فصل في ألفاظ الرواية .
اعلم أن الصحابة إذا قال سمعت رسول الله صضص أو أخبرني أو حدثني فذلك لا يحتمل الواسطة بينه وبين رسول الله صضص وما كان مرويا بهذه الألفاظ كشافهني رسول الله صضص أو رأيته يفعل كذا فهو حجة بلا خلاف وأما إذا جاء الصحابي بلفظ يحتمل الواسطة بينه وبين رسول الله صضص كأن يقول قال رسول الله صضص كذا أو أمر بكذا أو نهى عن كذا أو قضى بكذا فذهب الجمهور إلى أن ذلك حجة سواء كان الراوي من صغار الصحابة أو من كبارهم لأن الظاهر أنه روى ذلك عن النبي صضص وعلى تقدير أن ثم واسطة فمراسيل الصحابة مقبولة عند الجمهور وهو الحق وخالف في ذلك داود الظاهري فقال أنه لا يحتج به حتى ينقل لفظ الرسول ولا حجة لهذا فإن الصحابي عدل عارف بلسان العرب وقد أنكر هذه الرواية عن دود بعض أصحابه فإن قال الصحابي أمرنا بكذا أو نهينا عن كذا بصيغة المبني للمفعول فذهب الجمهور إلى أنه حجة لأن الظاهر أن الآمر والناهي هو صاحب الشريعة وقال أبو بكر الصيرفي والإسماعيلي والجويني والكرخي وكثير من المالكية أنه لا يكون حجة لأنه يحتمل أن يكون الآمر أو الناهي بعض الخلفاء والأمراء ويجاب عنه بأن هذا الاحتمال بعيد لا يندفع به الظهور وحكى ابن السمعاني قولا ثالثا وهو الوقف ولا وجه له لأن رجحان ما ذهب إليه الجمهور وظهور وجه يدفع الوقف إذ لا يكون إلا مع تعادل الأدلة من كل وجه وعدم وجدان مرجح لأحدهما وحكى ابن الأثير في جامع الأصول قولا رابعا وهو التفصيل بين أن يكون قائل ذلك هو أبو بكر الصديق فيكون ما رواه بهذه الصفة حجة لأنه لم يتأمر عليه أحد وبين أن يكون القائل غيره فلا يكون حجة ولا وجه لهذا التفصيل لما عرفناه من ضعف احتمال كون الآمر والناهي غير صاحب الشريعة وذكر ابن دقيق العيد في شرح الإلمام قولا خامسا وهو الفرق بين كون قائله من أكابر الصحابة كالخلفاء الأربعة وعلماء الصحابة كابن مسعود وزيد بن ثابت ومعاذ بن جبل وأنس وأبي هريرة وابن عمر وابن عباس فيكون حجة وبين كون قائله من غيرهم فلا يكون حجة ولا وجه لهذا أيضا تقدم وأيضا فإن الصحابي إنما يورد ذلك مورد الاحتجاج والتبليغ للشريعة التي يثبت بها التكليف لجميع الأمة ويبعد كل البعد أن يأتي بمثل هذه العبارة ويريد غير رسول الله صضص فإنه لا حجة في قول غيره ولا فرق بين أن يأتي الصحابي بهذه العبارة في حياة رسول الله صضص أو بعد موته فإن لها حكم الرفع وبها تقوم الحجة ومثل هذا إذا قال من السنة كذا فإنه لا يحمل إلا على رسول الله صضص وبه قال الجمهور وحكى ابن فورك عن الشافعي أنه قال في قوله القديم أنه يحمل على سنة رسول الله صضص في الظاهر وإن جاز خلافه وقال في الجديد يجوز أن يقال ذلك على معنى سنة البلد وسنة الأئمة ويجاب عنه بأن هذا احتمال بعيد والمقام مقام تبليغ للشريعة إلى الأمة ليعملوا بها فكيف يرتكب مثل ذلك من هو من خير القرون ؟ قال الكرخي والرازي والصيرفي أنه ليس بحجة لأن المتلقي من القياس قد يقال إنه سنة لاستناده إلى الشرع وحكى هذا الجويني عن المحققين ويجاب عنه بأن إطلاق السنة على ما هو مأخوذ من القياس مخالف لاصطلاح أهل الشرع فلا يحمل عليه ونقل ابن الصلاح والنووي عن أبي بكر الإسماعيلي الوقف ولا وجه له وأما التابعي إذا قال من السنة كذا فله حكم مراسيل التابعين هذا أرجح ما يقال فيه واحتمال كونه مذاهب الصحابة وما كان عليه العمل في عصرهم خلاف الظاهر فإن إطلاق ذلك في مقام الاحتجاج وتبليغه إلى الناس يدل على أنه أراد سنة صاحب الشريعة قال ابن عبد البر إذا أطلق الصحابي السنة فالمراد به سنة النبي صضص وكذلك إذا أطلقه غيره ما لم تضف إلى صاحبها كقولهم « سنة العمرين » ونحو ذلك فإن قال الصحابي كنا نفعل في عهد رسول الله صضص كذا أو كانوا يفعلون كذا فأطلق الآمدي وابن الحاجب والصفي الهندي أن الأكثرين على أنه حجة ووجه أنه نقل لفعل جماعتهم مع تقرير النبي صضص على ذلك ولا بد أن يعتبر في هذا أن يكون مثل ذلك مما لا يخفى على النبي صضص فتكون الحجة في التقرير وأما كونه في حكم نقل الإجماع فلا فقد يضاف فعل البعض إلى الكل .
وحكى القرطبي في قول الصحابي كنا نفعل في عهده صضص ثلاثة أقوال فقال قبله أبو الفرج من أصحابنا ورده أكثر أصحابنا وهو الأظهر من مذهبهم قال القاضي أبو محمد والوجه التفصيل بين أن يكون شرعا مستقلا كقول أبي سعيد كنا نخرج صدقة عيد الفطر على عهد رسول الله صضص صاعا من تمر أو صاعا من شعير الحديث فمثل هذا يستحيل خفاؤه عليه صضص فإن كان يمكن خفاؤه فلا يقبل كقول رافع بن خديج كنا نخابر على عهد رسول الله صضص حتى روى لنا بعض عمومتي أن رسول الله صضص نهى عن ذلك ورجح هذا التفصيل الشيخ أبو إسحاق الشيرازي وقيل أن ذكره الصحابي في معرض الحجة حمل على الرفع وإلا فلا وأما لو قال الصحابي كانوا يفعلون أو كنا نفعل ولا يقول على عهد النبي صضص فلا تقوم بمثل هذه الحجة لأنه ليس بمسند إلى تقرير النبي صضص ولا هو حكاية للإجماع