الفصل الخامس فيما لا يجري فيه القياس .
فمن ذلك الأسباب وقد اختلفوا في ذلك فذهب أصحاب أبي حنيفة وجماعة الشافعية وكثير من أهل الأصول إلى أنه لا يجري فيها وذهب جماعة من أصحاب الشافعي إلى أنه يجري فيها ومعنى القياس في الأسباب أن يجعل الشارع وصفا سببا لحكم فيقاس عليه وصف آخر فيحكم بكونه سببا وذلك نحو جعل الزنا سببا للحد فيقاس عليه اللواط في كونه سببا للحد احتج المانعون بأن عليه سببية المقيس عليه وهي قدر من الحكمة يتضمنها الوصف الأول منتفية في المقيس وهو الوصف الآخر أي لم يعلم ثبوتها فيه لعدم انضباط الحكم وتغاير الوصفين فيجوز اختلاف الحكمة الحاصلة بهما وإذا كان كذلك امتنع الجمع بينهما في الحكم وهو السببية لأن معنى القياس الاشتراك في العلة وبه يمكن التشريك في الحكم وأيضا الحكمة المشتركة إما أن تكون ظاهرة منضبطة يمكن جعلها مناطا للحكم أو لا تكون فعلى الأولى قد استغنى القياس عن الالتفات إلى الوصفين وصار القياس في الحكم المترتب على الحكمة وهي الجامع بينهما فاتحد الحكم والسبب وهو الخلاف المفروض وعلى الثاني فإما يكون لها مظنة أي وصف ظاهر منضبط تنضبط هي به أولا فعلى الأول صار في الحكم المترتب على ذلك الوصف فاتحد الحكم والسبب أيضا وعلى الثاني لا جامع بينهما من حكمة أو مظنة فيكون قياسا خاليا عن الجامع وهو لا يجوز واحتج القائلون بالجواز بأنه قد ثبت القياس في الأسباب وذلك كقياس المثقل على المحدد في كونه سببا للقصاص وقياس اللواطة على الزنا في كونها سببا للحد وأجيب بأن ذلك خارج عن محل النزاع لأن النزاع إنما هو فيما تغاير فيه السبب في الأصل والفرع أي الوصف المتضمن للحكمة وكذا العلة وهي الحكمة وهاهنا السبب سبب واحد يثبت لهما أي الحكم وهما الأصل والفرع بعلة واحدة ففي المثقل والمحدد السبب هو القتل العمد العدوان والعلة الزجر لحفظ النفس الحكم القصاص وفي الزنا واللواطة السبب إيلاج فرج في فرج محرم شرعا مشتهى طبعا والعلة الزجر لحفظ النسب والحكم وجوب الحد وهذا الجواب لا يرد على الحنفية المانعين من القياس في الأسباب لأنهم لا يقولون بالقصاص في المثقل ولا بالحد في اللواطة وإنما يرد من قال بمنع القياس في الأسباب من الشافعية فإنهم يقولون بذلك قال المحقق السعد والحق أن رفع النزاع بمثل ذلك يعني لكونه ليس محل النزاع ممكن في كل صورة فإن القائلين بصحة القياس في الأسباب لا يقصدون إلا ثبوت الحكم بالوصفين لما بينهما من الجامع ويعود إلى ما ذكرتم من اتحاد الحكم والسبب .
واختلفوا أيضا هل يجري القياس في الحدود و الكفارات أم لا ؟ فمنعه الحنفية وجوزه غيرهم احتج المانعون بأن الحدود مشتملة على تقديرات لا تعقل كعدد المائة في الزنا والثمانين في الذف فإن العقل لا يدرك الحكمة في اعتبار خصوص هذا العدد والقياس فرع تعقل المعنى في حكمة الأصل وما كان يعقل منها كقطع يد السارق لكونها قد جنت بالسرقة فقطعت فإن الشبهة في القياس لاحتماله الخطأ توجب المنع من إثباته بالقياس وهكذا اختلاف تقديرات الكفارات فإنه لا يعقل كما لا تعقل أعداد الركعات وأجيب عن ذلك بأن جريان القياس إنما يكون فيما يعقل معناه منها لا فيما يعقل فإنه لا خلاف في عدم جريان القياس فيه كما في غير الحدود والكفارات ولا مدخل لخصوصيتهما في امتناع القياس وأجيب عما ذكروه من الشبهة في القياس لاحتماله الخطأ بالنقض بخبر الواحد وبالشهادة فإن احتمال الخطأ فيهما قائم لأنهما لا يفيدان القطع وذلك يقتضي عدم ثبوت الحد بهما والجواب الجواب واحتج القائلون بإثبات القياس في الحدود والكفارات بأن الدليل الدال على حجية القياس يتناولهما بعمومه فوجب العمل به فيهما ويؤيد ذلك أن الصحابة حدوا في الخمر بالقياس حتى تشاوروا فيه فقال علي Bه : إذا شرب سكر وإذا سكر هذى وإذا هذى افترى فأرى عليه حد الافتراء فأقام مظنة الشيء مقامه وذلك هو القياس واحتجوا أيضا بأن القياس إنما يثبت في غير الحدود والكفارات لاقتضاء الظن وهو حاصل فيهما فوجب العمل به واعلم أن عدم جريان القياس فيما لا يعقل كضرب الدية على العاقلة قد قيل إنه إجماع وقيل إنه مذهب الجمهور وأن المخالف في ذلك شذوذ ووجه المنع أن القياس فرع تعقل المعنى المعلل به الحكم في الأصل و استدل من أثبت القياس فيما لا يعقل معناه بأن الأحكام الشرعة متماثلة لأنه يشملها حد واحد وهو الحكم الشرعي والممثلان يجب اشتراكهما فيما يجوز عليهما لأن حكم الشيء حكم مثله وأجيب بأن هذا القدر لا يوجب التماثل وهو الاشتراك في النوع فإن الأنواع المتخالفة قد تندرج تحت جنس واحد فيعمها حد واحد وهو حد ذلك الجنس ولا يلزم من ذلك تماثلها بل تشترك في الجنس ويمتاز كل نوع منها بأمر يميزه وحينئذ فما كان يلحقها باعتبار القدر المشترك من الجواز والامتناع يكون عاما لا ما كان يلحقها باعتباره غيره