مبحث حكمة التشريع .
إن الله D لما بين في أول سورة { النور } ما في جريمة الزنا من عظيم الفحشن وكبير الشناعة مما لم يجتمع في جريمة أخرى من كبير الإجرام وتشتنيع الفعل وأمر هذا شأنه يلحق العرض من الرمي به ما ينكس الرأس ويهدم الشرف وكان من مقاصد الشرع الكريم حفظ الأعراض وصون الشرف لصاحبه والاحتفاظ بالكرامة وعزة النفس كان من متقضى حكمته جل شأنه هذا التشريع الزاجر للنفوس الجامحة التي قد يدفها الغضب والحقد إلى أن تصيب الناس في كرامتهم وتخدش شرفهم وهو أعز عزيز لديهم مستهينة بما اقترفت كما قال تعالى : { إذ تلقونه بألسنتكم وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم وتحسبونه هينا وهو عند الله عظيم } آية النور : 15 .
ففرض الله لنا فيما فرض من أحكام ( حد القذف ) الزاجر الرادع الكفيل بصيانة الأعراض وحفظ الكرامة والشرف حتى تنزجر النفوس عن الإقدام على هذا الجرم الفظيع وليتأدب عامة المؤمنين بطلب ظن الخير بالآخرين وعدم المسارعة إلى سوء الظن بالناس والدعوة إلى تطهير اللسان وصون الآداب والتحرز عن الخوض في كبريات التهم بلا علم وتقرير بينات التهمة بحسب فظاعتها حتى لا يتخذ الناس الكيد بالاتهام الكاذب ذريعة للخدش والنكاية بلا حق . وإنك لا تجد من أنواع الجرم ما يقدم عليه صاحبه غافلا عن عظيم خطره إلا جرم اللسان وكأنه سهولة حركته بطبعه . ولذة التحدث بالأمور المستغربة وحسبان أن الطلام لا ينقص من المتكلم فيه شيئا محسوسا يذكر مع اعتياد الناس التساهل في القول والسماع كل ذلك جعل الناس يستهينون به ويحسبونه هينا وهو ذنب عند الله عظيم لذلك اهتم الشارع بحد القذف أعظم اهتمام فأنزل في حد السرقة آية واحدة وفي حد الزنا آيتين وفي حد قطاع الطريق آية أما حد القذف فقد أنزل فيه آيتين ثم أتبعه بنوع آخر منه وهو ( اللعان ) فأنزل فيه خمس آيات ثم أردفه بذكر حديث الافك فأنزل فيه تسع آيات ثم أتبع ذلك كله فأنزل أربع آيات في النهي عن قذف المحصنات الغافلات المؤمنات إلى أن قال : ( أولئك مبرؤون مما يقولون لهم مغفرة ورزق كريم } فكأن الله تعالى أنزل في حد ( القذف ) وأحكامه وأنواعه وبيان عقابه وشرح الأضرار المترتبة عليه في المجتمع والنهي عنه والتحذير من الوقوع يه وفظاعة الإقدام عليه أنزل في ذلك ( عشرين ) آية في سورة النور .
ثم ذكر الله تعالى في ذكر هذه الآيات عقاب المجرم الذي يقذف الناسن ويهتك أعراضهم بأنه لم يستطيع إثبا البينة على قوله بأمور : أولا : أن يجلد ثمانين جلدة . ثانيا : ترد شهادته طول حياته . ثالثا : يصبح من أهل الفسوق والإجرام وأصحاب الكبائر . رابعا : يكون عند الله من الكاذبين خامسا : أنه ملعون في الدنيا ملعون في الآخرة سادسا : ان له عذابا عظيما عند الله قد ادخره له يوم القيامة سابعا : تشهد عليه جوارحه زيادة في الخزي والعار على رؤوس الأشهاد . ثامنا : ان الله تعالى يوفيهم جزاء فعلهم ويجزيهم حساب عملهم من القدر المستحق من أنواع العذاب في نار جهنم وقد أجمعت المة على أن القذف من أكبر الكبائر وأن حد القذف من أكبر الكبائر وأن حد القذف ثابت بالكتاب والسنة وإجماع الأمة أما الكاب فقوله تعالى : { والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة ابدا . وأولئك هم الفاسقون } وقوله تعالى : { فإذا لم يأتوا باشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون } .
والمعنى : أن من قذف مسلما أو مسلمة ولم ستطع إقامة البينة المطلوبة لإثبات قوله فهو كاذب عند الله أي حكمه في شريعة الله تعالى حكم الكاذب يقينا فيقام عليه حد الكاذب وقوله تعالى : { إن الذين يرمون الممحصنات الغافلات المؤمنات لعنوا في الدنيا والآخرة ولهم عذا بعظيم يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانو ايعملون يومئذ يوفيهم الله دينهم الحق ويعلمون أن الله هو الحق المبين } آيات : 23 ، 24 ، 25 من سورة النور فقد بين الله تبارك وتعالى في هذه الآيات فظاعة تلك الجريمة وعظيم أمرها فشنع على من وقع فيها وشرح عظم خطرها وبين عقوبة مرتكبها ونهاية أمر فاعلها ووضح شديد وعيدها وأي وعيد أشد من اللعنة في الدنيا من الناس والملائكة والطرد من رحمة الله تعالى ورضوانه يوم القيامة واستحقاق العذب العظيم وتقرير ذنبه بشهادة جوارحه عليه في الآخرة أن القاذف مطالب في الجنيا لتصديق دعواه بأربعة شهداءن فالقاذف يوم القيامة يقوم في وجهه لتكذيبه خمسة شهود من أعضائه وجوارحه : لسانه ويداه ورجلاه تنكيلا لهن وفضيحة لشأنه جزاء وفاقا على محاولته فضيحة المحصنات الغلافلات المؤمنات .
وحسبك بختم الآية الكريمة بأن الله سيوفيه جزاءه الحق ويعلم المفتري على الناس الكذب إن لم يكن قد علم أن قوله هوة الحق المبين وقال تعالى : { إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة والله يعلم وأنتم ولا تعلمون } والعذاب المتوعد به في الدنيا شامل لحد القذف وما يصيب المتعرض للأعراض غالبا من مصائب الدهر ولحوق المخزيات وتسليط الألسنة على شرفه وعرضه تثير منه ما كمن بالباطل وبالصحيح ومن فتش عن عوراتهم فضحوه ومن تتبع عورات المسلمين تتبع الله عورته ومن تتبع الله عورته ومن تتبع الله عورته يفضحه ولو في قعر بيته وكما تجين تدانن وكما تفعل تجارى والجزاء من جنس العمل ومن زرع الحسرة حصد الندامة .
وأما عذاب الآخرة فهو أشد وأبقى وإذا كان هذا من شأن الذين يحبون بقلوبهم أن تنتشر الفاحشة وتشيع في المؤمنين فما بالك بمن يفترها ويروجها بنفسه ؟ وأما السنة فما رواه الإمام البخاري ومسلم رحمهما الله تعالى عن أبي هريرة رشي الله تعالى عنه عن النبي A قال : ( اجتنبوا السبع الموبقات قالوا : يا رسول الله وما هن ؟ قال : الشرك بالله والسحر وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق وأكل الربا وأكل مال اليتيم والتولي يوم الزحف وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات ) .
وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال : قال رسول الله A : ( من قذف مملوكه يقام عليه الحج يوم القيامة إلا أن يكون كما قال ) متفق عليه . ففي الحديث دليل على أنه لا يحد المالك في الدنيا أذا قذف مملوكه وإن كان جاخلا تحت عموم آية القذف بناء على أنه لم يرد بالإحصان الحرية وكذلك فعل الرسول صلوات مالله وسلامه عليه فعن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت : لما نزل عذري قام رسول الله A على المنبر فذكر ذلك وتلا القرآن من قوله ( ن الذين جاؤوا بالإفك ) إلى آخر ثماني عشرة آية ( فما نزل برجلين وامراة فضربوا الحد ) أخرجه أحمد والأربعة وأشار أليه الإمام البخاري والرجلان هما حان ومسطح وأما المرأة فهي حمنة بنت جحش فالحديث يدل على ثبوت حد القذف .
ما يبيح القذف .
قال العلماء : إن القذف ينقسم الى لا محظور ومباح وواجب فإذا لم يكن هناك ولد يريد نفيه فلا يجب وهل يباح أم لا ؟ ينظر وإن رآها بعينه تزني أو أقرت هي على نفسها ووقع في قلبه صدقها أو سمع ممن يثق بقوله أو لم يسمع ولكنه استفاض فيما بين الناس ان فلانا يزني بفلانة وقد شاهده الزوح يخرج من بينها أو رآها معه في بيت فإنه يباح له القذف في مثل هذه الحالات لتأكد التهمة ويجوز أن يمسكها ويستر عليها إن تابت أما إذا سمع الخبر ممن لا يوثق بقوله أو استفاض من بين الناس ولكن الزوج لم يره معها في خلوة أو بالعكس لم يحل له قذفها ولكن يجب عليه مراقبتها والتجسس عليها حتى يثبت له صدق الخبر أو كذبه حتى لا يكون ( ديوثا ) يقر الزنا في اهل بيته .
أما إذا كان ثم ولد يرد نفيه نظر : فإن تيقن أنه ليس منه بأن لم يكن وطئها الزوج أو وطئها لكنها أتت به لأقل من ستة أهشر من وقت الوطء أو لأكثر من أربع سنين يجب عليه القذف ونفي الولد باللعان لأنه ممنوع من استلحاق نسب الغير كما هو ممنوع من نفي نسبه كما روي عن النبي A أنه قال : ( أيما امرأة أدخلت على قوم من ليس منهم فليست من الله ولن يدخلها الله حنته ) فما حرم على المرأة أن تدخل على قوم من ليس منهم كان الرجل أيضا كذلك .
أما إن احتمل أن يكون منه بأن أتت به لأكثر من ستةة أشهر من وقت الوطء ولدون أربع سنين نظر إن لم يكن قد استبرأها بحيضة أو استبرأها وأتت به لدون ستة أشهر من وقت الاستبراء لا يحل له القذف والنفي وإن اتهمها بالزنا قال رسول الله A : ( أيما رجل جحد ولده وهو ينظر إليه احتجب الله منه يوم القيامة وفضحه على رؤوس الأولين والآخرين ) .
( 2 ) ( تعريفه شرعا .
القذف في اللغة الرمي وفي اصطلاح الفقهاء : نسبة من أحصن إلى الزنا صريحا أو دلالة وإنما سمي اتهام المسلم المحصن قذفا لأن الناطق بهذه الكلمة كالفاحشة ( الزنا ) يقذفها كما يقذف الحجر في حالة غضب لا يدري من أصابته في طريقها من محصنة بريئة وأبيها وأمها وأختها وأخيها وزوجها وبينها وعشيرتها وذويها كل أولئك قد نالهم ضرر من قذيفته الطائشة وهو ضاحك مسرور غافل لا يدري من آلام هؤلاء شيئا ويسمى ( فرية ) لأنه من الافتراء والكذب .
وقد وصف الله تعالى النساء بهذه الأوصاف الحميدة التي تناسب هذا المقام فالمحصنات هن المصونات كأنه جعل عليهن حصن منيع والغافلات : أي الخاليات الذهن عن التفكير في المنكر فضلا عن التوجه إليه والمؤمنات اللاتي آمن بالقران الكريم وأحكامه والتزمن حدود الإمان .
واسم الإحصان يقع على المتزوجة وعلى العفيفة وإن لم تتزوج لقوله تعالى في مريم : { والتي أحصنت فرجها } وهو مأخوذ منع الفرج فإذا تزوجت منعته إلا من زوجها وغير المتزوجة تمنعه على كل أحد .
وقد أتفق الأئمة رحمهم الله : على أن الحر البالغ العاقل المسلم المختار إذا قذف حرا عاقلا بالغا مسلما عفيفا لم يحمد في زنا في سالف الزمان أو قذف حرة بالغة عاقلة مسلمة عفيفة غير متلاعنة لم تحد في زنا مطيقة للوطء قذفها بصريح الزنا أو كنايته في غير دار الحرب وطلب المقذوف بنفسه إقامة حد القذف لزمه ثمانون جلدة إذا لم يستطع إقامة البينة لإثبات ما قاله بأربعة شهداء عدول .
وإنما اعتبروا الإسلام شرطا في الإحصان لقوله A : ( من أشرك بالله فليس بمحصن ) واعتبروا العقل والبلوغ لقوله A : ( رفع القلم عن ثلاث ) واعتبروا الحرية لأن العبد ناقص الدرجة فلا يعظم عليه التعيير بالزنا واعتبروا العفة عن الزنا لأن الحد مشروع لتكذيب القاذف فإذا كان المقذوف زانيا فالقاذف صاق في القذف وكذلك إن كان المقذوف وطىء امرأة بشبهة أو نكاح فاسد لآن فيه شبهة الزنا كما فيه شبهة الحل فكما إن احجى الشبهتين اسقطتت الحد عن الواطىء فكذا الأخرى تسقطه عن قاذفه أيضا واعتبروا الاختيار لأن المكره لا يقام عليه الحد بل يرفع عنه العقاب واعتبروا بها من شروط المحصن ان لا يحد في زنا في سالف الزمان حتى يكون محصنا ظاهرا .
فلو زنا في عنفوان شبابه مرة ثم تاب وحسن حاله وشاخ في الصلاح لا يحد قاذفه وكذلك لو زنا كافر أو رقيق ثم أسلم وعتق وصلح حاله فقذفه قاذف لاحد عليه بخلاف ما لوزنا في حال صغره أو جنونه ثم بلغ أو أفاق فقذفه يحد لأن فعل الصبي والمجنون لا يكون زنا ولو قذف عنينا أو مجبوبا أو رتقاء أو صغيرة لا تطيق فلا حد عليه ولو قذف محصنا فقبل ان يحد القاذف زنا المقذوف سقط الحد عن قاذفه لأن صدور الزنا يورث ريبة في حاله فيما مضى لأن الله تعالى كريم لا يهتك ستر عبده في أول ما يرتكب المعصية . فبظهوره يعلم أنه كان متصفا به من قبل روي أن رجلا زنا في عهد عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه فقال الرجل : والله ما زنيت إلا هذه فقال له عمر : كذبت إن الله لا يفضح عبده في أول مرة .
واتفق الأئمة على أن القذف الذي يجب به الحد هو أن يرمي القاذف المقذوف بالزنا أو اللواط أو ينفيه عن نسبه إذا كانت أمه حرة مسلمة بصريح القول دون سائر المعاصي . وذلك لأن القذف بالزنا فيه من العار بدناءة النفس وهتك الستر وافتضاح السوءات وانتهاك الحرمات والدلالة على عدم الغيرة الذي هو من سمات أخس الحيوانات ما قرف به كل الموبقات فإن كان المرمي به امرأة كان فيه من جلب العار على قومها ما يؤدي إلى سفك الدماء . وقلما يغسل ذلك العار إلا بسفك الدماء وإن كان المرمي به رجلا كان فيه الدلالة على أنه ليس للعرض في نظره كرامة ولا للغيرة على نفسه سلطان وكان أمارة على أنه لو أصيب بما أصاب به الناس لاعتبره أمرا عاديا لاتثور للغيرة له نفسه ولا يغلي له دمه ولذلك قيل : لا يزني الغيور وكفى بهذا عارا وعيبا يلحق الأبناء والأحفاد وتبقى سيرته طوال الحقاب .
وقد أجمع الفقهاء على أن المراد بالرمي هنا في الآية الكريمة إنما هو الرمي بالزنا خاصة دون الرمي بالجرائم الأخرى . لعدة قرائن منها مجيء الآية بعد آية الزنا ومنها التعبير بالمحصنات وهن العفائف فدل ذلك على أن المراد بالرمي ورميهن بضد الفقاف . ونها قوله : { ثم لم يأتوا بأربعة شهداء } يعني على صحة ما رموهن به ومعلوم أن هذا العدد من الشهود غير مشروط إلا في الزنا ومنها انعقاد الإجماع على أنه لا يجب الجلد بالرمي بغير الزنان فيجب أن يكون المراد بالرمي في الآية هو الرمي بالزنا خاصة من بين سائر العيوب .
( يتبع . . . )