مبحث فيما يثبت موجب القصاص .
الحنفية والشافعية والحنابلة رحمهم الله تعالى - قالوا : يثبت موجب القصاص من قتل أو جرح عمد بإقرار أو شهادة رجلين قال تعالى : { واستشهدوا شهيدين من رجالكم } [ آية 282 ] من البقرة . وقال تعالى : { وأشهدوا ذوي عدل منكم } آية [ 2 من سورة الطلاق ] وقال عليه اصلاة والسلام ( شاهداك أو يمينه ) ولا تقبل شهادة النساء في الحدود والقصاص قال الزهري : مضت السنة من لدن رسول الله A والخليفتين بعده أن لا تقبل شهداة النساء في الحدود والقصاص ) .
وألحقوا به علو القاضي ونكول المدعى عليه وحلف المجعي فإنه يثبت بهما أيضا ويثبت موجب المال من قتل أو جرح خطأ أو شبه عمد بغلإرار وشهادة عدلين وعلم القاضي أو برجل وامرأتين أو برجل ويمين لا بامرأتين ويمين لقوله تعالى : { فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء } آية [ 282 من البقرة ] .
وإنما يثبت المال برجل وامرأتين إذا اجعى به عينا فلوا ادعى القصاص فشهد له رجل وامرأتان لم يثبت القصا ولا تثبت الديةن لانها خاصة بالرجالن ولو عفا مستحق القصاص في جناية توجيه عن القصاص ليقبل المال وشهد له رجل وامرأتان أو رجل ويمين لم يحكم له بذلك لأن المال إنما يثبت بعد ثبوت القصاص ولم يثبت القصاص ليعتبر العفو .
وقيل : يقبل لأن القصد المال ومحل الخلاف إن أنشأ الرجل الدعوى والشهادة بعد العفو .
أما لو ادعى العمد وأقام رجلا وامرأتين ثم عفا عن القصاص على مال وقصد الحكم له بتلك الشهادة لم يحكم له بها قطعاص لانها غير مقبول حين أقيمت فلم يجز العمل بها كما لو شهد صبي أو عبد بشيء ثم بلغ الصبي أو عتق العبد .
قالوا : لو شهد رجل وامرأتان بهاشمة قبلها إيضاحها لم يجب أرشها لأن الهشم المشتمل على الايضاح جناية واحدة وإذا اشتملت ما يوجب القصاص احتيط لها فلا يثبت ألا بحجة كاملة وهي رجلان .
ويجب على الشاهد أن يصرح بالمدعى به ( بفتح العين ) فلو قال الشاهد : ضرب المجنى عليه بسيف فجرحه فمات لم يثبت هذا القتل المدعى به لاحتمال أن يكون ما بسبب لآخر حتى يقول الشاهد : فمات من جرحه أو يقول : فقتله أو أنهر دمه أو نحو ذلك كضربه فمات مكانه لينتفي الاحتمال المذكور ولو قال الشاهد : ضرب الجاني رأس المجنى عليه فأدماه أو ضرب رأسه مثلا فأسال الضرب دمه ثبتت بذلك دامية عملا بقوله الذي قطعه بخلاف ما لو قال : فسال دمه لم تثبت لاحتمال حصول السيلان بسبب آخر .
قالوا : ويشترط في الشهادة بالموضحة . أن يقول الشاهد : ضربه فأوضح عظم راسه لأنه لا شيء يحتمل بعده وقيل : يكفي فأوضح راسه من غير تصريح بإيضاح العظم ويجب على الشاهد بيان محل الموضحة وقدرها بالمساحة أو بالإشارة اليها لميكن فيها القصاص وذلك إذا كان على رأسه مواضح فإن لم يكن برأسه إلا موضحة واحدة وشهد الشاهد بأنه اوضح رأسه لم يثبت القصاص لجواز أنه كان على رأسه موضحة صغيرة فوسعها غير الجاني .
قالوا : وثبت القتل بالسحر بالإقرار من الساحر فإن قال قتلته بسحري وهو يقتل غالبا يكون عمدا وعليه القصاص وإن قال يقتل نادرا فشبه عمد وإن قال : أخطأت من اسم غيره إلى اسمه فيكون خطأ ويجب في هاتين الصورتين دية في مال الساحر لا على العاقلة لأن إقراره لا يلزمهم إلا أن تصدقه العاقلة فتكون الدية عليهم .
المالكية رحمهم الله قالوا : يثبت الحق في القصاص والجرح بالإرار أو بشهادة رجلين عدلين لأن كل ما ليس بمال ولا آيل إلى المال لا يكفي فيه إلا عدلان كالعتق والعفة عن القصاص وكشرب خمر وقذف وقتل وجرح وغير ذلك .
واشترطوا في صحة الشهدة عند الحاكم العدالة - والعدل هو الحر المسلم البالغ العاقل بلا فسق ولا حجر ولا بدعة ولا تأول وأن يكون صاحب مروءة بترك شيء غير لائق من لعب بحمام وشطرنج وترك سماع غناء وترك سفاهة من القول وترك صغيرة وإن كان أعمى في القول أو أصم في العقل وشرط قبول شهادته أن يكون فطنا جازما في شهادته بما أدى غير متهم فيها .
فانرحع الشاهدان قبل الحكم بعد الأداء تبطل الشهادة ولا يعمل بها ويؤدبان أما إذا رجعا بعد الحكم والاستيفاء في القتل فلا تبطل بل يغرم الشاهدان دفع الدية للمشهود عليه ويضمنان الدية والعقل في القصاص في أموالها .
وقال أشهب : يقتص من الشاهدين إذا رجعا بعد الحكم والاستيفاء في القتل العمد لأنهما تسببا في قتل النفس بلا شبهة فيقتلان .
ويحكم بنقض الحكم بنقض الحكم إن ثبت كذبهم بعد الحكم وقبل الاستيفاء في القتل والقطع والحد وإن علم الحاكم كذبهما في شهادتهما وحكم بما شهدا به من قتل أو قصاص اودية سواء باشر الدم أو لا فإنه يقتص من الحاكم في هذه الحالة ويجب على الحاكم دفع الدية من ماله خاصة دون العاقلة .
فإن لم علم كذبهما فلا ضمان عليه وإن علم بقادح منهما .
قالوا : وسبب القسامة التي توجب القصاص في العمد والدية في الخطأ قتل الحر المسلم سواء كان بالغا أو صبيا قتل بجرح أو ضرب أو سم بلوث - بفتح اللام وسكون الواو - الأمر الذي ينشأ عنه غلبة الظن بأنه قتله وذلك كوجود شاهدين عدلين على قول حر مسلم بالغ : قتلني أو جرحني أو ضربني فلان وذكر اسم القاتل حرا أو عبدا بالغا أو صبيا ذكرا أو أنثى أو قال : دمي عنده سواء كان قول المسلم قتلني عمدا أو خطأ ففي العمد يستحقون بالقسامة القصاص وفي الخطأ الدية ولو كان القائل : قتلني فلان فاسقا على اعدل أهل زمانه واورعهم فيقسمون ويقتل فيه .
أو ادعى الولد على أبيه أنه ذبحه أو شق جوفه أو رماه بحديد قاصدا قتله فيقسمون ويأخذون الدية مغلظة .
وإن أطلق المقتول ولم يبين بعمد ولا خطأ بين أولياؤه أنه عمد أو خطأ وأقسموا على ما بينوا وتبطل القسامة إن قالوا : لانعلم هنل القتل عمد أو خطأ أو لانعلم من قتله أو اختلفوا بأن قال بعض الأولياء قتله عمدا وقال بعضهم : لا نعلم هل قتله عمدا أو خطأ فيبطل الدم لانهم لم يتفقوا على أن وليهم قتل عمدا حتى يستحقوا القود ولا على من قتله فيقسمون عليه .
أو شهد عدلان على معاينة الضرب أو معاينة الجرح خطأ أو عمدا وتأخر موت المضروب أما إذا لم يتأخر فانهم يستحقون الدم أو الدية بدون قسامة لكونها شهادة على معاينة القتل فيقسم أولياؤه لمن ضربه أو جرحه من الضرب مات أو إنما مات منه أو بشهادة عدل بمعاينة الضرب أو الجرح عمدا أو خطأ تأخر الموت أو لم يتأخر يقسم الأولياء خمسين يمينا : لقد جرحه أو ضربه ومات من الجرح أو الضرب أو شهد عدل بإقرار المقتول الحر المسلم البالغ العاقل أن فلانا جرحنين أو ضربني عمدا أو خطأ فشهادته لوث يحلف الأولياء خمسين يمينا لقد قتله أو شهد عدل برؤية المقتول يتحرك في دمه والشخص المتهم بالقتل قريب منه وعليه اثر القتل ككون الآلة بيده ملطخة بدم أخارجا من مكان المقتول وليس فيه غيره فتكون شهادة العدل على ماذكر لوثا يحلف الأولياء ويستحقون القود أو الدية ا ه .
الشافعية - قالوا : لو أقر بعض الورثة لو كان فاسقا بعفو بعض منهم عن القصاص سواء عينه املا سقط القصاص لأنه لا يتبعض ولو أعترف بسقوط حقه منه فيسقط حق الباقين بخلاف الدية فإنها لا تسقط وإن لم يعين العافي فللورثة كلهم الدية وإن عينه فأنكر فكذلك ويصدق بيمينه إنه لم يعف وإن أقر بالعفو مجانا أو مطلقا سثط حق من الدية وللباقين حصتهم منها .
ويشترط لا ثبات العفو من بعض الورثة عن القصاص - لا عن حصته من الدية - شاهدان عدلان لأن القصاص ليس بمال وما لا يثبت بحدة ناقصة لا يحكم بسقوطه اما إثبات العفو عن حصته من الدية فيثبت بالحجة الناقصة أيضا من رجل وأمرأتين أو رجل ويمين لأن المال يثبت بذلك فكذا أسقاطه وخرج بقوله أقر ما لو شهد فإنه إن كان فاسقا أو لم يعين العافي فكالإقرار وإن كان عدلا وعين العافي وشهد بأنه عفا عن القصاص والدية جميعا بعد دعوى الجاني قبلت شهادته في الدية ويحلف الجاني مع الشاهد الن العافي عفا عن الدية لا عنها وعن القصاص لأن القصاص سقط بالإقرار فيسقط من الدية حصة العافي وإن شهد بالعفو عن الدية فقط لم يسقط قصاص الشاهد .
ولو اختلف شاهدان في زمان القتل : كأن قال أحدهما قتله في الليل وقال الآخر : قتله بالنهار فاو اختلفا في مكان القتل : كأن قال أحدهما : قتله في المسجد وقال الآخر : قتله في الدار أو اختلفا .
في آلة القتل : كأن قال أحدهما : قتل بالسيف وقال الآخر : قتله بالرمح أو اختلفا في هيئة القتل : كأن قال أحدهما : قطع رقبته وقال الآخر : شقه نصفين سقطت شهاتهما في هذه الصورن ولا لوث بها لأن كل واحج ناقض صاحبه .
وقيل : هذه الشهادة - لوث - فيقسم الولي وتثبت الدية لا تفاقهما على أصل القتل والاختلاف في الصفة بما يكون غلطا أو نسيانا .
فإن قيل : لم لم يحلف على الأول مع من وافقه منهما أو يأخذ البدل كنظيره من السرقة .
أجيب : بأن باب القسامة أمره أعظم ولهذا غلظ فيه بتكرير الأيمان .
هذا إذا شهد على الفعل فلو شهد على الإقرار لم يضر اختلافهما في الزمان ولا في المكان لأنه لا أختلاف في القتل وصفته : بل الاختلاف في الإقرار .
نعم : إن عينا يوما في مكانين متاعدين بحيث لا يصل المسافر من أحدهما إلى الآخر في الزمان الذي عيناه كأن شهد أحدهما بأنه أقر بالقتل بمكة يوم كذا والآخر أقر بأنه قتله بمصر في تاريخ ذلك اليوم فتلغو الشهادة ولا تقبل .
الحنفية رحمهم الله تعالى - قالوا : من قتل وله ابنان حاضر وغائب فأقام الحاضر البينة على القتل ثم قدم الغائب فإنه يجب عليه أن يعيد البينة عند الإمام أبي حنيفة C تعالى لأن استيفاء القصاص حق الوارث عنهده ولأن القصاص طريق الخلافة دون الوراثة ألا ترى أن ملك القصاص يثبت بعد الموت والميت ليس من أهله بخلاف الدين والدية لأن الميت من أهل الملك في الأموال كما إذا نصب شبكة في حياته فتعلق بها صيد بعد ممانه فإنه يملكه وإذا كان طريقه الإثبات ابتداء لا ينتصب أحدهما خصما عن الباقين فيعيد البينة بعد حضوره احتيالا للدرء .
وقال الصاحبان : إذا حضر الغائب فلا يعيد إقامة البينة لأن استيفاء القصاص حق المورث فإن القصاص طريقه طريق الوارثة كالدين وهذا لأنه عوض عن نفسه فيكون الملك فيه لمن له الملك في المعوض كما في الدية ولهذا لو انقلب مالا يكون للميت ويسقط بعفوه بعد الجرح قبل الموت فينتصب احد الورثة خصما عن الباقين فلا يعيد البينة بعد حضوره . أما إذا كان القتل خطأ وحضر الغائب فلا يجب عليه إعادة البينة بالاجماع فإن أقام القاتل البينة أن القائب قد عفا عن القصاص فالشاهد من اولياء الدم خصم له ويسقط القصاص لأنه ادعى على الحاضر سقوط حقه في القصاص إلى مال ولا يمكنه إثباته إلا بإثبات العفو من الغئب فينتصب الحاضر خصما عن الغائب وكذلك عبد بين رجلين قتل عمدا واحد الرجلين غائب فهو على هذا فإن كان الأولياء ثلاثة فشهد اثنان منهم على الآخر اه قد فقا فشهادتهما باطلة وهو عفو منهما لانهما يجران بشهادتهما إلى أنفسهما مغنما وهو انقلاب القود مالا فإن صدقهما القاتل فالدية بينهم أثلاثا لأنه لما صدقهما وحده فقد أقر بثلثي الدية لهما فصح إقراره إلا أنه يدعي سقوط حق المشهود عليه وهو ينكر فلا يصدق ويغرم نصيبه وأما إن كذبهما القاتل فلا شيء لهما وللغائب ثلث الدية لانهما اقرا على أنفسها بسقوط القصاص فقبل وادعيا انقلاب يصيبهما مالا فلا يقبل إلا بحجة وينقلب نصيب المشهود عليه مالا لأن دعواهما العفو عليه وهو ينكر بمنزلة ابتداء العفو منهما في حق المشهود عليه لأن سقوط القود مضاف إليهما وإن صدقهما المشهود عليه وحده غرم القاتل ثلث الدية للغائب المشهود عليه لإقراره له ذلك .
قالوا : وإذا شهد الشهود أنه ضربه فلم يزل صاحب فراش حتى مات فيجب عليه القوج إذا كان القتل عمدا لأن الثابت بالشهادة كالثاب معاينة وفي ذلك القصاص - إذا شهدوا أنه ضربه بشيء جارح قصدا - والشهادة على قتل العمد تتحقق على هذا الوجه لأن الموت بسبب الضرب إنما يعرف إذا صار باضرب صاحب فراش حتى مات .
وإذا اختلف شاههدا القتل في الأيام بأن قال أحجهما : إنه قتله يوم السبت وقال الآخر بأن القتل كان يوم الخميس .
أو اختلفا في البلد بأن قال أحدهما : إن القتل كان في مكة وقال الآخر بأنه ومع في الكوفة أو اختلفا في الآلة التي كان بها القتل بأن قال أحدهماك ضربه بسيف وقال الآخر : ضربه بعصا . فالشهادة باطلة ولا يعمل بها لأن القتل لا يعاد ولا يكرر - والقتل في زمان أو في مكان غير القتل في زمان أو مكان آخر - والقتل بالعصا غير القتل في زمان أو في مكان غير القتل في زمان أو مكان آخر - والقتل بالعصا غير القتل بالسلاح لأن الثاني عمد بالاتفاق والاول شبه عمد وتختلف أحكامهما فكان على كل قتل شهادة فرد وكذا إذا قال أحدهما : فإن المطلق يوجب الدية في ماله والمقيد بالعصا يوجب الدية على العاقلة .
قالوا : وإن شهدا أنه قتله وقالا : لا ندري باي شيء قتله ففيه الدية استحسانا والقياس أن لا تقبل هذه الشهادة لأن القتل يختلف باختلاف الآلة فجهل المشهود يسقط الشهادة لأن قولهم : لا ندري بأي شيء قتله إما صادقون أو كاذبون لعدم الواسطة بين الصدق والكذب وعلى كلا التقديرين يجب أن لا تقبل شهادتهما لأنهما إن صجقا امته القضاء بها لاختلاف موجب السيف والعصا وإن كذبا فكذلك لانهما صرا فسقة .
ووجه الاستحسان انهم شهدوا بقتل مطلق والمطلق ليس بمحمل فيجب اقل موجبه وهو الدية ولأنهم جعلوا عالمين بأنه قتله بالسيف لكنهم بقولهم : لا ندري اختاروا حسبة الستر على القتل وأحسنوا إليه بالإحياء وجعل كذبهم هذا معفوا عند الله لما جاء في الحديث الشريف ( ليس كذابا من يصلح بين اثنين ) فبتأويلهم كذبهم بهذا لم يكونوا فسقة فتقبل شهادتهم فلا يثبت الاختلاف بالشك وتجب الدية في مال لأن الأصل في الفعل العمد فلا يلزم العاقلة .
وإذا اقر رجلان كل واحد منهما بأنه قتل فلانا فقال الولي : قتلتماه جيمعا فله أن يقتلهما وإن شهدوا على رجل أنه قتل فلانا وشهدوا آخرون على آخر بقتله وقال الولي : قتلتماه جيمعا بطل ذلك كله والفرق أن الإقرار والشهادة يتناول كل واحد منهما وجوب كل القتل ووجوب القصاص قد حصل التكذيب فيهما غير أن تكذيب المقر له في بعض ما أقر به لا يبطل شهادته أصلا لأن التكذيب تفسيق وفسق الشاهد يمنع القبل اه