الفصل الثاني في الأحكام .
وإنما قدمنا الكلام في الأحكام على الكلام في اللغات لأنه يتعلق بالأحكام مسائل من مهمات علم الكلام سنذكرها إن شاء الله تعالى وفيه أربعة أبحاث : .
البحث الأول في الحكم الثاني في الحاكم الثالث في المحكوم به الرابع في المحكوم عليه .
أما البحث الأول : فاعلم أن الحكم هو الخطاب المتعلق بأفعال المكلفين بالاقتضاء أو التخيير أو الوضع فيتناول اقتضاء الوجود واقتضاء العدم إما مع الجزم أو مع جواز الترك فيدخل في هذا الواجب والمحظور والمندوب والمكروه وأما التخيير فهو الإباحة وأما الوضع فهو السبب والشرط والمانع فالأحكام التكليفية خمسة لأن الخطاب إما أن يكون جازما أو لا يكون جازما فإن كان جازما فإما أن يكون طلب الفعل وهو لإيجاب أو طلب الترك وهو التحريم وإن كان غير جازم فالطرفان إما أن يكونا على السوية وهو الإباحة أو يترجح جانب الوجود وهو الندب أو يترجح جانب الترك وهو الكراهة فكانت الأحكام ثمانية : خمسة تكليفية وثلاثة وضعية وتسمية الخمسة تكليفية تغليب إذ لا تكليف في الإباحة بل ولا في الندب والكراهة التنزيهية عند الجمهور وسميت الثلاثة وضعية لأن الشارع وضعها علامات لأحكام تكليفية وجودا وانتفاء فالواجب في الاصطلاح ما يمدح فاعله ويذم تاركه على بعض الوجوه فلا يرد النقض بالواجب المخير وبالواجب على الكفاية فإنه لا يذم في الأول إذا تركه مع الآخر ولا يذم في الثاني إلا إذا لم يقم به غيره وينقسم إلى معين ومخير ومضيق وموسع وعلى الأعيان وعلى الكفاية ويرادفه الفرض عند الجمهور وقيل الفرض ما كان دليله قطعيا والواجب ما كان دليله ظنيا والأول أولى والمحظور ما يذم فاعله ويمدح تاركه ويقال له المحرم والمعصية والذنب والمزجور عنه والمتوعد عليه والقبيح والمندوب ما يمدح فاعله ولا يذم تاركه وقيل هو الذي يكون فعله راجحا في نظر الشرع ويقال له سنة إلا إذا داوم عليه الشارع كالوتر ورواتب الفرائض والمكروه ما يمدح تاركه ولا يذم فاعله ويقال بالاشتراك على أمور ثلاثة على ما نهى عنه نهي تنزيه وهو الذي أشعر فاعله أن تركه خير من فعله وعلى ترك الأولى كترك صلاة الضحى وعلى المحظور المتقدم والمباح ما لا يمدح على فعله ولا على تركه والمعنى أنه أعلم فاعله أنه لا ضرر عليه في فعله وتركه وقد يطلق على ما لا ضرر على فاعله وإن كان تركه محظورا كما يقال « دم المرتد مباح » أي لا ضرر على من أراقه ويقال للمباح الحلال والجائز والمطلق والسبب هو جعل وصف ظاهر منضبط مناطا لوجود حكم أي يستلزم وجوده وجوده وبيانه أن الله سبحانه في الزاني مثلا حكمين أحدهما تكليفي وهو وجوب الحد عليه والثاني وضعي وهو جعل الزنا سببا لوجوب الحد لأن الزنا لا يوجب الحد بعينه وذاته بل بجعل الشرع وينقسم السبب بالاستقراء إلى الوقتية كزوال الشمس لوجوب الصلاة والمعنوية كالاسكار للتحريك وكالملك للضمان والمعصية للعقوبة والشرط هو الحكم على الوصف بكونه شرطا للحكم وحقيقة الشرط هو ما كان عدمه يستلزم عدم الحكم فهو وصف ظاهر منضبط يستلزم ذلك أو يستلزم عدم السبب لحكمة في عدمه تنافي حكمة الحكم أو السبب وبيانه أن الحول شرط في وجوب الزكاة فعدمه يستلزم عدم وجوبها والقدرة على التسليم شرط في صحة البيع فعدمها يستلزم عدم صحته والاحصان شرط في سببية الزنا للرجم فعدمه يستلزم عدمها والمانع هو وصف ظاهر منضبط يستلزم وجوده حكمة تستلزم عدم الحكم أو عدم السبب كوجود الأبوة فإنه يستلزم عدم ثبوت الاقتصاص للابن من الأب لأن كون الأب سببا لوجود الابن يقتضي أن لا يصير الابن سببا لعدمه وفي هذا المثال الذي أطبق عليه جمهور أهل الأصول نظر لأن السبب المقتضي للقصاص هو فعله لا وجود الابن ولا عدمه ولا يصح أن يكون ذلك حكمة مانعة للقصاص ولكنه ورد الشرع بعدم ثبوت القصاص لفرع من أصل والأولى أن يمثل لذلك بوجود النجاسة المجمع عليها في بدن المصلي أو ثوبه فإنه سبب لعدم صحة الصلاة عند من يجعل الطهارة شرطا فههنا قد عدم شرط وهو الطهارة ووجد مانع وهو النجاسة لا عند من يجعلها واجبة فقط وأما المانع الذي يقتضي وجوده حكمة تخل بحكمة السبب فكالدين في الزكاة فإن حكمة السبب وهو الغنى مواساة الفقراء من فضل ماله ولم يدع الدين في المال فضلا يواسي به هذا على قول من قال أن الدين مانع .
البحث الثاني في الحاكم : اعلم أنه لاخلاف في كون الحاكم الشرع بعد البعثة وبلوغ الدعوة وأما قبل ذلك فقالت الأشعرية لا يتعلق له سبحانه حكم بأفعال المكلفين فلا يحرم كفر ولا يجب إيمان وقالت المعتزلة إنه يتعلق له تعالى حكم بما أدرك العقل فيه صفة حسن أو قبح لذاته أو لصفته أو لوجوه واعتبارات على اختلاف بينهم في ذلك قالوا والشرع كاشف عما أدركه العقل قبل وروده وقد اتفق الأشعرية والمعتزلة على أن العقل يدرك الحسن والقبح في شيئين الأول ملاءمة الغرض للطبع ومنافرته له فالموافق حسن عند العقل والمنافر قبيح عنده .
الثاني صفة الكمال والنقص فصفات الكمال حسنة عند العقل وصفات النقص قبيحة عنده ومحل النزاع بينهم كما أطبق عليه جمهور المتأخرين وإن كان مخالفا لما كان عند كثير من المتقدمين هو كون الفعل متعلق المدح والثواب والذم والعقاب آجلا وعاجلا فعند الأشعرية ومن وافقهم أن ذلك لا يثبت إلا بالشرع وعند المعتزلة ومن وافقهم أن ذلك ليس لكون الفعل واقعا بإدراكه وقد لا يستقل أما الأول فالعقل يعلم بالضرورة حسن الصدق النافع وقبح الكذب الضار ويعلم نظرا حسن الصدق الضار وقبح الكذب النافع وأما الثاني فكحسن صوم آخر يوم من رمضان وقبح صوم الذي بعده فإن العقل لا طريق له إلى العلم بذلك لكن الشرع لما ورد علمنا الحسن والقبح فيها وأجيب بأن دخول هذه القبائح في الوجود إما أن يكون على سبيل الاضطرار أو على سبيل الاتفاق وعلى التقديرين فالقول بالقبح باطل بيان الأول أن فاعل القبيح إما أن يكون متمكنا من الترك أو لا يكون فإن لم يتمكن من الترك فقد ثبت الاضطرار وإن تمكن من الترك فإما يتوقف رجحان الفاعلية على التاركية على مرجح أو لا يتوقف إن لم يتوقف فاتفاقي لا اختياري لعدم الإرادة وإن توقف فذلك المرجح إما أن يكون من العبد أو من غيره أو لا منه ولا من غيره فالأول محال لأن الكلام فيه كما في الأول فيلزم التسلسل وهو محل والثاني يقال فيه أن عند حصول ذلك المرجح إما أن يجب قبول الأثر أو لا فإن وجب فقد ثبت الاضطرار لأن قبل وجود هذا المرجح كان الفعل ممتنع الوقوع وعند وجوده صار واجب الوقوع وليس وقوع هذا المرجح بالعبد ألبتة فلم يكن للعبد تمكن في شيء من الفعل والترك ولا معنى للاضطرار إلا ذلك وإن لم يجب حصول هذا المرجح لا يمتنع وجود الفعل تارة وعدمه أخرى فترجيح جانب الوجود على جانب العدم إما أن يتوقف على انضمام مرجح إليه أو لا يتوقف أن توقف لم يكن الحاصل قبل ذلك مرجحا تاما وقد فرضناه مرجحا تاما هذا خلف وإن لم يتوقف فلا ترجيح ألبتة وإلا لعاد القسم الأول وإن كان حصول ذلك المرجح لا من العبد ولا من غير العبد فحينئذ يكون واقعا لا لمؤثر فيكون اتفاقيا ورد هذا الجواب بأن القادر يرجح الفاعلية على التاركية من غير مرجح وأجيب عن هذا الرد بأن ترجيح القادر إن كان له مفهوم زائد على كونه قادرا كان تسليما لكون رجحان الفاعلية على التاركية لا يمكن إلا عند انضمام آخر إلى القادرية فيعود الكلام الأول وإن لم يكن له مفهوم زائد لم يكن لقولكم القادر يرجح أحد مقدورية على الآخر إلا مجرد أن صفة القادرية مستمرة في الأزمان كلها ثم إنه يوجد الأثر في بعض تلك الأزمنة دون بعض من غير أن يكون ذلك القادر قد رجحه وقصد إيقاعه ولا معنى للاتفاق إلا ذلك ولا يخفى ما في هذا الجواب من التعسف لاستلزامه نفي المرجح مطلقا والعلم الضروري حاصل لكل عاقل بأن الظلم والكذب والجهل قبيحة عند العقل وأن العدل والصدق والعلم حسنة عنده لكن حاصل ما يدركه العقل من قبيح هذا القبح وحسن هذا الحسن هو أن فاعل الأول يستحق الذم وفاعل الثاني يستحق المدح وأما كون الأول متعلقا للعقاب الأخروي والثاني متعلقا للثواب الأخروي فلا واحتج المثبتون للتحسين والتقبيح العقليين بأن الحسن والقبح لو لم يكونا معلومين قبل الشرع لاستحال أن يعلما عند وروده لأنهما إن لم يكونا معلومين قبله فعند وروده بهما يكون واردا بما لا يعقله السامع ولا يتصوره وذلك محال فوجب أن يكونا معلومين قبل وروده وأجيب بأن الموقوف على الشرع ليس تصور الحسن والقبح فإنا قبل الشرع نتصور ماهية ترتب العقاب والثواب والمدح والذم على الفعل ونتصور عدم هذا الترتب فتصور الحسن والقبح لا يتوقف على الشرع إنما المتوقف عليه هو التصديق فأين أحدهما من الآخر ؟ واحتج المثبتون أيضا بأنه لو لم يكن الحكم بالحسن والقبح إلا بالشرع لحسن من الله كل شيء ولو منه كل شيء لحسن منه إظهار المعجزة على يد الكاذب ولو حسن منه ذلك لما أمكننا التمييز بين النبي والمنبئ وذلك يفضي إلى بطلان الشرائع وأجيب بأن الاستدلال بالمعجز على الصدق مبني على أن الله إنما خلق ذلك المعجز للصدق وكل من صدقه الله فهو صادق وبأن العقل يمنع من خلق المعجز على يد الكاذب مطلقا لأن خلقه عند الدعوى يوهم أن المقصود منه التصديق فلو كان المدعى كاذبا لكان ذلك إيهاما لتصديق الكاذب وأنه قبيح والله لا يفعل القبيح واحتج المثبتون أيضا بأنه لو حسن من الله كل شيء لما قبح منه الكذب وعلى هذا لا يبقى اعتماد على وعده ووعيده وأجيب بأن هذا وارد عليهم لأن الكذب قد يحسن في مثل الدفع به عن قتل إنسان ظلما وفي مثل من توعد غيره بأن يفعل به ما لا يجوز من أنواع الظلم ثم ترك ذلك فإنه هنا يحسن الكذب ويقبح الصدق ورد بأن الحكم قد يتخلف عن المقتضى المانع ولا اعتبار بالنادر على أنه يمكن أن يقع الدفع لمن أراد أن يفعل ما لا يحل بإيراد المعاريض فإن فيهما مندوحة عن الكذب واحتج المثبتون أيضا بأنه لو قيل للعاقل إن صدقت أعطيناك دينارا وإن كذبت أعطيناك دينارا فإنا نعلم بالضرورة أن العاقل يختار الصدق ولو لم يكن حسنا لما اختاره وأجيب بأنه إنما يترجح الصدق على الكذب في هذه الصورة لأن أهل العلم اتفقوا على قبح الكذب وحسن الصدق لما أن نظام العالم لا يحصل إلا بذلك والإنسان لما نشأ على هذا الاعتقاد واستمر عليه لا جرم ترجح الصدق عنده على الكذب ورد هذا بأن كل فرد من أفراد الإنسان إذا فرض نفسه خالية عن الإلف والعادة والمذهب والاعتقاد ثم عرض عليها عند هذا الفرض هذه القضية وجدها جازمة بترجيح الصدق على الكذب وبالجملة فالكلام في هذا البحث يطول وإنكار مجرد إدراك العقل لكون الفعل حسنا أو قبيحا مكابرة ومباهتة وأما إدراكه لكون ذلك الفعل الحسن متعلقا للثواب وكون ذلك الفعل القبيح متعلقا للعقاب فغير مسلم وغاية ما تدركه العقول أن هذا الفعل الحسن يمدح فاعله وهذا الفعل القبيح يذم فاعله ولا تلازم بين هذا وبين كونه متعلقا للثواب والعقاب ومما يستدل به على هذه المسألة في الجملة قوله سبحانه : { وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا } - وقوله - { ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله لقالوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك من قبل أن نذل ونخزى } - وقوله - { لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل } ونحو هذا .
البحث الثالث في المحكوم به : هو فعل المكلف فمتعلق الإيجاب يسمى واجبا ومتعلق الندب يسمى مندوبا ومتعلق الإباحة يسمى مباحا ومتعلق الكراهة يسمى مكروها ومتعلق التحريم يسمى حراما وقد تقدم حد كل واحد منها وفيه ثلاث مسائل : .
المسألة الأولى : إن شرط الفعل الذي وقع التكليف به أن يكون ممكنا فلا يجوز التكليف بالمستحيل عند الجمهور وهو الحق وسواء كان مستحيلا بالنظر إلى ذاته أو بالنظر إلى امتناع تعلق قدرة المكلف به وقال جمهور الأشاعرة بالجواز مطلقا وقال جماعة منهم أنه ممتنع في الممتنع لذاته جائز في الممتنع لامتناع تعلق قدرة المكلف به احتج الأولون بأنه لو صح التكليف بالمستحيل لكان مطلوبا حصوله واللازم باطل لأن تصور ذات المستحيل مع عدم تصور ما يلزم ذاته لذاته من عدم الحصول يقتضي أن تكون ذاته غير ذاته فيلزم قلب الحقائق وبيانه أن المستحيل لا يحصل له صورة في العقل فلا يمكن أن يتصور شيء هو اجتماع النقيضين فتصوره إما على طريق التشبيه بأن يعقل بين السواد والحلاوة أمر هو الاجتماع ثم يقال مثل هذا الأمر لا يمكن حصوله بين السواد والبياض وإما على سبيل النفي بأن يعقل أنه لا يمكن أن يوجد مفهوم اجتماع السواد والبياض وبالجملة فلا يمكن تعلقه بماهيته بل باعتبار من الاعتبارات والحاصل أن قبح التكليف بما لا يطاق معلوم بالضرورة فلا يحتاج إلى استدلال والمجوز لذلك لم يأت بما نبغي الاشتغال بتحريره والتعرض لرده ولهذا وافق كثير من القائلين بالجواز على امتناع الوقوع فقالوا يجوز التكليف بما لا يطاق مع كونه ممتنع الوقوع ومما يدل على هذه المسألة في الجملة قوله سبحانه : { لا يكلف الله نفسا إلا وسعها } { لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها } { ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به } وقد ثبت في الصحيح أن الله سبحانه قال عند هذه الدعوات المذكورة في القرآن قد فعلت وهذه الآيات ونحوها إنما تدل على عدم الوقوع لا على عدم الجواز على أن الخلاف في مجرد الجواز لا يترتب عليه فائدة أصلا قال المثبتون للتكليف بما لا يطاق لو لم يصح التكليف به لم يقع وقد وقع لأن العاصي مأمور بالإيمان وممتنع منه الفعل لأن الله قد علم أنه لا يؤمن ووقوع خلاف معلومه سبحانه محال وإلا لزم الجهل واللازم باطل فالملزوم مثله وقالوا أيضا بأنه لو لم يجز لم يقع وقد وقع فإنه سبحانه كلف أبا جهل بالإيمان وهو تصديق رسوله في جميع ما جاء به ومن جملة ما جاء به أن أبا جهل لا يصدقه فقد كلفه بأن يصدقه في أنه لا يصدقه وهو محال وأجيب عن الدليل الأول بأن ذلك لا يمنع قصور الوقوع لجواز وقوعه من المكلف في الجملة وإن امتنع لغيره من علم أو غيره فهو في غير محل النزاع وعن الثاني بأنه لم يكلف إلا بتصديق وهو ممكن في نفسه متصور وقوعه إلا أنه ممن علم الله أنهم لا يصدقونه كعلمه بالعاصين هذا الكلام في التكليف بما لا يطاق أو التكليف بما علم الله أنه لا يقع فالإجماع منعقد على صحته ووقوعه .
المسألة الثانية : أن حصول الشرط الشرعي ليس شرطا في التكليف عند أكثر الشافعية والعراقيين من الحنفية وقال جماعة منهم الرازي وأبو حامد وأبو زيد والسرخسي هو شرط وهذه المسألة ليست على عمومها إذ لا خلاف في أن مثل الجنب والمحدث مأموران بالصلاة بل هي مفروضة في جزئي منها وهو أن الكفار مخاطبون بالشرائع أي بفروع العبادات عملا عند الأولين لا عند الآخرين وقال قوم من الآخرين هم مكلفون بالنواهي لأنها أليق بالعقوبات الزاجرة دون الأوامر والحق ما ذهب إليه الأولون وبه قال الجمهور ولا خلاف في أنهم مخاطبون بأمر الإيمان لأن مبعوث إلى الكافة وبالمعاملات أيضا والمراد بكونهم مخاطبين بفروع العبادات أنهم مؤاخذون بها في الآخرة مع عدم حصول الشرط الشرعي وهو الإيمان استدل الأولون بالأوامر العامة كقوله : { يا أيها الناس اعبدوا ربكم } - ونحوها وهم من جملة الناس واستدلوا أيضا بما ورد من الوعيد للكفار على الترك كقوله { ما سلككم في سقر * قالوا لم نك من المصلين } لا يقال قولهم ليس بحجة لجواز كذبهم لأنا نقول ولو كذبوا لكذبوا واستدلوا أيضا بقوله سبحانه : { وويل للمشركين * الذين لا يؤتون الزكاة } وقوله { ومن يفعل ذلك يلق أثاما * يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهانا } والآيات والأحاديث في هذا الباب كثيرة جدا واستدل الآخرون بأنهم لو كلفوا بها لصحت لأن الصحة موافقة الأمر أو لأمكن الامتثال لأن الإمكان شرط ولا يصح منهم لأن الكفر مانع ولا يمكن الامتثال حال الكفر لوجود المانع ولا بعده وهو حال الموت لسقوط الخطاب وأجيب بأنه غير محل النزاع لأن حالة الكفر ليست قيدا للفعل في مرادهم بالتكليف به مسبوقا للإيمان والكافر يتمكن من أن يسلم ويفعل ما وجب عليه كالجنب والمحدث فإنهما مأموران بالصلاة مع تلبسهما بمانع عنها يجب عليهما إزالته لتصح منهما والامتناع الوصفي لا ينافي الإمكان الذاتي واستدلوا أيضا بأنه لو وقع التكليف للكفار لوجب عليهم القضاء وأجيب بمنع الملازمة لأنه لم يكن بينه وبين وقوع التكليف وصحته ربط عقلي لا سيما على قول من يقول إن القضاء لا يجب إلا بأمر جديد وأيضا قوله سبحانه : { إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف } مع الكفر وأجيب بأن الكفر مانع من الترك كالفعل لأنها عبادة يثاب العبد عليها ولا تصح إلا بعد الإيمان وأيضا المكلف به في النهي هو الكف وهو فعل .
المسألة الثالثة : إن التكليف بالفعل والمراد به أثر القدرة الذي هو الاكوان لا التأثير الذي هو أحد الأعراض النسبية ثابت قبل حدوثه اتفاقا وينقطع بعده اتفاقا ولا اعتبار بخلاف من خالف في الطرفين فهو بين السقوط وما قالوه من أنه لو انقطع انعدم الطلب القائم بذات الله سبحانه وصفاته أبدية فهو مردود بأن كلامه سبحانه واحد والتعدد في العوارض الحادثة من التعلق ككونه أمرا أو نهيا وانتفاؤهما لا يوجب انتفاء واختلفوا هل التكليف به باق حال حدوثه أم لا ؟ فقال جمهور الأشعرية : هو باق وقالت المعتزلة والجوني : ليس بباق وليس مراد من قال بالبقاء أن تعلق التكليف بالفعل لنفسه إذ لا انقطاع له أصلا ولا أن تنجيز التكليف باق لأن التكليف بإيجاد الموجود محال لأن طلب يستدعي مطلوبا غير حاصل وهو تكليف بالمحال ولا أن القدرة مع الفعل لاستلزمه أن لا تكليف قبله وهو خلاف المعقول وخلاف الإجماع فإن القاعد مكلف بالقيام إلى الصلاة بل مرادهم أن التكليف باقي عند التأثير لكن التأثير عين الأثر عندهم واستدلوا بأن الفعل مقدور حال لأنه أثر القدرة فيوجد معها وإذا كان مقدورا حينئذ فيصح التكليف به لأنه لا مانع إلا عدم القدرة وقد انتفى وأجيب بأنه يلزم التكليف بإيجاد الموجود وهو محال ويرد بأن ذلك لا يلزم لأن المحال إنما هو إيجاد الموجود بوجود سابق لا بوجود حاصل .
البحث الرابع : في المحكوم عليه وهو المكلف اعلم أنه يشترط في صحة التكليف بالشرعيات فهم المكلف لما كلف به بمعنى تصوره بأن يفهم من الخطاب القدر الذي يتوقف عليه الامتثال لا بمعنى التصديق به وإلا لزم الدور ولزم عدم تكليف الكفار لعدم حصول التصديق واستدلوا على اشتراط الفهم بالمعنى الأول بأنه لو لم يشترط لزم المحال لأن التكليف استدعاء حصول الفعل على قصد الامتثال وهو محال عادة وشرعا ممن لا شعور له بالأمر وأيضا يلزم تكليف البهائم إذ لا مانع من تكليفها إلا عدم الفهم وقد فرض أنه غير مانع في صورة النزاع وقد تقدم بيان فساد قولهم فتقرر بهذا أن المجنون غير مكلف وكذلك الصبي الذي لم يميز لأنهما لا يفهمان خطاب التكليف على الوجه المعتبر وأما لزوم أرش جنايتهما ونحو ذلك فمن أحكام الوضع لا من أحكام التكليف وأما الصبي المميز فهو وإن كان يمكنه تمييز بعض الأشياء لكنه تمييز ناقص بالنسبة إلى تمييز المكلفين وأيضا ورد الدليل برفع التكليف قبل البلوغ ومن ذلك حديث رفع القلم عن ثلاثة وهو وإن كان في طرقه مقال لكنه باعتبار كثرة طرقه من قسم الحسن وباعتبار تلقي الأمة له بالقبول لكونهم بين عامل به ومؤول له صار دليلا قطعيا ويؤيده حديث [ من اخضر مئزره فاقتلوه ] وأحاديث النهي عن قتل الصبيان حتى يبلغوا كما ثبت عنه صضص في وصاياه لأمرائه عند غزوهم للكفار وأحاديث أنه صضص كان لا يأذن في القتال إلا لمن بلغ سن التكليف والأدلة في هذا الباب كثيرة ولم يأت من خالف في ذلك بشيء يصلح لإيراده كقولهم إنه قد صح طلاق السكران ولزمه أرش جنايته وقيمة ما أتلفه وهذا استدلال ساقط لخروجه عن محل النزاع في أحكام التكليف لا في أحكام الوضع ومثل هذا من أحكام الوضع وأما استدلالهم بقوله تعالى : { لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون } حيث قالوا إنه أمر لمن لا يعلم ما يقول ومن لا يعلم ما يقول لا يفهم ما يقال له فقد كلف من لا يفهم التكليف ورد بأنه نهى عن السكر عند إرادة الصلاة فالنهي متوجه إلى الصدور ورد أيضا بغير هذا مما لا حاجة إلى التطويل بذكره ووقع الخلاف بين الأشعرية والمعتزلة هل المعدوم مكلف أم لا فذهب الأولون إلى الأول والآخرون إلى الآخر وليس مراد الأولين بتكليف المعدوم أن الفعل أو الفهم مطلوبان منه حال عدمه فإن بطلان هذا معلوم بالضرورة فلا يرد عليهم ما أورده الآخرون من أنه إذا امتنع تكليف النائم والغافل امتنع تكليف المعدوم بالأولى بل مرادهم التعلق العقلي أي توجه الحكم في الأزل إلى من علم الله وجوده مستجمعا شرائط التكليف واحتجوا بأنه لو لم يتعلق التكليف بالمعدوم لم يكن التكليف أزليا لأن توقفه على الوجود الحادث يستلزم كونه حادثا واللازم باطل فالملزوم مثله لأنه أزلي لحصوله بالأمر والنهي وهما كلام الله وهو أزلي وهذا البحث يتوقف على مسألة الخلاف في كلام الله سبحانه وهي مقررة في علم الكلام واحتج الآخرون بأنه لو كان المعدوم يتعلق به الخطاب لزم أن يكون الأمر والنهي والخبر والنداء والاستخبار من غير متعلق موجود وهو محال ورد بعدم تسليم كونه محالا بل هو محل النزاع وتطويل الكلام في هذا البحث قليل الجدوى بل مسألة الخلاف في كلام الله سبحانه وإن طالت ذيولها وتفرق الناس فيها فرقا وامتحن بها من امتحن من أهل العلم وظن من ظن أنها من أعظم مسائل أصول الدين ليس لها كبير فائدة بل هي من فضول العلم ولهذا صان الله سلف هذه الأمة من الصحابة والتابعين وتابعيهم عن التكلم فيها