وبذلك تعلم أن الحنفية اختلفوا مع سائر الأئمة في هذا الحكم أما المالكية فقد رتبوا النقض على قصد اللذة أو وجدانها فخالفوا الشافعية والحنابلة في مس العجوز التي لا تشتهي . فقالوا إنه لا ينقض والشافعية والحنابلة قالوا إنه ينقض وكذا خالفوهم في مس الأمرد الجميل فقال المالكية : إنه ينقض . وقال الشافعية والحنابلة : إنه لا ينقض ووافقوهم على أن اللمس لا ينقض إلا إذا كان الملموس عاريا أو مستورا بساتر خفيف على أن المالكية قالوا : إذا كان لابسا أثوابا ثم قبض المتوضئ على جسمه بيده فإن وضوءه ينتقض واختلفوا في لمس الشعر فقال المالكية : إذا لمس الرجل شعر المرأة انتقض وضوءه إذا قصد لذة أو وجدها لأن الشعر مما يتلذذ به بلا نزاع بخلاف المرأة إذا لمست رجلا بشعرها فإن وضوءها لا ينتقض لأن شعرها لا تحس به أما الحنابلة والشافعية فقالوا : إن لمس الشعر لا ينقض ) .
القسم الثالث : من النواقض التي يترتب عليها الخروج من أحد السبيلين : المس باليد . وحكم هذا فيه تفصيل . وهو أنه لا يخلو إما أن يمس بها نفسه أو غيره . فإن مس غيره كان لامسا . تجري عليه أحكام اللمس المتقدمة . أما إن مس نفسه فإن المعتاد في مثل ذلك أن الإنسان لا يلتذ بمس جزء من أجزاء بدنه . ولكن قد ورد في الحاديث ما يدل على أن من مس ذكر نفسه انتقض وضوءه . وورد في البعض الآخر أن ذلك المس لا ينقض الوضوء ولذا اختلفت المذاهب في ذلك فمن قال : إن مس ذكر الإنسان نفسه لا ينقض . استدل بأحاديث : منها ما رواه أصحاب السنن . إلا ابن ماجة وهو أن النبي A سئل عن رجل يمس ذكره في الصلاة فقال : " هل هو إلا بضعة منك " وهذا الحديث رواه ابن حبان أيضا في " صحيحه " وقال الترمذي : إن هذا الحديث أحسن شيء يروى في هذا الباب : أما الذين قالوا : إن مس الذكر ينقض الوضوء فقد استدلوا بأحاديث كثيرة : منها قوله A : " من مس ذكره فليتوضأ " وقد أجمع الأئمة الثلاثة على أن مس الذكر ينقض " وخالف الحنفية في ذلك فقط " فقالوا : إنه لا ينقض وإليك تفصيل مذهبهم ( الحنفية قالوا : إن مس الذكر لا ينقض الوضوء ولو كان بشهوة سواء كان بباطن الكف أو بباطن الأصابع لأن رسول الله A جاءه رجل كأنه بدوي فقال : يا رسول الله ما تقول في رجل مس ذكره في الصلاة ؟ فقال : " هل هو إلا بضعة منك أو مضغة منك ؟ " ولكنه يستحب منه الوضوء خروجا من خلاف العلماء لأن العبادة المتفق عليها خير من العبادة المختلف فيها بشرط أن لا يرتكب مكروه مذهبه .
هذا وقد حمل بعض الحنفية المس في قوله A : " من مس ذكره فليتوضأ " على الوضوء اللغوي وهو غسل اليدين فيندب له أن يغسل يديه من المس عند إرادة الصلاة وكذلك لا ينتقض الوضوء لمس أي جزء من أجزاء بدنه فلو مس حلقه دبره فإن وضوءه لا ينتقض وكذا إذا مست المرأة قبلها ولكن لو أدخل غصبعه أو شيئا - كطرف حقنة - وغيبها انتقض وضوءه لأنها تكون بمنزلة دخول شيء في الباطن ثم خروجه فإن أدخل بعضها ولم يغيبه فإن أخرجها مبتلة أو بها رائحة انتقض وضوءه وإلا فلا وكذلك المرأة إذا وضعت إصبعها أو قطنة ونحوها في قبلها فإن خرج مبتلا انتقض الوضوء وإلا فلا .
المالكية قالوا : ينتقض الوضوء بمس الذكر بشروط : أن يمس ذكر نفسه المتصل به . فلو مس ذكره غيره كان لامسا يجري عليه حكمه وأن يكون بالغا ولو خنثى فلا ينتقض وضوء الصبي بذلك المس وأن يكون المس بدون حائل وأن يكون المس بباطن الكف أو جنبه أو بباطن الأصابع أو جنبها أو برأس الإصبع ولو كانت زائدة إن ساوت إحدى الأصابع الأصلية في الإحساس والتصرف فلا ينتقض إذا مسه بعضو آخر من أعضاء بدنه كفخذه أو ذراعه كما لا ينتقض إذا مسه بعود أو من فوق حائل وينتقض الوضوء بالمس المستكمل للشروط المذكورة سواء التذ أولا وسواء كان عمدا أو نسيانا ولا ينتقض بمس امرأة فرجها ولو أدخلت فيه إصبعها . ولو التذت ولا ينتقض بمس حلقة الدبر . ولا بإدخال إصبعه فيه على الراجح وإن كان حراما إذا كان لغير حاجة ولا ينتقض بمس موضع الجب - أي قطع الذكر - ولا بمس الخصيتين ولا العانة ولو تلذذ أما مس دبر غيره أو فرج امرأة فإنه لمس يجري عليه حكم الملامسة .
الشافعية قالوا : ينتقض الوضوء بمس الذكر المتصل والمنفصل . إذا لم يتجزأ بعد الانفصال . فلا ينطلق عليه الاسم وينتقض بمس محل القطع وإنما ينتقض ذلك المس بشروط منها عدم الحائل ومنها أن يكون المس بباطن الكف أو الأصابع وباطن الكف أو الأصابع - هو ما يستتر عند انطباقهما بعضهما على بعض مع ضغط خفيف - فلا ينتقض بالمس بحرف الكف وأطراف الأصابع وما بينهما .
هذا والشافعية كالحنابلة لا يخصون المس بمس الشخص ذكر نفسه وإنما يقولون : إن المس يتناول مس ذكر الغير فلذا قالوا : إن مس الذكر ينقض الوضوء سواء كان ذكر نفسه أو ذكر غيره ولو كان ذكر صغير أو ميت وإنما ينتقض وضوء الماء دون الممسوس وكذا ينتقض وضوء المرأة إذا مست قبلها كما ينتقض وضوء من مسه طبعا وحلقة الدبر لها حكيم الفرج عندهم : بخلاف الخصية والعانة فلا نقض بمسهما .
الحنابلة قالوا : ينتقض الوضوء بكل خارج نجس من سائر البدن غير القبل والدبر المتقدم حكمه بشرط أن يكون كثيرا والكثرة والقلة تعتبر في حق كل إنسان بحسبه بمعنى أنه يراعى في تقدير ذلك حالة الجسم قوة وضعفا ونحافة وضخامة فلو خرج دم مثلا من نحيف وكان كثيرا بالنسبة إلى جسده نقض وإلا فلا ومن ذلك القيء عندهم ) .
القسم الرابع من النواقض بسبب الخارج من السبيلين : هو ما يخرج من بدن الإنسان من غير القبل أو الدبر كالقيح الذي يخرج من الدمل أو الدم الذي يخرج بسبب ذلك أو بسبب جرح أو نحو ذلك وكل نجس ينقض الوضوء على تفصيل في المذاهب .
وينتقض ( الحنفية قالوا : إن الوضوء لا ينتقض بالردة وإن كانت الردة محبطة لكثير من الأعمال الدينية والتصرفات المالية ونحو ذلك مما بيناه في " الجزء الرابع " من هذا الكتاب فليرجع إليها من يشاء .
الشافعية قالوا : الردة لا تنقض الوضوء إذا ارتد وهو صحيح من مرض السلس ونحوه أما المريض بالسلس فإن وضوءه ينتقض بالردة وذلك لأن طهارته ضعيفة ) الوضوء بالردة . فإذا ارتد المتوضئ عن دين الإسلام . انتقض وضوءه وقد يقع ذلك كثيرا من الجهلة الذين يستولي عليهم الغضب الشديد فيسبون الدين . وينطقون بكلمات مكفرة بدون مبالاة ثم يندمون بعد ذلك فهؤلاء ينتقض وضوءهم إذا كانوا متوضئين ولا يخفى أن هذا بعض عقوبات الردة الهينة إذ لو علم الناس أن الردة تحبط الأعمال وتبطلها لضبطوا أنفسهم وحفظوا ألسنتهم من النطق بكلمات تضر كثيرا ولا تنفع في شيء ما .
ولا ينتقض الوضوء بالقهقهة ( الحنفية قالوا : القهقهة في الصلاة تنقض الوضوء وقد وردت في ذلك أحاديث : منها ما رواه الطبراني عن أبي موسى قال : بينما رسول الله A يصلي بالناس إذ دخل رجل فتردى في حفرة كانت في المسجد - وكان في بصره ضرر - فضحك كثير من القوم وهم في الصلاة فأمر رسول الله A من ضحك أن يعيد الوضوء ويعيد الصلاة والقهقهة بخلاف ما إذا ضحك بصوت يسمعه هو وحده ولا يسمعه من بجواره فإن وضوءه لا ينتقض بذلك بل تبطل به الصلاة وإنما ينتقض الوضوء بالقهقهة إذا كان المصلي بالغا ذكرا كان أو امرأة عامدا كان أو ناسيا أما إذا كان صبيا فإن وضوءه لا ينتقض بالقهقهة ويشترط أيضا أن تقع القهقهة في صلاة ذات ركوع وسجود فإن كان في سجود تلاوة ونحوه وقهقهة بطل سجوده ولم ينتقض .
وإذا تعمد الخروج من الصلاة بالقهقهة بدل السلام انتقض وضوءه وصحت صلاته لأن الخروج من الصلاة يحصل عندهم بغير السلام كما سيأتي ومع هذا فإنه يكون قد أساء الأدب حال مناجاة ربه وترك واجب السلام كما ستعرفه في " كتاب الصلاة " ) في الصلاة ولا بأكل لحم جزور - جمل أو قعود - ولا بتغسيل الميت ( الحنابلة قالوا : ينتقض الوضوء بأكل لحم الجزور وبتغسيل الميت ) .
وكذا لا ينتقض الوضوء بالشك ( المالكية قالوا : ينتقض الوضوء بالشك في الحدث أو سببه كأنه يشك بعد تحقق الوضوء هل خرج منه ريح أو مس ذكره مثلا أولا أو شك بعد تحقق الناقض هل توضأ أو لا أو شك بعد تحقق الناقض والوضوء هل السابق الناقض أو الوضوء فكل ذلك ينقض الوضوء لأن الذمة لا تبرأ إلا باليقين والشاك لا يقين عنده ) في الحدث ولذلك صورتان : الصورة الأولى : أن يتوضأ بيقين ثم يشك هل أحدثت بعد ذلك الوضوء أو لا وهذا الشك لا ينقض وضوءه لأنه شك في حصول الحدث بعد الوضوء والشك لا يزيل يقين الطهارة الصورة الثانية : أن يتوضأ بيقين ويحدث بيقين ولكنه يشك هل توضأ قبل الحدث فيكون وضوءه قد انتقض بالحدث أو توضأ بعد الحدث فيكون وضوءه باقيا وتحت هذه الصورة أمزان : الأول : أن يتذكر قبل ذلك الوضوء والحدث الذي شك فيهما ولم يدر أيهما حصل أولا فإن تذكر أنه كان محدثا قبل ذلك اعتبر متوضئا لأنه ثبت أنه توضأ بعد الحدث الأول بيقين وشك في أنه أحدث ثانيا أو لا قد عرفت أن الشك عند الحنفية لا يضر مثال ذلك أن يتوضأ بعد الظهر بيقين ويحدث بيقين ولكنه يشك في هل الحدث الناقض وقع أولا فيكون الوضوء باقيا أو الوضوء حصل أولا فيكون الوضوء منتقضا بالحدث وفي هذه الحالة ينظر إلى ما كان عليه قبل الظهر فإن تذكر أنه كان محدثا قبل الظهر فإنه يعتبر متطهرا بعده وذلك لأنه تيقن الحدث الأول الواقع منه قبل الظهر هل وقع قبل الوضوء أو بعده ؟ والشك لا يرفع الحدث فيكون متوضئا الأمر الثاني : أن يتذكر أنه كان متوضئا قبل الظهر ثم توضأ بعده وأحدث وفي هذه الحالة تفصيل وهو إن كان من عادته تجديد الوضوء ( الحنابلة قالوا : يعمل بضد حالته الأولى ولو كان من عادته تجديد الوضوء ) . فإنه يعتبر بعد الفجر محدثا بيقين لأنه كان متوضئا قبله بيقين ثم جدد الوضوء بعده وأحدث ولا يدري أيهما السابق فلا يعتبر شاكا في نقض الوضوء لأنه كان متوضئا أولا بيقين ثم أحدث بيقين ووضوءه الثاني يعتبر تجديدا للوضوء الأول الذي وقع بعد الحدث بيقين فلا يكون تجديد الوضوء رفعا للحدث المتيقن أما إذا لم يكن من عادته الوضوء فإنه يعتبر متطهرا لأن طهارته الثانية ترفع الحدث المشكوك فيه .
هذا كله إذا شك في الوضوء بعد تمامه أما إذا شك أثناء الوضوء في عضو فإن عليه أن يعيد تطهير العضو الذي شك فيه .
ولا يخفى أن هذه الدقائق العلمية ذكرناها لما عساها أن ينتفع بها طلبة العلم أما العامة فليس من الضروري أن يعرفوا مثل هذه الدقائق إلا في الأحوال الضرورية كما إذا كان شخص في جهة يقل فيها الماء أو كان يصعب عليه إعادة الوضوء لكبر أو ضعف أو برد وكان في حالة لا يباح له فيها التيمم : أو نحو ذلك فلم يقصر العلماء في بيان حكم من الأحكام سواء كان ينتفع به الجمهر أو بعضهم