المبحث الثاني : أنه لا يمكن التعارض بين دليلين قطعيين اتفاقا .
سواء كانا عقليين أو نقليين هكذا حكى الاتفاق الزركشي في البحر قال الرازي في المحصول الترجيح لا يجوز في الأدلة اليقينية لوجهين : الأول أن شرط اليقيني أن يكون مركبا من مقدمات ضرورية أو لازمة عنها لزوما ضروريا إما بواسطة واحدة أو وسائط شأن كل واحدة منها ذلك وهذا لا يتأتى إلا عند اجتماع علوم أربعة : الأول العلم الضروري بحقية المقدمات إما ابتداء أو انتهاء والثاني العلم الضروري بأن ما يلزم عن الضروري لزوما ضروريا فهو ضروري فهذه العلوم الأربعة يستحيل حصولها في النقيضين معا وإلا لزم القدح في الضروريات وهو سفسطة و إذا علم ثبوتها امتنع التعارض الثاني الترجيح عبارة عن التقوية والعلم اليقيني لا يقبل التقوية لأنه أن قارنة الاحتمال النقيض ولو على أبعد الوجوه كان ظنا لا علما وإن لم يقارنه ذلك لم يقبل التقوية انتهى وقد جعل أهل المنطق شروط التناقض في القضايا الشخصية ثمانية اتحاد الموضوع والمحمول والإضافة والكل والجزء في القوة والفعل وفي الزمان والمكان وزاد بعض المتأخرين وهو اتحادهما في الحقيقة والمجاز نحو قوله تعالى : { و ترى الناس سكارى وما هم بسكارى } ورد هذا بعضهم بأنه راجع إلى وحدة الإضافة أي تراهم بالإضافة إلى أهوال يوم القيامة سكارى مجازا وما هم بسكارى بالإضافة إلى الخمر ومنهم من رد الثمانية إلى ثلاثة الاتحاد في الموضوع والمحمول والزمان ومنهم من ردها إلى إثنين الاتحاد في الموضوع والمحمول والاندراج وحدة الزمان تحت وحدة المحمول ومنهم من ردها إلى أمر واحد وهو الاتحاد في النسبة وهذه الشروط على هذا الاختلاف فيها لا يخص الضروريات وإنما ذكرناها هاهنا لمزيد الفائدة بها ومما لا يصح التعارض فيه إذا كان أحد المتناقضين قطعيا والآخر ظنيا لأن الظن ينتفي بالقطع بالنقيض وإنما يتعارض الظنيان سواء كان المتعارضان نقليين أو عقليين أو كان أحدهما نقليا والآخر عقليا ويكون الترجيح بينهما بما سيأتي وقد منع جماعة وجود دليلين ينصبهما الله تعالى في مسألة متكافئين في نفس الأمر بحيث لا يكون لأحدهما مرجح وقالوا لا بد أن يكون أحدهما أرجح من الآخر في نفس الأمر وإن جاز خفاؤه على بعض المجتهدين ولا يجوز تعارضهما في نفس الأمر من كل وجه قال الكيا وهو الظاهر من مذهب عامة الفقهاء وبه قال العنبري وقال ابن السمعاني وهو مذهب الفقهاء ونصره وحكاه الآمدي عن أحمد بن حنبل عن أحمد القاضي وأبو الخطاب من أصحابه وإليه ذهب أبو علي وأبو هاشم عن القاضي أبي بكر الباقلاني قال الكيا وهو المنقول عن الشافعي وقرره الصيرفي في شرح الرسالة فقال قد صرح الشافعي بأنه لا يصح عن النبي صضص أبدا حديثات صحيحان متضادان ينفي أحدهما ما يثبته الآخر من غير جهة الخصوص والعموم والإجمال والتفسير إلا على وجه النسخ وإن لم يجده انتهى وفصل القاضي من الحنابلة بين مسائل الأصول فيمتنع وبين مسائل الفروع فيجوز وحكى الماوردي والرياني عن الأكثرين أن التعارض على جهة التكافؤ في نفس الأمر بحيث لا يكون أحدهما أرجح من الآخر جائز وواقع وقال القاضي أبو بكر والأستاذ أبو منصور والغزالي وابن الصباغ الترجيح بين الظواهر المتعارضة إنما يصح على قول من قال إن المصيب في الفروع واحد وأما القائلون بأن كل مجتهد مصيب فلا معنى لترجيح ظاهر على ظاهر لأن الكل صواب عنده واختاره الفخر الرازي وأتباعه أن تعادل الأمارتين على حكم في فعلين متابيين جائز واقع وأما تعارضهما متباينين في فعل واحد كالإباحة والتحريم فإنه جائز عقلا ممتنع شرعا .
واختلفوا على فرض وقوع التعادل في نفس الأمر مع عجز المجتهد عن الترجيح بينهما وعدم وجود دليل آخر فقيل أنه مخير وبه قال أبو علي وأبو هاشم ونقله الرازي والبيضاوي عن القاضي أبي بكر الباقلاني وقيل إنهما يتساقطان ويطلب الحكم من موضع آخر أو يرجع المجتهد إلى عموم أو إلى البراءة الأصلية ونقله الكيا عن القاضي ونقله الأستاذ أبو منصور عن أهل الظاهر وبه قطع ابن كج وأنكر ابن حزم نسبته إلى الظاهرية وقال إنما هو قول بعض شيوخنا وهو خطأ بل الواجب الأخذ بالزائد إذ لم يقدر على استعمالها جميعا وقيل إن كان التعارض بين حديثين تساقطا ولا يعمل بواحد منهما وإن كان بين قياسين فيخير حكاه ابن برهان في الوجيز عن القاضي ونصره وقيل بالوقف حكاه الغزالي وجزم به سليم الرازي في التقريب واستبعده الهندي إذ الوقف فيه لا إلى غاية وأمد إذ لا يرجى فيه ظهور الريب إن وإلا لم يكن من مسألتنا بخلاف التعادل الذهني فإنه يتوقف إلى أن يظهر المرجح وقيل يأخذه بالأغلظ حكاه الماوردي والرياني وقيل يصير إلى التوزيع إن أمكن تنزيل كل إمارة على أمر حكاه الزركشي في البحر وقيل إن كان بالنسبة إلى الواجبات فالتخيير وإن كان في الإباحة كالتحريم فالتساقط والرجوع إلى البراءة الأصلية ذكره في المستصفى وقيل يقلد عالما أكبر منه ويصير كالعامي لعجزه عن الاجتهاد وحكاه إمام الحرمين وقيل أنه كالحكم قبل ورود الشرع فتجيء فيه الأقوال المشهورة حكاه الكيا الطبري فهذه تسعة مذاهب فيما كان متعارضا في نفس الأمر مع عدم إمكان الترجيح