مبحث قتل المكره .
الشافعية قالوا : لو أكره إنسان شخصا آخر على قتل شخص بغير حق فقتله فيجب القصاص على المكره بالكسر لأنه أهلكه بما يقصد به الإهلاك غالبا فأشبه بما لو رماه بسهم فقتله وكذا يجب القصاص على المكره بفتح الراء في الأظهر لأنه قتله عمدا عدوانا وظلما لا ستبقاء نفسه فأشبه ما لو قتله المضطر ليأكله بل أولى لأن المضطر علىم يقين من التلف إن لم يأكل بخلاف المكره بالفتح .
وقيل : القصاص على المكره بالكسر أما المكره بالفتح فلا قصاص عليه لقول الرسول A ( رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه ) ولأنه كالآلة في يد المكره فصار كما لو ضربه به أو مثل الذي يسقط من علو أو الذي تحمله الريح من موضع إلى موضع فقتل غيره .
وقيل : لا قصاص على المكره بالكسر بل القصاص واجب على المكره بالفتح لأنه مباشر للقتل والمباشرة مققدمة على غيرها ولأنه يشبه من جهة المختار في فعله ومن جهة المضطر المغلوب وغلإكراه لا يتم إلا بالتخويف بالقتل أو بإتلاف ما يخاف عليه التلف من الأعضاء كالقطع والضرب الشديد وقيل : يحصل الإكراه بما يحصل به الإكراه على الطلاق من أنواع التهديدات .
ولو قال له : اقتل هذا وإلا قتلت ولدك . وكان في مقدوره أن يقتل ولده فليس بإكراه وقال الروياني : الصحيح عندي أنه إكراه لأن ولده كنفسه في الغالب فما أصابه من الضرر كأنما أصاب نفسه بل بعض النفوس عندها الولد أغلى من النفس وهذا هو الظاهر .
وقال الشافعية : لا يجوز للمكره بالفتح الإقدام على القتل المحرم لذاته وإن لم يوجب عليه القصاص بل عليه الإثم يوم القيامة إذا قتل نفسا محرمة كما لا يباح له الزنا بالإكراه ولكن يباح له شرب الخمر والقذف والإفطار في رمضان على القول بإبطال الصوم ويباح له الخروج من صلاة الفرض وإتلاف مال الغير وضمن المال هو والمكره .
وإذا أكره إنسان على الإتيان بما هو كفر قولا أو فعلا كالسجود لصنم مع طمأنينة القلب بالإيمان وكراهية الكفر فقيل : الفضل له الثبات على الإيمان ولا يلفظ الكفر والعياذ بالله .
وقيل : يجوز أن يلفظ به صيانة لنفسه أن تزهق وقيل : إن كان من العلماء المقتدى بهم فالأفضل الثبات على الإيمان مهما كان التخويف والوعيد فإن قتل مات شهيدا كما قال رسول الله A : ( من قتل دون دينه قهو شهيد ) وحتى يكون قدوة لغيره من الناس كما ثبت أصحاب الأخدود فإن كان المكره بالفتح لم يظن أن الإكراه يبيح له الإقدام على القتل وجب عليه القصاص أما إذا كان يعقد ذلك فلا قود عليه . وكذلك لا قصاص عليه إذا كان ممن يخفى عليه تحريم الإقدام نعلى القتل بالإكراه لأن القصاص يسقط بالشبهة فإن وجبت الدية في حالة العفو عن القصاص وزعت عليهما بالسوية كالشريكين ويجوز للولي أن يقتص من أحدهما ويأخذ نصف الدية من الآخر هذا إذا كافأه فإن ساوى المقتول أحدهما فقط كأن كان المقتول ذميا أو عبدا واحدهما كذلك والآخر مسلم أو حر فالقصاص على المكافىء دون الآخر بل يجبعليه نصف الدية أو نصف القيمة لأولياء الدم لأنهما مشتركان في الفعل وشريك غير المطافىء يقتص منه كشريك الأب ولو أكره بالغ عاقل مراهقا أو عكسه على قتل شخص فقتله فعلى البالغ القصاص لوجود مقتضيه وهو القتل المحض والعدوان على الغير هذا إن قلنا : عمد الصبي عمد وهو الأظهر في المذهب فإن قلنا خطأ فلا قصاص لأنه شريك المخطىء ولا قصاص على الصبي بحال لعدم تكليفه حتى ولو كبر .
ولو أكره بالفتح مكلفا على رمي شبح علم المكره بالكسر أنه رجل وظنه المكره بالفتح صيدا أو حجرا فرماه فقتله فالأصح وجوب القصاص على المكره بالكسر ت لأنه قتله قاصدا للقتل بما يقتل غالبا .
ولو أكرهه على رمي صيد فأصاب رجلا أو غيره فمات فلا قصاص على اج منهما ويجب على عاقلة كل منهما نصف الدية ولو أكرهه على صعود شجرة أو على نزول بئر فزلق فمات فشبه عمدن لأنه لا يقصد به القتل غالبا وتجب الدية كاملة على عاقلة المكره بالكسر وقال الغزالي هو عمد وقيل : وهو خطأ محض ولو أكره على قتل نفسه بأن قال له : اقتل نفسك أو اشرب هذا السم وإلا قتلتك فقتلها فلا قصاص عليه في الأظهر لأن هذا ليس بإكراه حقيقة لاتحاد المأمور به والمخوف به فصار كأنه مختار له .
وقيل : يجب القصاص كما إذا أكرهه على قتل غيره . ويستثنى ما إذا كان المكره بالفتح غير مميز لصغر أو جنون فإنه في هذه الحال يجب القصاص على المكره جزما ولو قال رجل لآخر : اقتلني وإلا قتلتك فقتله ذلك الشخص فالمذهب لا قصاص عليه لأن الإذن شبهة دارئة للحد .
وقيل : يجب عليه القصاص لأن القتل لا يباح بالإذن فأشبه ما لو أذن له في الزنا بأمته والأظهر عدم القصاص ولو أمر السلطان شخصا بقتل آخر ظلما بغير حق والمأمور لا يعلم ظن السلطان ولا خطأه وجب القود أو الدية والكفارة على السلطان فقط ولا شيء على المأمور لأنه آلته ولابد منه في السياسة ولأن الظاهر أن الإمام لا يأمر إلا بحق ولأن طاعته واجبة فيما لا يعلم أنه معصية وإن علم بظنه أو خطئه وجب القود على المأمور إن لم يخف قهره بالبطش بما يحصل به الإكراه لأنه لا يجوز طاعته حينئذككما جاء في الحديث الشريف ( طاعة لمخلوق في معصية الخالق ) فصار كما لو قتله بغير إذنه فلا شيء على السلطان إلا الإثم فيما إذا كان ظالما نعم : إن اعتقد وجوب طاعته في المصيبة فالضمان على الإمام لا عليه .
فإن خاف قهره وبطشه فالضمان بالقصاص وغيره عليهما وصار كالمكره ولو أمر شخص عبده أو عبد غيره المميز بقتل أو إتلاف ظلما فقتل أثم الآمر واقتص من العبد البالغ وتعلق الضمان برقبته ولو كان للصبي أو المجنون تمييز وهو لا يعقتد وجوب طاعنه في كل أمره فالضمان عليهما دون الأمر وما أتلفه غير المميز بلا أمر خطأ يتعلق بذمته إن كان حرا وبرقبته .
المالكية والحنابلة قالوا : إذا أكره رجل آخر فقتله فيجب القصاص على المكره بالكسر لتسببه ويجب القصاص على المكره بالفتح لمباشرته الفعل بنفسه لأن المأمور لم يعذر بالإكراه ولا يعذر الآمر لعدو المباشرة فيجب القصاص عليهما معا واحتجوا في قتل المكره على القتل بالقتل بإجماع الأئمة على أنه من أشرف على الهلاك من مخمصة لا يجوز له أن يقتل إنسانا ليأكله وينقذ نفسه من الهلاك بل يجب عليه الصبر حتى يموت ولو فعل كان آثما .
فإنه يجب قتل المسبب مع المباشر فيقتل السيد الذي يأمر عبده بقتل حر ففعل ويقتل معه العبد إن كان كبيرا وكذلك يقتل الأب إذا آمر ولده الصغير بقتل إنسان ففعل فإن كان الولد كبيرا قتل معه ويقتل المعلم الذي يعلم الصنعة أو العلم أو القرآن إذا أمر تلميذه صغيرا غير مميز فيجب على عائلته نصف الدية مع القصاص من الأب أو المعلم هذا إن لم يكره .
ويقتل شريك الصبي دون الصبي لأنه غير مكلف إن تمالا معا على قتل شخص وعلى عائلة الصبي نصف الدية لأن عمده كخطئه فإن لم يتفقا على قتله وتعمداه فعليه الدية في ماله وعلى عائلة الصغير نصفها وإن قتلاه أو الكبير خطأ فعلى عاقلة كل نصف الدية هذا ما لم يدع أولياء المقتول أنه مات من فعل المكلف فانهم يقسمون عليه ويقتلونه ويسقط نصف الدية عن عائلة الصبي لأن القسامة إنما بها ويستحق بها واحد .
وإنما يكون المأمور مكرها بالفتح إذا كان لا يمكنه المخالفة كخوف قتل من الآمر أو قطع عضو أو قتل ولد فإن لم يخفف اقتص منه وحده دون الآمر .
ومن قدم طعاما مسموما وهو عالم بأنه مسموم لعصوم فتناوله غير عالم به فمات يجب عليه القصاص لأنه تسبب في قتله فإن تناوله المعصوم وهو عالم بسمه فهو القاتل لنفسه ولا شيء على المقدم له وإن كان متسببا وإن لم يعلم المقدم بكسر الدال ولا الآكل فهو من قتل الخطأ فيجب في الدية على العاقلة بعد أن يقسم أولياء المقتول عليه . اه .
الحنفية قالوا : من أكره إنسانا على قتل آخر وخوفه بالقتل أو تلف بعض الأعضاء فخاف منه وفعل القتل فإنه يجب القصاص على الآمر دون المأمور خصوصا إذا كان للآمر سلطان على المأمور فإن المكره بالفتح يشبه من لا اختيار له كالذي يسقط من ارتفاع فقد اعتبروا تأثير الإكراه في إسقاط كثير من الواجبات في الشرع لكون المكره كالآلة في د المكره بالكسر ولحديث الرسول صلوات الله وسلامه عليه : ( رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه ) .
ولكن يعاقب المكره بالفتح بأن يضرب مائة جلدة ويحبس سنة كاملة أو حسب رأي الحاكم .
وإذا أمر العبد المحجور عليه صبيا حرا بقتل رجل فقتله فعلى عاقلة الصبي الدية لأنه هو القاتل حقيقة وعمده وخطؤه سواء ولا شيء على الآمر .
للضرب للتأديب .
المالكية قالوا : من ضرب آخر لقصد التأديب الجائز شرعا كالسلطان مثلا إذا ضرب إنسانا لارتكاب جريمة لا توجب الحد أو أراد أن يعزره مثلا أو يجله في حد من الحدود فمات بذلك السبب . أو قطع يد سارق فسرع القطع إلى جسده فمات . فإن دمه يكون هدرا ولا ضمان على الحاكم ولا في بيت آلما لأنه فعل شيئا آمره به الشرع ونفذ حكما طالبه به الإسلام ولم يقصد بفعله القتل ولا الانتقام وكذلك الأب أو آلم إذا ضرب أحدهما ولده بقصد التأديب فمات لا شيء عليهما والمعلم صنعة أو علما أو قرآنا إذا ضرب الذي يتعلم منه بقصد الحمل على التعليم والاستفادة منه فمات بسبب هذا الضرب الذي يتعلم منه بقصد الحمل على ضرب الزوجة بقصد التربية والنهي عن المنكر والحث على الاستقامة فماتت بسبب ضربه لا شيء عليه لأن الشرع وضع الزوجة أمانة في عنقه يربيها ويهذبها ويكسوها ويطعماه أباح له الضرب إذا خرجت عن طاعته أو خاف نشوزها قال تعالى : { واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن } الآية .
الشافعية والحنابلة قالوا : إن الشرع قد أباح للأبوين أن يضربا أولادهما للتأديب و لأمرهما بالمعروف و نهيهما عن المنكر و كذلك أباح للزوج أن يضرب زوجته لحفظ عرضها . وللمعلم أن يضرب من يتعلم منه . وللقاضي أن يضرب من ينحرف من المسلمين أو يخرج عن طاعته فلو مات شخص بسبب ضرب واحد من المذكورين وكان ضربه ضربا لا يهلك عادة فإنه لا ضمان عليه لأنه لم يقصد القتل ولم يفعل إلا بقصد المصلحة للمضروب وأدى ما أمره به الشارع الحكيم .
قالوا : ولو ضرب واحد من هؤلاء مريضا ضربا لا يقتل الصحيح وهو جاهل بالمرض لا يجب عليه القصاص لأن ما أتى به ليس بمهلك عنده .
وقيل : يجب عليه القصاص لأن جهله لا يبيح له الضرب القاتل أما إذا ضربه و كان عالما بمرضه فإنه يجب عليه القصاص جزما من غير خلاف منهم لأنه تبين أنه يقصد إهلاكه بالضرب .
الحنفية قالوا : أن الواجبات لا تتقيد بوصف السلامة فإذا ضرب الأب ابنه أو ضرب المعلم الصبي بإذن الأب فمات الصبي فلا قصاص عليه بل يجب على الأب أو المعلم الدية في مالهن في حالة القتل ولا يرث الأب منها لأنه محروم من ميراثه