فرع العلم بخبر الواحد .
( العلم بخبر الواحد ) له شروط منها ما هو في المخبر وهو الراوي ومنها ما هو في المخبر عنه وهو مدلول الخبر ومنها ما هو في الخبر نفسه وهو اللفظ الدال أما الشروط الراجحة إلى الراوي فخمسة : .
الأول : التكليف فلا تقبل رواية الصبي والمجنون ونقل القاضي الإجماع على رد رواية الصبي واعترض عليه العنبري وقال بل هما قولان للشافعي في إخباره عن القبلة كما حكاه القاضي حسين في تعليقه قال ولأصحابنا خلاف مشهور في قبول روايته في هلال رمضان وغيره قال الفوراني الأصح قبول روايته والوجه في رد روايته أنه قد يعلم أنه غير آثم لارتفاع قلم التكليف عنه فيكذب وقد أجمع الصحابة على عدم الرجوع إلى الصبيان مع أن فيهم من كان يطلع على أحوال النبوة وقد رجعوا إلى النساء وسألوهن من وراء حجاب قال الغزالي في المنخول محل الخلاف في المراهق المتثبت في كلامه أما غيره فلا يقبل قطعا وهذا الاشتراط إنما هو باعتبار وقت الأداء للرواية أما لو تحملها صبيا وأداها مكلفا فقد أجمع السلف على قبولها كما في رواية ابن عباس والحسنين ومن كان مماثلا لهم كمحمود بن الربيع فإنه روى حديث أنه صضص مج في فيه مجة وهو ابن خمس سنين واعتمد العلماء روايته وقد كان من بعد الصحابة من التابعين وتابعيهم ومن بعدهم يحضرون الصبيان مجالس الروايات ولم ينكر ذلك أحد وهكذا لو تحمل وهو فاسق أو كافر ثم روى وهو عدل مسلم ولا أعرف خلافا في عدم قبول رواية المجنون في حال جنونه أما لو سمع في حال جنونه ثم أفاق فلا يصح ذلك لأنه وقت الجنون غير ضابط وقد روى جماعة إجماع أهل المدينة على قبول رواية الصبيان بعضهم على بعض في الدماء لمسيس الحاجة إلى ذلك لكثرة وقوع الجنايات فيما بينهم إذا انفردوا ولم يحضرهم من تصح شهادته وقيدوه بعدم تفرقهم بعد الجناية حتى يؤدوا الشهادة والأولى عدم القبول وعمل أهل المدينة لا تقوم به الحجة على ما سيأتي على أن نمنع ثبوت هذا الإجماع الفعلي عنهم .
الشرط الثاني : الإسلام فلا تقبل رواية الكافر من يهودي أو نصراني أو غيرهما إجماعا قال الرازي في المحصول أجمعت الأمة على أنه لا تقبل روايته سواء علم من دينه الاحتراز عن الكذب أو لم يعلم قال والمخالف من أهل القبلة إذا كفرناه كالمجسم وغيره هل تقبل روايته أم لا ؟ الحق أنه إن كان مذهبه جواز الكذب لا تقبل روايته وإلا قبلناها وهو قول أبي الحسين البصري وقال القاضي عبد الجبار لا تقبل روايتهم لنا أن المقتضى للعمل بها قائم ولا معارض فوجب العمل بها بيان أن المقتضى قائم أن الاعتقاد لحرمة الكذب يزجره عن الإقدام عليها فيحصل ظن الصدق فيجب العمل بها وبيان أنه لا معارض أنهم أجمعوا على أن الكافر الذي ليس من أهل القبلة لا تقبل روايته وذلك الكفر منتف هاهنا قال واحتج المخالف بالنص والقياس أما النص فقوله تعالى : { إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا } فأمر بالتثبت عند نبأ الفاسق وهذا الكافر فاسق فوجب التثبت عند خبره وأما القياس فقد أجمعنا على أن الكافر الذي لا يكون من أهل القبلة لا نقبل روايته فكذا هذا الكافر والجامع أن قبول الرواية تنفيذ لقوله على كل المسلمين وهذا منصب شريف والكفر يقتضي الإذلال وبينهما منافاة أقصى ما في الباب أن يقال هذا الكافر جاهل لكونه كافرا لكنه لا يصلح عذرا والجواب عن الأول أن اسم الفاسق في عرف الشرع مختص بالمسلم المقدم على الكبيرة وعن الثاني الفرق بين الموضعين أن الكفر الخارج عن الملة أغلظ من كفر صاحب التأويل وقد رأينا الشرع فرق بينهما في أمور كثيرة ومع ظهور الفرق لا يجوز الجمع هكذا قال الرازي والحاصل أنه إن علم من مذهب المبتدع جواز الكذب مطلقا لم تقبل روايته قطعا وإن علم من مذهبه جوازه في أمر خاص كالكذب فيما يتعلق بنصرة مذهبه أو الكذب فيما هو ترغيب في طاعة أو ترهيب عن معصية فقال الجمهور ومنهم القاضيان أبو بكر وعبد الجبار والغزالي والآمدي لا يقبل قياسا على الفاسق بل هو أولى وقال أبو الحسين البصري يقبل وهو رأي الجويني وأتباعه والحق عدم القبول مطلقا الأول وعدم قبوله في ذلك الأمر الخاص في الثاني ولا فرق في هذا بين المبتدع الذي يكفر ببدعته وبين المبتدع الذي لا يكفر ببدعته وأما إذا كان ذلك المبتدع لا يستجيز الكذب فاختلفوا فيه على أقوال الأول رد روايته مطلقا لأنه قد فسق ببدعته فهو كالفاسق بفعل المعصية وبه قال القاضي والأستاذ أبو منصور والشيخ أبو إسحاق الشيرازي والقول الثاني أنه يقبل وهو ظاهر مذهب الشافعي وابن أبي ليلى والثوري وأبي يوسف والقول الثالث أنه إذا كان داعية إلى بدعته لم يقبل وإلا قبل وحكاه القاضي عبد الوهاب في المخلص عن مالك وبه جزم سليم قال القاضي عياض وهذا يحتمل أنه إذا لم يدع يقبل ويحتمل أنه لا يقبل مطلقا انتهى والحق أنه لا يقبل فيما يدعو إلى بدعته ويقويها لافي غير ذلك قال الخطيب وهو مذهب أحمد ونسبه ابن الصلاح إلى الأكثرين قال وهو أعدل المذاهب وأولاها وفي الصحيحين كثير من أحاديث المبتدعة غير الدعاة احتجاجا واستشهادا كعمران بن حطان وداود بن الحصين وغيرهما ونقل أبو حاتم بن حبان في كتاب الثقات الإجماع على ذلك قال ابن دقيق العيد جعل بعض المتأخرين من أهل الحديث هذا المذهب متفقا عليه وليس كما قال وقال ابن القطان في كتاب الوهم والإيهام الخلاف إنما هو في غير الداعية فهو ساقط عند الجمع قال أبو الوليد الباجي الخلاف في الداعية بمعنى أنه يظهر بدعته بمعنى حمل الناس عليها فلم يختلف في ترك حديثه .
الشرط الثالث : العدالة قال الرازي في المحصول هي هيئة راسخة في النفس تحمل على ملازمة التقوى والمروءة جميعا حتى يحصل ثقة النفس بدقة ويعتبر فيها الاجتناب عن الكبائر وعن بعض الصغائر كالتطفيف بالحبة وسرقة باقة من البقل وعن المباحات القادحة في المروءة كالأكل في الطريق والبول في الشارع وصحبة الأرذال والإفراط في المزاج والضابط فيه أن كل ما لا يؤمن من جراءته على الكذب يرد الرواية ومالا فلا انتهى وأصل العدالة في اللغة الاستقامة يقال « طريق عدل » : أي مستقيم وتطلق على استقامة السيرة والدين قال الزركشي في البحر : واعلم أن العدالة شرط بالاتفاق ولكن اختلف في معناها فعند الحنفية عبارة عن الإسلام مع عدم الفسق وعندنا ملكة في النفس تمنع عن اقتراف الكبائر وصغائر الخسة كسرقة لقمة والرذائل المباحة كالبول في الطريق والمراد جنس الكبائر والرذائل الصادق بواحدة قال ابن القشيري والذي صح عن الشافعي أنه قال في الناس من يمحض الطاعة فلا يمزجها بمعصية وفي المسلمين من يمحض المعصية ولا يمزجها بالطاعة فلا سبيل إلى رد الكل ولا إلى قبول الكل فإن كان الأغلب على الرجل من أمره الطاعة والمروءة قبلت شهادته وروايته وإن كان الأغلب المعصية وخلاف المروءة رددتها قال ابن السمعاني لا بد في العدل من أربع شرائط المحافظة على فعل الطاعة واجتناب المعصية وأن لا يرتكب من الصغائر ما يقدح في دين أو عرض وأن لا يفعل من المباحات ما يسقط القدر ويكسب الندم وأن لايعتقد من المذاهب ما يرده أصول الشرع قال الجويني الثقة هي المعتمد عليها في الخبر فمتى حصلت الثقة بالخبر قبل وقال ابن الحاجب في العدالة : هي محافظة دينية تحمل على ملازمة التقوى والمروءة ليس معها بدعة فزاد قيد عدم البدعة وقد عرفت ما هو الحق في أهل البدع في الشرط الذي مر قبل هذا والأولى أن يقال في تعريف العدالة إنها التمسك بآداب الشرع فمن تمسك بها فعلاوتركا فهو العدل المرضي ومن أخل بشيء منها فإن كان الإخلال بذلك الشيء يقدح في دين فاعله أو تاركه كفعل الحرام وترك الواجب فليس بعدل وأما اعتبار العادات الجارية بين الناس المختلفة باختلاف الأشخاص والأزمنة والأمكنة والأحوال فلا مدخل لذلك في هذا الأمر الديني الذي تنبني عليه قنطرتان عظيمتان وجسران كبيران وهما الرواية والشهادة نعم من فعل ما يخالف ما يعده الناس مروءة عرفا لا شرعا فهو تارك للمروءة العرفية ولا يستلزم ذلك ذهاب مروءته الشرعية .
وقد اختلف الناس هل المعاصي منقسمة إلى صغائر وكبائر أم هي قسم واحد ؟ فذهب الجمهور إلى أنها منقسمة إلى صغائر وكبائر ويدل على ذلك قوله سبحانه : { إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم } وقوله { وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان } ويدل عليه ما ثبت عن النبي صضص متواترا من تخصيص بعض الذنوب باسم الكبائر وبعضها بأكبر الكبائر وذهب جماعة إلى أن المعاصي قسم واحد ومنهم الأستاذ أبو إسحاق والجويني وابن فورك ومن تابعهم قالوا إن المعاصي كلها كبائر وإنما يقال لبعضها صغيرة بالنسبة إلى ما هو أكبر كما يقال الزنا صغيرة بالنسبة إلى الكفر والقبلة المحرمة صغيرة بالنسبة إلى الزنا وكلها كبائر قالوا ومعنى قوله { إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه } إن تجتنبوا الكفر كفرت عنكم سيآتكم التي هي دون الكفر والقول الأول راجح وهاهنا مذهب ثالث ذهب إليه الحلمي فقال إن المعاصي تنقسم حد الكبائر إلى ثلاثة أقسام : صغيرة وكبيرة وفاحشة فقتل النفس بغير حق كبيرة فإن قتل ذا رحم له ففاحشة فأما الخدشة والضربة مرة أو مرتين فصغيرة وجعل سائر الذنوب هكذا .
ثم اختلفوا في الكبائر هل تعرف بالحد أو لا تعرف إلا بالعدد ؟ فقال الجمهور إنها تعرف بالحد ثم اختلفوا في ذلك فقيل إنها المعاصي الموجبة للحد وقال بعضهم هي ما يلحق صاحبها وعيد شديد وقال آخرون ما يشعر بقلة اكتراث مرتكبها بالدين وثيل ما كان فيه مفسدة وقال الجويني ما نص الكتاب على تحريمه أو وجب في حقه وقيل ما ورد الوعيد عليه مع الحد أو لفظ يفيد الكبر وقال جماعة إنها لا تعرف إلا بالعدد ثم اختلفوا هل تنحصر في عدد معين أم لا ؟ فقيل هي سبع وقيل تسع وقيل عشر وقيل اثنتا عشرة وقيل أربع عشرة وقيل ست وثلاثون وقيل سبعون وإلى السبعين أنهاها الحافظ الذهبي في جزء صنفه في ذلك وقد جمع ابن حجر الهيتمي فيها مصنفا حافلا سماه الزواجر في الكبائر وذكر فيه نحو أربعمائة معصية وبالجملة فلا دليل يدل على انحصارها في عدد معين ومن المنصوص عليه منها القتل والزنا واللواطة وشرب الخمر والسرقة والغصب والقذف والنميمة وشهادة الزور واليمين الفاجرة وقطيعة الرحم والعقوق والفرار من الزحف وأخذ مال اليتيم وخيانة الكيل والوزن والكذب على رسول الله صضص وتقديم الصلاة وتأخيرها وضرب المسلم وسب الصحابة وكتمان الشهادة والرشوة والدياثة ومنع الزكاة واليأس من الرحمة أو من المكر والظهار وأكل لحم الخنزير والميتة وفطر رمضان والربا والغلول والسحر وترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ونسيان القرآن بعد تعلمه وإحراق الحيوان بالنار وامتناع الزوجة عن زوجها بلا سبب وقد قيل أن الإصرار على الصغيرة حكمه حكم مرتكب الكبيرة وليس على هذا دليل يصلح للتمسك به وإنما هي مقالة لبعض الصوفية فإنه قال لا صغيرة مع إصرار وقد روى بعض من لا يعرف علم الرواية هذا اللفظ وجعله حديثا ولا يصح ذلك بل الحق أن الإصرار حكمه حكم ما أصر عليه فالإصرار على الصغيرة صغيرة والإصرار على الكبيرة كبيرة .
وإذا تقرر لك هذا فاعلم أنه لا عدالة لفاسق وقد حكى مسلم في صحيحه الإجماع على رد خبر الفاسق فقال أنه غير مقبول عند أهل العلم كما أن شهادته مردودة عند جميعهم قال الجويني والحنفية وإن باحوا بقبول شهادة الفاسق فلم يوجبوا بقبول روايته فإن قال به قائل فهو مسبوق بالإجماع قال الرازي في المحصول إذا أقدم على الفسق فإن علم كونه فسقا لم تقبل روايته وإن لم يعلم كونه فسقا فإما أن يكون مظنونا أو مقطوعا فإن كان مظنونا قبلت روايته بالاتفاق قال وإن كان مقطوعا به قبلت أيضا لنا أن ظن صدقه راجح والعلم بهذا الظن واجب والمعارض المجمع عليه منتف فوجب العمل به احتج الخصم بأن منصب الرواية لا يليق بالفاسق أقصى ما في الباب أنه جهل فسقه لكن جهله بفسقه فسق آخر فإذا منع أحد الفسقين عن قبول الرواية فالفسقان أولى بذلك المنع والجواب أنه إذا علم كونه فسقا دل إقدامه عليه على اجترائه على المعصية بخلافه إذا لم يعلم ذلك ويجاب عن هذا الجواب أن إخلاله بأمور دينه إلى حد يجهل معه ما يوجب الفسق يدل أبلغ دلالة على اجترائه على دينه وتهاونه بما يجب عليه من معرفته .
واختلف أهل العلم في رواية المجهول : أي مجهول الحال مع كونه معروف العين برواية عدلين عنه فذهب الجمهور كما حكاه ابن الصلاح وغيره عنهم أن روايته غير مقبولة وقال أبو حنيفة تقبل روايته اكتفاء بسلامته من التفسيق ظاهرا وقال جماعة إن كان الراويان أو الرواة عنه لا يروون عن غير عدل قبل وإلا فلا وهذا الخلاف فيمن لا يعرف حاله ظاهرا ولا باطنا وأما من كان عدلا في الظاهر ومجهول العدالة في الباطن فقال أبو حنيفة يقبل ما لم يعلم الجرح وقال الشافعي لا يقبل ما لم تعلم العدالة وحكاه الكيا عن الأكثرين وذكر الأصفهاني أن المتأخرين من الحنفية قيدوا القول بالقبول بصدر الإسلام بغلبة العدالة على الناس إذ ذاك قالوا وأما المستور في زماننا فلا يقبل لكثرة الفساد وقلة الرشاد وقال الجويني بالوقف إذا روى التحريم إلى ظهور حاله ولنا مجهول العين وهو من لم يشتهر ولم يرو عنه إلا رواه واحد فذهب جمهور أهل العلم أنه لا يقبل ولم يخالف في ذلك إلا من لم يشترط في الراوي إلا مجرد الإسلام وقال ابن عبد البر إن كان المنفرد بالرواية عنه لا يروي إلا عن عدل كابن مهدي وابن معين ويحيى القطان فإنه تنتفي وترتفع عنه الجهالة العينية وإلا فلا وقال أبو الحسين بن القطان أن زكاة أحد من أئمة الجرح والتعديل مع روايته عنه وعمله بما رواه قبل إلا فلا وهذا هو ظاهر تصرف ابن حبان في ثقاته فإنه يحكم برفه الجهالة برواية واحدة وحكى ذلك عن النسائي أيضا قال أبو الوليد الباجي ذهب جمهور أصحاب الحديث إلى أن الراوي إذا روى عنه اثنان فصاعدا انتفت عنه الجهالة وهذا ليس بصحيح عند المحققين من أصحاب الأصول لأنه قد يروي الجماعة عن الواحد لا يعرفون حاله ولا يخبرون شيئا من أمره ويحدثون بما رووا عنه على الجهالة إذ لم يعرفوا عدالته انتهى وفيه نظر لأنهم إنما يقولون بارتفاع جهالة العين برواية الاثنين فصاعدا عنه لا بارتفاع جهالة الحال كما سبق والحق لأنها لا تقبل رواية مجهول العين ولا مجهول الحال لأن حصول الظن بالمروي لا يكون إلا إذا كان الراوي عدلا وقد دلت الأدلة من الكتاب والسنة على المنع من العمل بالظن كقوله سبحانه { إن الظن لا يغني من الحق شيئا } وقوله { ولا تقف ما ليس لك به علم } وقام الإجماع على قبول رواية العدل فكان كالمخصص لذلك العموم فبقي من ليس بعدل داخلا تحت العمومات وأيضا قد تقرر عدم قبول رواية الفاسق ومجهول العين أو الحال يحتمل أن يكون فاسقا وأن يكون غير فاسق فلا تقبل روايته مع هذا الاحتمال لأن عدم الفسق شرط في جواز الرواية عند فلا بد من العلم بوجود هذا الشرط وأيضا وجود الفسق مانع من قبول روايته فلا بد من العلم بانتفاء هذا المانع وأما استدلال من قال بالقبول بما يرونه من قوله صضص نحن نحكم بالظاهر فقال الذهبي والمزي وغيرهما من الحفاظ لا أصل له وإنما هو من كلام بعض السلف ولو سلمنا أن له أصلا لم يصلح للاستدلال به على محل النزاع لأن صدق المجهول غير ظاهر بل صدقه وكذبه مستويان وإذا عرفت هذا فلا يصدهم ما استشهدوا به لهذا الحديث الذي لم يصح بمثل قوله صضص إنما أقضي بنحو ما أسمع وهو في الصحيح وبما روي من قوله صضص لعمه العباس يوم بدر لما اعتذر بأنه أكره على الخروج فقال كان ظاهرك علينا وبما في صحيح البخاري عن عمر Bه إنما نؤاخذكم بما ظهر لنا من أعمالكم .
الشرط الرابع : الضبط فلا بد أن يكون الراوي ضابطا لما يرويه ليكون المروي له على ثقة منه في حفظه وقلة غلطه وسهوه فإن كان كثير الغلط والسهو ردت روايته إلا فيما علم أنه لم يغلط فيه ولا سها عنه وإن كان قليل الغلط قبل خبره إلا فيما يعلم أنه غلط فيه كذا قال ابن السمعاني وغيره قال أبو بكر الصيرفي : من أخطأ في حديث فليس بدليل على الخطأ في غيره ولم يسقط لذلك حديثه ومن كثر بذلك خطؤه وغلطه لم يقبل خبره لأن المدار على حفظ الحكاية قال الترمذي في العلل كل من كان متهما في الحديث بالكذب أو كان مغفلا يخطئ الكثير فالذي اختاره أكثر أهل الحديث من الأئمة أن لا يشتغل بالرواية عنه انتهى والحاصل أن الأحوال ثلاثة إن غلب خطؤه وسهوه على حفظه فمردود إلا فيما علم أنه لم يخطئ فيه وإن غلب حفظه على خطئه وسهوه فمقبول إلا فيما علم أنه أخطأ فيه وإن استويا بالخلاف قال القاضي عبد الجبار يقبل لأن جهة التصديق راجحة في خبره لعقله ودينه وقال الشيخ أبو إسحاق أنه يرد وقيل إنه يقبل خبره إذا كان مفسرا وهو أن يذكر من روى عنه ويعين وقت السماع منه وما أشبه ذلك وإلا فلا يقبل وبه قال القاضي حسين وحكاه الجويني عن الشافعي في الشهادة ففي الرواية أولى وقد أطلق جماعة من المصنفين في علوم الحديث أو الراوي إن كان تام الضبط مع بقية الشروط المعتبرة فحديثه من قسم الصحيح وإن خف ضبطه فحديثه من قسم الحسن وإن كثر غلطه فحديثه من قسم الضعيف ولا بد من تقييد هذا بما إذا لم يعلم بأنه لم يخطئ فيم رواه قال الكيا الطبري ولا يشترط انتفاء الغفلة ولا يوجب لحوق الغفلة له رد حديثه إلا أن يعلم أنه قد لحقته الغفلة فيه بعينه وما ذكره صحيح إذا كان ممن تعتريه الغفلة في غير ما يرويه كما وقع ذلك لجماعة من الحفاظ فإنهم قد تلحقهم الغفلة في كثير من أمور الدنيا فإذا رووا كانوا من أحذق الناس بالرواية وأنبههم فيما يتعلق بها وليس من شرط الضبط أن يضبط اللفظ بعينه كما سيأتي .
الشرط الخامس : أن لا يكون الراوي مدلسا وسواء كان التدليس في المتن أو في الإسناد أما التدليس في المتن فهو أن يزيد في كلام رسول الله صضص كلام غيره فيظن السامع أن الجميع من كلام رسول الله صضص وأما التدليس في الإسناد فهو على أنواع : .
أحدها : أن يكون في إبدال الأسماء فيعبر عن الراوي وعن أبيه بغير اسميهما وهذا نوع من الكذب .
وثانيهما : أن يسميه بتسمية غير مشهورة فيظن السامع أنه رجل آخر غير من قصده الراوي وذلك مثل من يكون مشهورا باسمه فيذكره الراوي بكنيته أو العكس إيهاما للمروي له بأنه رجل آخر غير ذلك الرجل فإن كان مقصد الراوي بذلك التغرير على السامع بأن المروي عنه غير ذلك الرجل فلا يخلو إما أن يكون ذلك الرجل المروي عنه ضعيفا وكان العدول إلى غير المشهور من اسمه أو كنيته ليظن السامع أنه رجل آخر غير ذلك الضعيف فهذا التدليس قادح في عدالة الراوي وإما أن يكون مقصد الراوي مجرد الإغراب على السامع مع كون المروي عنه عدلا على كل حال فليس هذا النوع من التدليس بجرح كما قال ابن الصلاح وابن السمعاني وقال أبو الفتح بن برهان هو جرح .
وثالثهما : أن يكون التدليس بإطراح اسم الراوي الأقرب وإضافة الرواية إلى من هو أبعد منه مثل أن يترك شيخه ويروي الحديث عن شيخ شيخه فإن كان المتروك ضعيفا فذلك من الخيانة في الرواية ولا يفعله إلا من ليس بكامل العدالة وإن كان المتروك ثقة وترك ذكره لغرض من الأغراض التي لا تنافي الأمانة والصدق ولا تتضمن التغرير على السامع فلا يكون ذلك قادحا في عدالة الراوي لكن إذا جاء في الرواية بصيغة محتملة نحو أن يقول : قال فلان أو روي عن فلان أو نحو ذلك أما لو قال حدثنا فلان أو أخبرنا وهو لم يحدث ولم يخبره بل الذي حدثه أو أخبره هو من ترك ذكره فذلك كذب يقدح في عدالته والحاصل أن من كان ثقة واشتهر بالتدليس فلا يقبل إلا إذا قال حدثنا أو أخبرنا أو سمعت لا إذا لم يقل كذلك لاحتمال أن يكون قد أسقط من لا تقوم الحجة بمثله .
أما الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر فالأول : منها أن لا يستحيل وجوده في العقل فإن أحاله العقل رد .
والشرط الثاني : أن لا يكون مخالفا لنص مقطوع به على وجه لا يمكن الجمع بينهما بحال .
والشرط الثالث : أن لا يكون مخالفا لإجماع الأمة عند من يقول بأنه حجة قطعية وأما إذا خالف القياس القطعي فقال الجمهور أنه مقدم على القياس وقيل إن كانت مقدمات القياس قطعية قدم القياس وإن كانت ظنية قدم الخبر وإليه ذهب أبو بكر الأبهري وقال القاضي أبو بكر الباقلاني إنهما متساويان وقال عيسى بن أبان إن كان الراوي ضابطا عالما قدم خبره وإلا محل اجتهاد وقال أبو الحسين البصري إن كانت العلة ثابتة بدليل قطعي فالقياس مقدم وإن كان حكم الأصول مقطوعا به خاصة دون العلة فالاجتهاد فيه واجب حتى يظهر ترجيح أحدهما فيعمل به وإلا فالخبر مقدم وقال أبو الحسين الصيمري لا خلاف في العلة المنصوص عليها وإنما الخلاف في المستنبطة قال الكيا قدم الجمهور خبر الضابط على القياس لأن القياس عرضه الزلل انتهى والحق تقديم الخبر الخارج من مخرج صحيح أو حسن على القياس مطلقا إذا لم يمكن الجمع بينهما بوجه من الوجوه كحديث المصراة وحديث العرايا فإنهما مقدمان على القياس وقد كان الصحابة التابعون إذا جاءهم الخبر لم يلتفتوا إلى القياس ولا ينظروا فيه وما روى عن بعضهم من تقديم القياس في بعض المواطن فبعضه غير صحيح وبعضه محمول على أنه لم يثبت الخبر عند من قدم القياس بوجه من الوجوه .
ومما يدل على تقديم الخبر على القياس حديث معاذ فإنه قدم العمل بالكتاب والسنة على اجتهاده ومما يرجح تقديم الخبر على القياس أن الخبر يحتاج إلى النظر في أمرين : عدالة الراوي ودلالة الخبر والقياس يحتاج إلى النظر في ستة أمور حكم الأصل وتعليله في الجملة وتعين الوصف الذي به التعليل ووجود ذلك الوصف في الفرع ونفي المعارض في الأصل ونفيه في الفرع هذا إذا لم يكن دليل الأصل خبرا فإن كان خبرا كان النظر في ثمانية أمور الستة المذكورة مع الاثنين المذكورين في الخبر ولا شك أن ما كان يحتاج إلى النظر في أمور كثيرة كان احتمال الخطأ فيه أكثر مما يحتاج إلى النظر في أقل منها .
واعلم أنه لا يضر الخبر عمل أكثر الأمة بخلافة لأن قول الأكثر ليس بحجة ولا يضره عمل أهل المدينة بخلافه خلافا لمالك وأتباعه لأنهم بعض الأمة ولجواز أنه لم يبلغهم الخبر ولا يضره عمل الراوي له بخلافه خلافا لجمهور الحنفية وبعض المالكية لأنا متعبدون بما بلغ إلينا من الخبر ولم نتعبد بما فهمه الراوي ولم يأت من قدم عمل الراوي على روايته بحجة تصلح للاستدلال بها وسيأتي لهذا البحث مزيد بسط في الشروط التي ترجع إلى لفظ الخبر ولا يضره كونه مما تعم به البلوى خلافا للحنفية وأبي عبد الله البصري لعمل الصحابة والتابعين بأخبار الآحاد في ذلك ولا يضره كونه في الحدود والكفارات خلافا للكرخي من الحنفية وأبي عبد الله البصري في أحد قوليه ولا وجه لهذا الخلاف فهو خبر عدل في حكم شرعي ولم يثبت في الحدود والكفارات دليل يخصها من عموم الأحكام الشرعية واستدلالهم بحديث إدرأوا الحدود بالشبهات باطل فالخبر الموجب للحد يدفع الشبهة على فرض وجودها ولا يضره أيضا كونه زيادة على النص القرآني أو السنة القطعية خلافا للحنفية فقالوا إن خبر الواحد إذا ورد بالزيادة في حكم القرآن أو السنة القطعية كان نسخا لا يقبل والحق القبول لأنها زيادة غير منافية للمزيد فكانت مقبولة ودعوى أنها ناسخة ممنوعة وهكذا إذا ورد الخبر مخصصا للعام من كتاب أو سنة فإن مقبول ويبنى العام على الخاص خلافا لبعض الحنفية وهكذا إذا ورد مقيدا لمطلق الكتاب أو السنة القطعية وقسم الهندي خبر الواحد إذا خصص عموم الكتاب أو السنة المتواترة أو قيد مطلقهما إلى ثلاثة أقسام : .
أحدها : أن ما لا يعلم مقارنته له ولا تراخيه عنه فقال القاضي عبد الجبار يقبل لأن الصحابة رفعت كثيرا من أحكام القرآن بأخبار الآحاد ولم يسألوا عنها هل كانت مقارنة أم لا ؟ قال وهو أولى لأن حمله على كونه مخصصا مقبولا أولى من حمله على كونه ناسخا مردودا .
الثاني : أن يعلم مقارنته له فيجوز عند من يجوز تخصيص المقطوع بالمظنون .
الثالث : أن يعلم تراخيه عنه وهو ممن لم يجوز تأخير البيان عن وقت الخطاب لم يقبله لأن لو قبله لقبل ناسخا وهو غير جائز ومن جوزه قبله إن كان ورد قبل حضور وقت العمل به وأما إذا ورد بعده فلا يقبل بالاتفاق انتهى وسيأتي تحقيق البحث في التخصيص للعام والتقييد للمطلق ولا يضره كون راويه انفرد بزيادة فيه على ما رواه غيره إذا كان عدلا فقد يحفظ الفرد ما لا يحفظه الجماعة وبه قال الجمهور إذا كانت تلك الزيادة غير منافية للمزيد أما إذا كانت منافية فالترجيح ورواية الجماعة أرجح من رواية الواحد وقيل لا نقبل رواية الواحد إذا خالفت رواية الجماعة وإن كانت تلك الزيادة غير منافية للمزيد إذا كان مجلس السماع واحدا وكانت الجماعة بحيث لا يجوز عليهم الغفلة عن مثل تلك الزيادة وأما إذا تعدد مجلس السماع فتقبل تلك الزيادة بالاتفاق ومثل انفراد العدل بالزيادة انفراده برفع الحديث إلى رسول الله صضص الذي وقفه الجماعة وكذا انفراده بإسناد الحديث الذي أرسلوه وكذا انفراده بوصل الحديث الذي قطعوه فإن ذلك مقبول منه لأنه زيادة على ما رووه وتصحيح لما أعلوه ولا يضره أيضا كونه خارجا مخرج ضرب الأمثال وروي عن إمام الحرمين أنه لا يقبل لأنه موضع تجوز فأجيب عنه بأنه وإن كان موضع تجوز فإن النبي صضص لا يقول إلا حقا لمكان العصمة .
وأما الشروط التي ترجع إلى لفظ الخبر : فإنه علم أن للراوي في نقل ما يسمعه أحوالا : .
الأول : أن يرويه بلفظه فقد أدى الأمانة كما سمعها ولكنه إذا كان النبي صضص قاله جوابا عن سؤال سائل فإن كان الجواب مستغنيا عن ذكر السؤال كقوله صضص في ماء البحر هو الطهور ماؤه الحل ميتته فالراوي محير بين أن يذكر السؤال أو يتركه وإن كان الجواب غير مستغن عن ذكر السؤال كما في سؤاله صضص عن بيع الرطب بالتمر فقال أينقص إذا جف ؟ فقيل نعم فقال فلا إذا فلا بد من ذكر السؤال وهكذا لو كان الجواب يحتمل أمرين فإذا نقل الراوي السؤال لم يحتمل إلا أمرا واحدا فلا بد من ذكر السؤال وعلى كل حال فذكر السؤال مع ذكر الجواب وما ورد على سبب أولى من الإهمال .
الحال الثاني : أن يرويه بغير لفظه بل بمعناه وفيه ثمانية مذاهب : .
الأول : منها أن ذلك جائز من عارف بمعاني الألفاظ لا إذا لم يكن عارفا فإنه لا يجوز له الرواية بالمعنى قال القاضي في التقريب بالإجماع ومنهم من شرط أن يأتي بلفظ مرادف كالجلوس مكان القعود أو العكس ومنهم من شرط أن يكون ما جاء به مساويا للأصل في الجلاء والخفاء فلا يأتي مكان الجلي بما هو دونه في الجلاء ولا مكان العام بالخاص ولا مكان المطلق بالمقيد ولا مكان الأمر بالخبر ولا عكس ذلك وشرط بعضهم أن لا يكون الخبر مما تعبدنا بلفظه كألفاظ الاستفتاح والتشهد وهذا الشرط لا بد منه وقد قيل إنه مجمع عليه وشرط بعضهم أن لا يكون الخبر من باب المتشابه كأحاديث الصفات وحكى الكيا الطبري الإجماع على هذا لأن اللفظ الذي تكلم به النبي صضص لا يدري هل يساويه اللفظ الذي تكلم به الراوي ويحتمل ما يحتمله من وجوه التأويل أم لا وشرط بعضهم أن لا يكون الخبر من جوامع الكلم فإن كان من جوامع الكلم كقوله : إنما الأعمال بالنيات من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه الحرب خدعة الخراج بالضمان العجماء جبار البينة على المدعي لم تجز روايته بالمعنى وشرط بعضهم أن يكون الخبر من الأحاديث الطوال وأما الأحاديث القصار فلا يجوز روايتها بالمعنى ولا وجه لهذا قال ابن الأنباري في شرح البرهان للمسألة ثلاث صور : .
أحدها : أن يبدل اللفظ بمرادفه كالجلوس بالقعود وهذا جائز بلا خلاف .
وثانيها : أن يظن دلالته على مثل ما دل عليه الأول من غير أن يقطع بذلك فلا خلاف في امتناع التبديل .
ثالثها : أن يقطع بفهم المعنى ويعبر عما فهم بعبارة يقطع بأنها تدل على ذلك المعنى الذي فهمه من غير أن تكون الألفاظ مترادفة فهذا موضع الخلاف والأكثرون على أنه متى حصل القطع بفهم المعنى مستندا إلى اللفظ إما بمجرده أو إليه مع القرائن التحق بالمترادف .
المذهب الثاني : المنع من الرواية بالمعنى مطلقا بل يجب نقل اللفظ بصورته من غير فرق بين العارف وغيره هكذا نقله القاضي عن كثير من السلف وأهل التحري في الحديث وقال أنه مذهب مالك ونقله الجويني والقشيري عن معظم المحدثين وبعض الأصوليين وحكي عن أبي بكر الرازي من الحنفية وهو مذهب الظاهرية نقله عنهم القاضي عبد الوهاب ونقله ابن السمعاني عن عبد الله بن عمر وجماعة من التابعين منهم ابن سيرين وبه قال الأستاذ أبو إسحق الإسفرائيني ولا يخفى ما في هذا المذهب من الحرج البالغ أو المخالفة لما كان عليه السلف والخلف من الرواة كما تاره في كثير من الأحاديث التي يرويها جماعة فإن غالبها بألفاظ مختلفة مع الاتحاد في المعنى المقصود بل قد ترى الواحد من الصحابة فمن بعدهم يأتي في بعض الحالات بلفظ في رواية وفي أخرى بغير ذاك اللفظ مما يؤدي معناه وهذا أمر لا شك فيه .
المذهب الثالث : الفرق بين الألفاظ التي لا مجال للتأويل فيها وبين الألفاظ التي للتأويل فيها مجال فيجوز النقل بالمعنى في الأول دون الثاني حكاه أبو الحسين بن القطان عن بعض أصحاب الشافعي واختاره الكيا الطبري .
المذهب الرابع : التفصيل بين أن يحفظ الراوي اللفظ أم لا فإن حفظه لم يجز له أن يرويه بغيره لأن في كلام رسول الله صضص من الفصاحة ما لا يوجد في غيره وإن لم يحفظ اللفظ جاز له الرواية بالمعنى وبهذا جزم الماوردي والروياني .
المذهب الخامس : التفصيل بين الأوامر والنواهي وبين الأخبار فتجوز الرواية بالمعنى في الأول دون الثاني قال الماوردي والروياني : أما الأوامر والنواهي فيجوز روايتها بالمعنى كقوله [ لا تبيعوا الذهب بالذهب ] وروى أنه نهى بيع الذهب بالذهب وقوله صضص اقتلوا الأسودين في الصلاة وروى أنه أمر أمر بقتل الأسودين في الصلاة قال هذا جائز بلا خلاف لأن أفعل أمر ولا تفعل نهي فيتخير الراوي بينهما وإن كان اللفظ في المعنى محتملا لإطلاق في إغلاق وجب نقله بلفظه ولا يعبر عنه بغيره .
المذهب السادس : التفصيل بين المحكم وغيره فتجوز الرواية بالمعنى في الأول دون الثاني كالمجمل والمشترك والمجاز الذي لم يشتهر .
المذهب السابع : أن يكون المعنى مودعا في جملة لا يفهمه العامي إلا بأداء تلك الجملة فلا يجوز روايته إلا بأداء تلك الجملة بلفظها كذا قال أبو بكر الصيرفي .
المذهب الثامن : التفصيل بين أن يورده على قصد الاحتجاج والفتيا أو يورده لقصد الرواية فيجوز الرواية بالمعنى في الأول دون الثاني فهذه ثمانية مذاهب ويتخرج من الشروط التي اشترطها أهل مذاهب غير هذه المذاهب .
الحال الثالث : أن يحذف الراوي بعض لفظ الخبر فينبغي أن ينظر فإن كان المحذوف متعلقا بالمحذوف منه تعلقا لفظيا أو معنويا لم يجز بالاتفاق حكاه الصفي الهندي وابن الأنباري فالتعلق اللفظي كالتقييد بالاستثناء والشرط والغاية والصفة والتعلق المعنوي كالخاص بالنسبة إلى العام والمقيد بالنسبة إلى المطلق والمبين بالنسبة إلى المجمل والناسخ بالنسبة إلى المنسوخ ويشكل على هذا المحكي من الاتفاق ما نقله الشيخ أبو إسحاق الشيرازي في اللمع والقاضي في التقريب من الجواز مطلقا سواء تعلق بعضه ببعض أم لا وفي هذا ضعف فإن ترك الراوي لما هو متعلق بما رواه لا سيما ما كان متعلقا به تعلقا لفظيا خيانة في الرواية وإن لم يكن كذلك فاختلفوا على أقوال : .
أحدها : إن كان قد نقل ذلك هو أو غيره مرة بتمامه جاز أن ينقل البعض وإن لم ينقل ذلك لا هو ولا غيره لم يجز كذا قال القاضي في التقريب والشيخ الشيرازي في اللمع .
ثانيها : أنه يجوز إذا لم يتطرق إلى الراوي التهمة ذكره الغزالي .
وثالثها : أن الخبر إذا كان لا يعلم إلا من طريق الراوي وتعلق به حكم شرعي لم يجز له أن يقتصر على بعضه دون بعض وإن لم يتعلق به حكم فإن كان الراوي فقيها جاز له ذلك وإن كان غير فقيه لم يجز قاله ابن فورك وأبو الحسين بن القطان .
ورابعها : إن كان الخبر مشهورا بتمامه جاز الاقتصار من الراوي على البعض وإلا فلا قاله بعض شراح اللمع لأبي إسحاق .
وخامسها : المنع مطلقا .
وسادسها : التفصيل بين أن يكون المحذوف حكما متميزا عما قبله والسامع فقيه عالم بوجه التميز فيجوز الحذف وإلا لم يجز قال الكيا الطبري وهذا التفصيل هو المختار قال الماوردي والروياني : لا يجوز إلا بشرط أن يكون الباقي مستقلا بمفهوم الحكم كقوله في ماء البحر هو الطهور ماؤه الحل ميتته فيجوز للراوي أن يقتصر على رواية إحدى هاتين الجملتين وإن كان الباقي لا يفهم معناه فلا يجوز وإن كان مفهوما ولكن ذكر المتروك يوجب خلاف ظاهر الحكم المذكور كقوله صضص في الأضحية لمن قال له ليس عندي إلا جذعة من المعز فقال [ تجزئك ولا تجزئ أحدا بعدك ] فلا يجوز الحذف لأنه لو اقتصر على قوله تجزئك لفهم من ذلك أنها تجزئ عن جميع الناس هذا حاصل ما قيل في هذه المسألة وأنت خبير بأن كثيرا من التابعين والمحدثين يقتصرون على رواية بعض الخبر عند الحاجة إلى رواية بعضه لا سيما في الأحاديث الطويلة كحديث جابر في صفة حج النبي صضص ونحوه من الأحاديث وهم قدوة لمن بعدهم في الرواية لكن بشرط أن لا يستلزم ذلك الاقتصاد على البضع مفسدة .
الحال الرابع : أن يزيد الراوي في روايته للخبر على ما سمعه من النبي صضص فإن كان ما زاده يتضمن بيان سبب الحديث أو تفسير معناه فلا بأس بذلك لكن بشرط أن يبين ما زاده حتى يفهم السامع أنه من كلام الراوي قال المارودي والروياني يجوز من الصحابي زيادة بيان السبب لكونه مشاهدا للحال ولا يجوز من التابعي وأما تفسير المعنى فيجوز منهما ولا وجه للاقتصار على الصحابي والتابعي في تفسير معنى الحديث فذلك جائز لكل من يعرف معناه معرفة صحيحة على مقتضى اللغة العربية بشرط الفصل بين الخبر المروي وبين التفسير الواقع منه بما يفهمه السامع .
الحال الخامس : إذا كان الخبر محتملا لمعنيين متنافيين فاقتصر الراوي على تفسيره بأحدهما فإن كان المقتصر على أحد المعنيين هو الصحابي كان تفسيره كالبيان لما هو المراد وإن كان المقتصر غير صحابي ولم يقع الإجماع على أن المعنى الذي اقتصر عليه هو المراد فلا يصار إلى تفسيره بل يكون لهذا اللفظ المحتمل للمعنيين المتنافيين حكم هو المراد المشترك أو المجمل فيتوقف العمل به على ورود دليل يدل على أن المراد أحدهما بعينه والظاهر أن النبي صضص لا ينطق بما يحتمل المعنيين المتنافيين لقصد التشريع ويخليه عن قرينة حالية أو مقالية بحيث لا يفهم الراوي لذلك عنه من الصحابة ما أراده بذلك اللفظ بل لا بد من بيانه بما يتضح به المعنى المراد فقد كانوا يسألونه صضص إذا أشكل عليهم شيء من أقواله أو أفعاله فكيف لا يسألونه عن مثل هذا وقد نقل القاضي أبو بكر والجويني عن الشافعي أن الصحابي إذا ذكر خبرا أو أوله وذكر المراد منه فذلك مقبول قال ابن القشيري إنما أراد والله أعلم إذا أول الصحابي أو خصص من غير ذكر دليل وإلا فالتأويل المعتضد بالدليل مقبول من كل إنسان لأنه اتباع للدليل لا اتباع لذلك التأويل .
الحال السادس : أن يكون الخبر ظاهرا في شيء فيحمله الراوي من الصحابة على غير ظاهره إما بصرف اللفظ عن حقيقته أو بأن يصرفه عن الوجوب إلى الندب أو عن التحريم إلى الكراهة ولم يأت بما يفيد صرفه عن الظاهر فذهب الجمهور من أهل الأصول إلى أنه يعمل بالظاهر ولا يصار إلى خلافه لمجرد قول الصحابي أو فعله وهذا هو الحق لأنا متعبدون بروايته لا برأيه كما تقدم وذهب أكثر الحنفية إلى أنه يعمل بما حمله عليه الصحابي لأنه أخبر بمراد النبي صضص ويجاب عن هذا بأنه قد يحمله على ذلك على خلاف ظاهره اجتهادا منه والحجة إنما هي روايته لا في رأيه وقد يحمله وهما منه وقال بعض المالكية إن كان ذلك مما لا يمكن أن يدرى إلا بشواهد الأحوال والقرائن يمكن أن يكون بضرب من الاجتهاد كان الرجوع إلى الظاهر متعينا لاحتمال أن لا يكون اجتهاده مطابقا لما في نفس الأمر فلا يترك الظاهر بالمحتمل ويجاب عنه بأن ذلك الحمل على خلاف الظاهر فيما ليس من مسارح الاجتهاد قد يكون وهما فلا يجوز اتباعه على الغلط بخلاف العمل بما يقتضيه الظاهر فإنه عمل بما يقتضيه كلام الشارع فكان العمل عليه أرجح وقال القاضي عبد الجبار وأبو الحسين البصري إن علم أنه لم يكن لمذهب الراوي وتأويله وجه سوى علمه بقصد النبي صضص لذلك التأويل وجب المصير إليه وإن لم يعلم ذلك بل جوز فقد وجب المصير إلى ظاهر الخبر وهذا مسلم إذا حصل العلم بذلك وأما إذا ترك الصحابي العمل بما رواه بالكلية فقد قدمنا الكلام عليه في الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر ولا وجه لما قيل من أنه قد اطلع على ناسخ لذلك الخبر الذي رواه لأنا لم نتعبد بمجرد هذا الاحتمال وأيضا فربما ظن أنه منسوخ ولم يكن كذلك