرا وإلى هذا ذهب الزمخشري وابن الحاجب ورجحه السعد وابن الهمام .
والثاني : أنه موضوع للماهية من حيث هي ورجحه الشريف فالموضوع له على المذهب الأول هو الماهية بشرط شيء وعلى المذهب الثاني هو الماهية لا بشرط شيء .
البحث الخامس : عن الطريق التي يعرف بها الوضع اعلم أنه لما كان الكتاب والسنة واردين بلغة العرب وكان العلم بهما متوقفا على العلم بها كان العلم بها من أهم الواجبات ولا بد في ذلك من معرفة الطريقة التي نقلت هذه اللغة العربية بها إلينا إذ لا مجال للعقل في ذلك لأنها أمور وضعية والأمور الوضعية لا يستقل العقل بإدراكها فلا تكون الطريق إليها إلا نقلية والحق أن جميعها منقول بطريق التواتر وقيل ما كان منها لا يقبل التشكيك كالأرض والسماء والحر والبرد ونحوها فهو منقول بطريق التواتر وما كان منها يقبل التشكيك كاللغات التي فيها غرابة فهو منقول بطريق الآحاد ولا وجه لهذا فإن الأئمة المشتغلين بنقل اللغة قد نقلوا غريبها كما نقلوا غيره وهم عدد لا يجوز العقل تواطأهم على الكذب في كل عصر من العصور هذا معلوم لكل من له علم بأحوال المشتغلين بلغة العرب وقد أورد الرازي في المحصول تشكيكا على هذا كعادته المستمرة في مصنفاته حتى في تفسير الكتاب العزيز فقال أما التواتر فالأشكال عليه من وجوه : .
الأول : أنا نجد الناس مختلفين في معاني الألفاظ التي هي أكثر الألفاظ دورانا على ألسنة المسلمين اختلافا لا يمكن القطع بما هو الحق كلفظة الله تعالى فإن بعضهم زعم أنه ليست بعربية بل سريانية والذين جعلوها عربية اختلفوا في أنها من الأسماء المشتقة أو الموضوعة والقائلون بالاشتقاق اختلفوا اختلافا شديدا وكذا القائلون بكونها موضوعة اختلفوا أيضا اختلافا كثيرا ومن تأمل أدلتهم في تعيين مدلول هذه اللغة علم أنها متعارضة وأن شيئا منها لا يفيد الظن الغالب فضلا عن اليقين وكذا اختلفوا في الإيمان والكفر والصلاة والزكاة حتى إن كثيرا من المحققين في علم الاشتقاق زعم أن اشتقاق الصلاة من الصلوين وهما عظما الورك ومن المعلوم أن هذا الاشتقاق غريب وكذلك اختلفوا في الأوامر والنواهي وصيغ العموم مع شدة اشتهارها وشدة الحاجة إليها اختلافا شديدا وإذا كان الحال في هذه الألفاظ التي هي أشهر الألفاظ والحاجة إلى استعمالها ماسة جدا كذلك فما ظنك بسائر الألفاظ ؟ وإذا كان كذلك ظهر أن دعوى التواتر في اللغة والنحو متعذر انتهى ولا يخفاك أن محل النزاع هو كون نقل هذه اللغة العربية إلينا بطريق التواتر في اللغة والنحو متعذر انتهى ولا يخفاك أن محل النزاع هو كون نقل اللغة العربية إلينا بطريق التواتر عن العرب الموثوق بعربيتهم فالاختلاف في الاشتقاق والوضع وغير ذلك خارج عن محل النزاع ولا يصلح للتشكيك به بوجه من الوجوه وقد تنبه الرازي لهذا فقال فإن قلت : هب أنه لا يمكن دعوى التواتر في معاني هذه الألفاظ على سبيل التفصيل ولكنا نعلم معانيها في الجملة فنعلم أنهم يطلقون لفظ الله تعالى على الإله سبحانه وإن كنا لا نعلم مسمى هذا اللفظ أهو الذات أم المعبودية أم القادرية وكذا القول في سائر الألفاظ قلت حاصل ما ذكره قادرا على الاختراع أو كونه ملجأ الخلق أو كونه بحيث تتحير العقول في إداركه إلى غير ذلك من المعاني المذكورة لهذا اللفظ وذلك يفيد نفي القطع بمسماه وإذا كان الأمر كذلك في هذه اللفظة مع نهاية شهرتها ونهاية الحاجة إلى معرفتها كان تمكن الاحتمال فيما عداها أظهر انتهى وهذا الجواب باطل لأن هذه اللفظة قد نقلت إلينا على طريقة التواتر ونقل إلينا الناقلون لها أنها موضوعة للرب سبحانه وتعالى وهذا القدر يكفي في الاستدلال به على محل النزاع وأما الاختلاف في مفهوم الإله سبحانه وتعالى فبحث آخر لا يقدح به على محل النزاع أصلا ثم قال مردفا لذلك التشكيك بتشكيك آخر وهو أن من شرط التواتر استواء الطرفين والوسط فهب أن علمنا حصول شرائط التواتر في حفاظ اللغة والنحو والتصريف في زماننا فكيف نعلم حصولها في سائر الأزمنة انتهى ويجاب عنه بأن علمنا حصولها فيهم في سائر الأزمنة بنقل الأئمة الثقات الأثبات المشتغلين بأحوال النقلة إجمالا وتفصيلا ثم أطال الكلام على هذا ثم عاد إلى النشكيك في نقلها آحادا وجميع ما جاء به مدفوع مردود فلا نشتغل بالتطويل بنقله والكلام عليه ففيما ذكرنا من الرد عليه ما يرشد إلى الرد لبقية ما شكك به .
وقد اختلف في جواز إثبات اللغة بطريق القياس فجوزه القاضي أبو بكر الباقلاني وابن شريح وأبو إسحق الشيرازي والرازي وجماعة من الفقهاء ومنعه الجويني والغزالي والآمدي وهو قول عامة الحنفية وأكثر الشافعية واختاره ابن الحاجب وابن الهمام وجماعة من المتأخرين وليس النزاع فيما ثبت تعميمه بالنقل كالرجل والضارب أو بالاستقراء كرفع الفعل ونصب المفعول بل النزاع فيما إذا سمي مسمى باسم في هذا الاسم باعتبار أصله من حيث الاشتقاق أو غيره معنى يظن اعتبارا هذا المعنى في التسمية لأجل دوران ذلك الاسم مع هذا المعنى وجودا وعدما ويوجد ذلك المعنى في غير ذلك الاسم فهل يتعدى ذلك الاسم المذكور إلى ذلك الغير بسبب وجود ذلك المعنى فيه فيطلق ذلك الاسم عليه حقيقة إذ لا نزاع في جواز الإطلاق مجازا إنما الخلاف في الإطلاق حقيقة وذلك كالخمر الذي هو اسم للنيء من ماء العنب إذا غلي واشتد وقذف بالزبد إذا أطلق على النبيذ إلحاقا له بالنيء المذكور بجامع المخامرة للعقل فإنها معنى في الاسم يظن اعتباره في تسمية النيء المذكور به لدوران التسمية معه فمهما لم توجد في ماء العنب لا يسمى خمرا بل عصيرا وإذا وجدت فيه سمي به وإذا زالت عنه لم يسم به بل خلا وقد وجد ذلك في النبيذ أو يخص اسم الخمر بمخامر للعقل هو ماء العنب المذكور فلا يطلق حقيقة على النبيذ وكذلك تسمية النباش سارقا للأخذ بالخفية واللائط زانيا للإيلاج المحرم احتج المجوزون بأن دوران الاسم مع المعنى وجودا وعدما يدل على أنه المعتبر لأن يفيد الظن وأجيب بأن إفادة الدوران لذلك ممنوعة لما سيأتي في مسالك العلة وبعد التسليم لإفادة الدوران وكونه طريقا صحيحة فنقول إن أردتم بدوران الاسم مع المعنى المذكور دورانا مطلقا سواء وجد في أفراد المسمى أو غيرها بادعاء ثبوت الاسم في كل مادة يوجد فيها ذلك المعنى وانتفائه في كل ما لم يوجد فيه بطريق النقل فغير المفروض لأن ما يوجد فيه ذلك المعنى حينئذ يكون من أفراد المسمى فلا يتحقق إلحاق فرع بأصل وإن أردتم بدوران الاسم مع المسمى أن يدور معه في الأصل المقيس عليه فقط لوجود الاسم في كل مادة يوجد فيها المسمى وانتفائه في كل ما لم يوجد فيه منعنا كونه طريقا مثبتا تسمية الشيء باسم لمشاركة المسمى في معنى دار الاسم معه وجودا وعدما وإن سلمنا كونه طريقا صحيحة لإثبات الحكم في الشرعيات فذلك لا يستلزم إثبات كونه طريقا صحيحة في إثبات الاسم وتعديته من محل إلى محل آخر لأن القياس في الشرعيات سمعي ثبت اعتباره بالسماع من الشارع وتعبدنا به لا أنه عقلي وأجيب ثانيا بالمعارضة على سبيل القلب بأنه دار أيضا مع المحل ككونه ماء العنب ومال الحي ووطئا في القبل فدل على أنه معتبر والمعنى جزء من العلة ومن قال بقطع النباش وحد شارب النبيذ فذلك لعموم دليل السرقة والحد أو لقياسهما على السارق والخمر قياسا شرعيا في الحكم لا لأنه يسمى النباش سارقا والنبيذ خمرا بالقياس في اللغة كما زعمتم وأيضا القياس في اللغة إثبات بالمحتمل وهو غير جائز لأن كما يحتمل التصريح باعتباره يحتمل التصريح بمنعه وأيضا لا يصح الحكم بالوضع بمجرد الاحتمال المجرد عن الرجحان وأيضا هذه اللغة العربية قد تقدم الخلاف هل هي توقيفية أو اصطلاحية وعلى القولين فلا طريق إليها إلا النقل وعلى القول بالتفصيل كذلك لأنه راجح إلى القولين وإذا عرفت هذا علمت أن الحق منع إثبات اللغة بالقياس