- وأما السحر الوارد في الحديث فإن المراد به الأقوال والأفعال التي تنافي أصول الدين وتتعارض مع الأخلاق الشرقية ولهذا عرفه الفقهاء : بأنه كلام مؤلف يعظم به غير الله تعالى وتنسب إليه مقادير الكائنات ولا ريب في أنه بهذا المعنى كبيرة من أفظع الكبائر بل قد يكون ردة ظاهرة بصرف النظر عما يترتب عليه من الآثار . لأن الذي يعظم غير الله بما هو مختص بالله وحده كافر .
وقد نقل عن بعض فاسدي الخلاق الذين يحترفون السحر أنه يسب الإله ويسجد لما يسميه قرينة ومنهم من يضع المصحف الشريف تحت قدمه ومنهم من يهين الملائكة بالسب ومنهم من يصف الإله بما لا يليق به وكل ذلك ردة صريحة وكفر شنيع بلا نزاع . وهو من أكبر الجرائم سواء ترتب عليه الأثر المطلوب أولا .
وقد فسر بعض الفقهاء السحر بأنه أمر خارق للعادة ينشأ عن سبب معتاد ثم إن هذا السبب إن كان هو العبارات الفاحشة التي أشرنا إليها كان ردة وإن كان بالعبارات الخالية من ذلك كالأسماء الإلهية أو استعمال معاني الأحرف التي لا تنافي الدين فإنه ينظر فيما يترتب عليه من الآثار . فإن ترتب عليه ضرر لمظلوم غافل أو إساءة إلى بريء في نفس أو مال فإنه يكون محرما ( 1 ) .
وحاصله أنه إذا كان أقوالا وأفعالا تنافي الدين وتوجب تكفير صاحبها كان كفرا بصرف النظر عما يترتب عليه من الآثار وإن كانت هذه الأقوال أو الأفعال محرمة كان حراما أما إن كانت جائزة فإنه ينظر لما يترتب عليها من الآثار . فإن كانت محرمة كان حراما وإلا فلا .
هذا هو حكم كثير من العلماء في حقيقة السحر . فقال بعضهم : أنه تخيل لا حقيقة له والى هذا الرأي ذهب كثير من العلماء ومنهم الاستراباذي من الشافعية وأبو بكر الرازي من الحنفية وأبن حزم وكثير من العلماء غير هؤلاء .
فهذه الفئة تجزم بأن السحر هو من باب الخيال كاللعاب السيمائية التي يقوم بها مهارة الهواة ومن على شاكلتهم ولكن جمهور العلماء يقولون : إن للسحر حقيقة وقد تترتب عليه آثار حقيقية وهؤلاء فريقان : فريق قال : إن الآثار المترتبة عليه محدودة فقد ينقلب بالسحر الحيوان إنسانا وبالعكس ولكن قائل هذا لم يعول عليه . والرأي المعتمد هو الأول . وقد ذكر بعض المحققين : أن السحر صناعة من الصناعات التي يستخدمها الإنسان في إظهار الأمور على غير ما هي عليه في الواقع وقد يكون لبعض أنواع السحر تأثيرها ما على بعض النفوس أو الأبدان .
هذا هو رأي المحققين من العلماء . على أن الباحث في هذه المسألة يجب عليه أن ينظر إلى الواقع ويجعل للنظر الصحيح قيمته في حكمه فهل هناك أدلة واقعية تثبت أن السحر قد ترتبت عليه آثار صحيحة وهل هناك أدلة من الكتاب أو السنة الصحيحة تدل على ذلك ( 2 ) .
والواقع أن الذين قد شهروا بإتقان السحر هم قدماء المصريين وهؤلاء قد تحدث عنهم القرآن الكريم فقد اخبرنا بأن فرعون قد جمع من قومه كل سحار عليم وجاء بهم مجتمعين فماذا كان من أمرهم ؟ إنهم لم يأتوا إلا بخيال لا حقيقة له كما قال تعالى : { يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى } فهذا صريح في أن سحرة فرعون وهم أمهر السحرة لم يأتوا إلا بخيال لا حقيقة له ولو كان للسحر اثر حقيقي لجاؤوا به في هذا الوقت العصيب وليس من المعقول أبدا أن يأتي فرعون بكل سحار عنيد في مقام الانتصار لعز شيء عندهم ثم يكون قصار أمرهم أن يأتوا بخيال لا حقيقة له وهم عالمون بغيره والواقع أن هذه الآية تدل دلالة واضحة على أن قصاري أمر السحر هو ذلك الخيال الذي جاء به سحرة فرعون .
فهذه هي حجة الذين يرون أن السحر خيال لا حقيقة له .
أما الفريق الثاني فإنه يحتج بقصة هاروت وماروت الواردة في القرآن الكريم قال تعال : { وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحرن وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت } .
ولكن الواقع أن هذه الآية الكريمة لا تصلح حجة لأنها لم تتعرض لحقيقة السحر فقد يكون نوعا من أنواع الفتنة أو الحيلة التي يسعى بها بعض النمامين للتفريق بين الزوجين ولهذا حدثت الآية عن الآثار المترتبة على أعمال هؤلاء فقد قال تعالى : { فيتعلمون منهما ما يقرفون به بين المرء وزوجه } فكل ما كان يترتب على فعلهم من الآثار هو الفرقة بين المرء وزوجه وهذه مسألة قد تقع بغير السحر الخارق للعادة ولنا من الواقع ما يؤيد هذا فإن كثيرا من النمامين قد أحدثوا فتنة تفق بين الزوجين فليس في الآية الكريمة حدة على أن السحر له أثر حقيقي ولم يبق للقائلين بأن السحر له أثر حقيقي إلا ألاستدلال بحديث البخاري الذي رواه عن السيدة عائشة من أن النبي A قد سحر وأنه كان يخيل إليه أن يفعل الشيء ولم يفعل ( 3 ) وهذا حديث صحيح لم يتعرض أحد للقدح في أحد من رواته وليس من الحسن أن يقال : إن مثل هذه الأحاديث . تجزئ في المسائل الفرعية لا في المسائل الاعتقادية . فإن العقائد لا تبنى إلا على الأدلة اليقينية والأحاديث مهما كانت صحيحة فهي أحاديث آحاد لا تفيد إلا الطن لأن الأحاديث الصحيحة يجب أن يكون لها قيمتها في الإثبات فهي معضدة للبراهين العقلية .
وإنما يجب أن نفهم الحديث على وجه يطابق أصول الدين ويوافق ما يقضي به الفعل السليم وإلا فلا يصح لنا أن نحتج به على عقيدة من العقائد .
فهذا الحديث الذي رواه البخاري فيه شيء يجب أن ننزه عنه رسول الله A وهو قول عائشة Bها : " أنه كان يخيل إليه يفعل الشيء ولم يفعل " لأنه إذا أخذ على ظاهره كان قدحا في رسول الله A وهو المصون المنزه في تفكيره وإدراكه عن كل شائبة من شوائب النقص ولهذا يجب أن نفهم هذه الجملة على وجه معقول واضح : .
إن هذه الجملة نطقت بها السيدة عائشة تريد بها أنه كان يخيل إليه أن يأتيها فلم يستطع وبالتالي أنه كان يجد في نفسه رقبة في جماعها فإذا هم بها عجز عن الفعل ونظرا لكون هذا متعلقا بها عبرت عنه بهذه العبارة حياء ويدل على ذلك ما رواه عبد الرزاق عن أبن المسيب وعروة بن الزبير Bهما من أن النبي A سحر في هذا المعنى فقط وأن السحر لم يحدث في قواه الباطنة أي أثر بل حبسه عن اتيان زوجه عائشة وهذا هو النوع مالمعروف بين الناس لعصمة النبي A عن التأثر في أي ناحية من نواحي الإدراك بأي ناحية من نواحي الإدراك بأي أثر ولو مؤقتا .
ولقد قال في فتح الباري : إن بعض العلماء قال : أن تأثير السحر منحصر في التفريق بين المرء وزوجه أو نحو ذلك فإذا فهمنا هذا الحديث على هذا الوجه لم يكن فيه ذلك الضرر الذي حول به بعضهم وأنكر من أجله الحديث فلا مانع حينئذ من أن يكون للسحر بعض التأثير الحقيقي في بعض الأحيان على أن هذا الحديث لا يدل دلالة قاطعة طبعا لأنه لا يفيد إلا الظن ولهذا قال المنكرون للسحر : إن مثل هذا الحديث الصحيح يصح الاحتجاج به في الأحكام الفقهية الفرعية أما في إثبات عقيدة فلا . لأن اعتقاد أن السحر له تأثير حقيقي لا يمكن إثباته إلا بالدليل العقلي الذي يؤيده الواقع ولم يوجد في الخارج إلا حوادث أحادية ينقلها أناس غير تقاة ولو كان له حقيقة لقصها علينا كتاب الله تعالى في مسألة سحر فرعون .
( 1 ) ( المالكية قالوا : إن مباشرة السحر كفر وارتداد عن الإسلام سواء كانت المباشرة من جهة تعلمه أو تعليمنه أو المل به لأن لسحر كلام يعظم به غير الله تعالى وتنسب إليه المقادير . ثم إن تجاهر به فيقتل أن لم يتب وإن اسره فحكم الزنجيق يقتل بدون ستتابة . وشرط بعضهم عدم الاستتابة مطلقا أسره أو أظهره وحكم الزنديق على حال أن جاء تائبا قبل الإطلاع عليه قبل وإلا فلا .
الشافعية والحنابلة - قالوا : إن السحر له حقيقة مؤثرة وقد يموت المسحور بسبب السحر أو يتغير طبعه وعادته وأن لم يباشره وإن الساحر يقوى على قهر الخصوم من غير ممارسة الحروب والقتال .
وقيل : إن الساحر قد يصير بحيث تخبره الأرواح بالحوادث التي ستقع قبل وقوعها ليمكنه الاحتراز عنها .
وقد اختلف العلماء في تعريفه فقال صاحب إرشاد المقاصد : هو علم يستفاد منه حصول ملكة نفسانية يقتدر بها على أفعال غريبة بأسباب خفية وعرفه أبن العربي بقوله : هو كلام مؤلف يعظم فيه غير الله D وتنسب إليه الكائنات والمقاردير وعرفه بعضهمك هو علم يغير الطبع ويقلب الشيء عن حقيقته . ولا نزاع في تحريم العمل به وتعلمهن وهو على قسمين حقيقي وغير حقيقي ويسمى السيماء وسحرة فرعون برعوا في النوعي قال تعالى : { واسترهبوهم وجاؤوا بسحر عظيم } ) .
( 2 ) ( قالوا : للسحر حقيقة وتأثير في إيلام الأجسام خلا من منع ذلك . وقال : إنما هو تخيل .
قالوا : وتعليم السحر حرام بلا خلاف عندهم واعتقاد إباحته كفر .
الحنفية والمالكية والحنابلة قالوا : يكفر السارح بتعلمه السحر وفعله سواء اعتقد تحريمه أولا ويجب على الحاكم قتله وقد روي عن عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وعبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهم .
كما روي عن جندب بن عبد الله وحبيبب بن كعب وقيس بن سعد وعمر بن عبد العزيز رضا الله عليهم فإنهم قتلوا الساحر بدون الاستتابة وفيه حديث مرفوع رواه الشيخ أو بكر الرازي في أحكام القرآن حدثنا أبن قانع حدثنا بشر بن موسى حدثنا أبن الأصفهاني حدثنا أبو معاوية عن إسماعيل بن مسلم عن الحسن عن جندب أن النبي A قال : " حد الساحر ضربه بالسيف " يعني القتل . وقصة جندب في قتله الساحر بالكوفة عن الوليد بن عتبة مشهورة .
الشافعية قالوا : لا يقتل الساحر ولا يكفر إلا اعتقد إباحته .
أما الكاهن فقيل : هو الساحر وقيل : هو العراف وهو الذي يحدث ويتخرص وقيل : هو الذي له من لجن من يأتيه بالأخبار .
الحنفية قالوا : إن الكاهن إن اعقد أن الشياطين يفعلون له ما يشاء كفر وإن اعتقد أنه تخيل لم يكفر .
الشافعية - قالوا : إن الكاهن إن اعتقد ما يوجب الكفر مثل التقرب إلى الكواكب وأنها تفعل ما يلتمسه منها كفر .
الحنابلة قالوا : إن الكاهن حكمه حكم الساحر فيقتل لقوله سيدنا عمر Bه : ( اقتلوا كل ساحر وكاهن ) وفي رواية إن تاب لم يقتل ويجب أن لا يعدل عن قول الشافعية في كفر الساحر والعراف وعدمه وأما قتله فيجب ولا يستتاب إذا عرفت مزاولته لعمل السحر لسعيه بالفساد في الأرض لا بمجرد عمله إذا لم يكن في اعتقاده ما يوجب كفره قالوا : ولا تقبل توبة الساحر والزنديق وهو من لا دين له .
وقد ورد الشع بذم السحر قال تعالى : { ولا يفلح الساحر حيث أتى } أي حيث كان وأين أقبل . وقال تعلاى : { ولا يفلح الساحرون } أي لا يظفرون بمطلوب ولا ينجون من مكروه .
قال الإمام النووي C تعالى : عمل السحر حرام وهو من الكبائر بالإجماع وقد عده الرسول صلوات الله وسلامه عليه من الموبقات السبع ومن السحر ما يكون كفرا ومنه ما لا يكون كفرا بل معصية كبيرة فإن كان فيه قول أو فعل يقتضي الكفر فهو كفر وإلا فلا .
المالكية رحمهم الله قالوا : الساحر كافر يقتل بالسحر ولا يستتاب بل يتحتم قتله كالزنديق : قال عياض : وقول مالك قال أحمد وجماعة من الصحابة والتابعين وذلك فيمن عمل به للباطل والشر .
أما من تعلمه لفك المسحور ومنع الأذى عنه أو تعلمه للعلم فقط ولم يعمل به فهو جائز .
وقد سئل الإمام أحمد عمن يطلق السحر عن المسحور فقال : لا بأس به وهذا هو المعتمد فحكم السحر تابع للقصد فمن فصد به الخير جاز له وإلا حرم عليه إلا أن أدى إلى الشرك وإلا كان كافرا .
ولا يقتل الساحر إلا أن يقتل أحدا بسحره ويثبت عليه بإقراره وأما إذا كان ذميا وأوصل بسحره ضررا لميلم يكون قد نقض العهد ويحل قتله وإنما لم يقتل النبي A لبيد بن الأعصم على سحره وقد كان ذميا لأنه A كان لا ينتقم لنفسه ولأنه خشي إذا قتل لبيد بن الأعصم أن تقوم فتنة بين المسلمين في المدينة . لأنه كان من بين زريق وهم بطن من الأنصار مشهور من الخزرج وكان الناس حديثي بالإسلام .
وقد تبين من هذا أن السحر حق وواقع وقد وقع لكثير من الناس ولا يزال يقع ولو أنه قد قل في هذا الزمان وقد وقع لسيدنا موسى عليه السلام كما ذكر الله تعالى ذلك في كتابه العزيز فقال تعالى : { فإذا حبالهم وعصيهم يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى فأوجس في نفسه خيفة موسى قلنا لاتخف إنك أنت الأعلى } غير أن هذا السحر الذي وقع له لم يكن له أي تأثير في العقل ولا في الوحي ولا فيما يبلغه للناس من الأحكام بل هو كسائر الأعراض البشرية الجائزة في حق الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فلا ينافي العصمة ) .
( يتبع . . . )