- ولقائل أن يقول : لماذا عنيت الشريعة الإسلامية بالسرقة دون غيرها من الأنواع المؤذية للمجتمع فتركت الغاصب والمختلس والخائن كما تركت الذي ينفق أمواله في الشهوات الضارة المفسدة أو في إيذاء المجتمع أو نحو ذلك ؟ والجواب : أن الذي جاءت به الشريعة الإسلامية من ذلك هو تقدير العزيز الحكيم وهو غين الحكمة والصواب . بيان ذلك : أن السرقة هي أخذ مال الغير خفية من حرز ( أي محل محفوظ فيه ) ( 1 ) ولا ريب أن الذي يقدم على هذا الفعل خطره يطرد في كل زمان ومكان لأنه لا يبالي في سبيل الوصول إلى غرضه بارتكاب اية جريمة يتوفق عليها الحصول على ما يرج فهو ينقض الدرا ويكسر القفل ولا يتأخر عن قتل من يقف في سبيله أو التمثيل به فهو مهدد للناس في حياتهم واموالهم واعراضهم فإذا لم يضرب على يد السارق من أول الأمر وذا لم تشدد عليه العقوبة كان شره عظيما وخطره تشديدا وقد عرفتنا الحوادث أن السارقين قد قتلوا أنفسا كثيرة في سبيل وصولهم إلى سرقة المال واعتدوا على أعراض كثيرة .
( 1 ) ( صفة الحرز : الحنفية - قالوا : إن صفة الحرز الذي يقطع من سرق منه هو أن يكون حرزا لشيء من الأموال فكل ما كان حرزا لشيء منها كان حرزا لجميعها ثم حرز كل شيء على حسب ما يليق به قال E : ( فإذا آواه الجرين ( موضع التمر اليذي يجفف فيه ) - يعني اليدر - ففيه القطع ) وقال صلوات الله وسلامه عليه : ( لا قطع في حريسة ( أي المحروسة به فليس بالجبل إذا سرق قطع لأنه ليس بحرز وقيل الحريسة : الشاة التي يدركها الليل قبل أن تصل إلى مأواها ) الجبل وما آواه المراح ( هو المكان الذي تأوي إليه الماشية ليلا للمبيت فيه ) ففيه القطع ) . والحرز ما يكون به المال محروزا من أيدي اللصوص ويكون بالحافظ كمن جلس بالصحراء أو في المسجد أو في الطريق العام وعنده متاعه فهو محرز به وسواء كان نائما أو مستيقظا وذلك لما روي أنه E قطع سارق رداء ( صفوان ) مت تحت رأسه وهو نائم في المسجد وسواء كان المتاع تحته أو عنده لأنه يعد حافظا له في ذلك كله عرفا فيقطع من يسرق ماله أو متاعه . والحرز بالمكان : هو ما أعد للحفظ كالدور والبيوت والحانوت والصندوق فهي حرز لما فيها غاب صاحبها أو حضر فلا يعتبر فيه الحافظ لأنه محرز بدونته وهو المكان الذي اعد للحفظ إلا أن القطع لا يجب من الأخذ بالحرز بالمكان إلا بالإخراج منه لأنن يد المالك قائمة ما لم يخرجه السارق والمحرز بالحافظ يجب القطع لما أخذه لان يد المالك زالت بمجرد الأخذ فتمت السرقة ولو كان باب الدار مفتوحا فدخل نهارا واخذ متاعا لم يقطع لآنه مكابرة وليس بسرقة لعدم الاستسرار على ما بينا . ولو دخل ليلا قطع لأنه مكان بني للحرز ولو خل بين المغرب والعشاء والناس منتشرون فهو بمنزلة النهار ولو علم صاحب الدار باللص واللص لا يعلم أو بالعكس قطع لأنه مستخف وان علم كل واحد منهما بلآخر لا يقطع السارق لأنه مكابرة . وإذا سرق من الحمام ليلا قطع وبالنهار لا يقطع لأنه مأذون بالدخول وهو الدواب حرز لما حملت وافنية الحوانيت حرز لما وضع فيها في موفق البيع وغن لم يكن هناك حانوت كان معه أهله ام لا سرقت ليلا أو نهارا وكذلك موفق عربات الباعة المتجولين في السواق وموفق الشاة في اسوق مربوطة أو غير مربوطة حرز والدواب على مرابطها في الحقول والخلاء محرزة كان معها اصحابها أم لا فإن كانت الدابة بباب المسجد أو في السوق لم تكن محرزة إلا أن يكون معها حافظ ومن ربطها بفنائه أو اتخذ موضعا مربطا لدوابه فإنه حرز لها ولو سرق لؤلؤة من الاصطبل لم يقطع لأنه ليس حرزا لها والسفينة حرز لما فيها سواء كانت سائبة أو مربوطة فإن سرقت السفينة نفسها فهي كالدابة إن كان معها احد حيثما كانت فهي حرز كالدابة بباب المسجد معها حافظ ولوسرق ثوبا على شاة لم يقطع لان الشاة لا تحرز إلا أن ينزلوا لها كان صاحبها معها ام لا . المالكية والشافعية والحنابلة - قالوا : ( إن الحرز يختلف باختلاف الامال المحفوظة فيه وقيمتها والعرف معتبر في ذلك لأنه لا ضابط له لغة ولا شرعا وهو يختلف باختلاف المال ونوعه وثمنه ويختلف باختلاف البلاد ويكون بحسب عدل السلطان وجوره وما كان كذلك فمرجعه العرف والعادة فالدور والحوانيت حرز ومرابط الدواب حرز لها وكذلك الأوعية وما على ظهور الدواب والسيارات تكون حرزا لما فيها وما على الإنسان من الملابس فالإنسان حرز لكل ما عليه أو هو عنده نائما أو مستيقظا ولا يقطع سارق ما على الصبي من الحلي وغيره إلا أن يكون معه حافظ يحفظه كما في الدواب وغيرها .
السرقة في المدن الجامعية والفنادق : اتفق الأئمة على أن الساكنين في دار واحدة - كالعمارات والفنادق والمدن الجامعية وأروقة المساكن التي يسكن فيها كل رجل بيته على حدة وعليه باب يغلق يقطع من سرق منهم من بيت صاحبه إذا أخذه وخرج بسرقته إلى قاعة الدار وغن لم يدخل بها بيته ولا خرج بها من الدار لأن الإخراج إلى صحن الدار كالإخراج إلى السكة العمومية واتفقوا : على أنه لا يقطع من سرق منهم من قاعة الدار شيئا وإن أدخله في بيته أو أخرجه من الدار لأن قاعتها مباحة للجميع للبيع والشراء كالطريق العام إلا أن تكون دابة في مربطها أو مايشبهها من المتاع : كالدراجة وغيرها . واتفق الأئمة الأربعة : على أن باب البيت وغلقه حرز وحرز الثياب والنقود والجواهر الصناديق المقفلة وحرز الأمتعة للبياعين الدكاكين المقفلة عليها وبوجود حارس لها ليلا وحرز الدواب الثمينة الإصطبل وحرز الأواني والأوعية وثياب البذلة مدخل البيت وعرضه واختلفوا في الدار المشتركة بينهم . المالكية والفقهاء - قالوا : تقطع يد السارق من الدرا المشتركة بينهم في السكن إذا اخرج المتاع من الحجرة التي هو فيها لأنه حرز له . الصاحبان من الحنيفة - قالوا : لا قطع عليه إلا إذا اخرج المال من الدار لأنه مأذون له في دخولها ولن الدار مع جميع بيوتها حرز واحد فلا بد من الإخراج .
سرقة الحوانيت : الشافعية - قالوا : لو ضم العطار أو البقال ونحوه المتهة وربطها بحبل على باب الحانوت للعرض . أو ارخى عليها شبكة أو خالف لوحين على باب حانوته كانت محرزة بذلك في النهار لأن الجيران والمارة ينظرونها وفيما فعل ما ينبهم إذا قصدها السارقن فإن لم يفعل شيئا من ذلك وترك البضاعة مهملة أو ترك الباب مفتوحا فلا تقطع يد السارق لأنها ليس محرزة . وأما في الليل فمحرزة لذلك لكن مع وجود الحارس ولا يقطع فيما إذا ترك ثقبا بالحانوت يدخل منه السارق يده وليس له حارس والبقل ونحوه كالفجل والكرات والجرجير إن ضم بعضه إلى بعض وترك على باب الحانوت وطرح عليه حصير أو نحوها فهو حرز بحارس . والأمتعة النفيسة التي تترك على الحوانيت في ايام العياد ونحوها لتزيين الحانوت وتستر بنطع ونحوه وكذلك لمبات الكهرباء التي على أبواب الحوانيت والمنازل ليالي الأفراح تكون محرزة بحارس ولأن أهل السوق يعتادون ذلك فيقوى بعضهم ببعض بخلاف سائر الليالين والثياب الموضوعة على باب حانوت القصار للعرض كأمتعة العطار الموضوعة على باب حانوته كما مر . والحانوت المغلق بباب وقفل بلا حارس حرز لمتاع البقال وذهب الجواهرجي وفضته وساعات التاجر وغيرها من الأمتعة الثمينة التي توضع في بترينة الحوانيت بقصد البيع ليلا ونهارا ولو بلا حارس في زمن المن بخلاف الحانوت المفتوح المأذون في دخوله للعامة لا يقطع في سرقته وكذلك المغلق زمن الفتنة والخوف والأرض حرز للبذور والزرع للعادة وقيل : ليست حرزا إلا بحارس . والتحويط بسور بلا حارس لا يحرز الثمار وإن كانت على الأشجار إلا ان اتصلت بجيران يراقبونها أما اشجار أفينة الدور فهي محرزة بلا حارس بخلافها في البرية . والثلج في الثلجة والجمدة في المجمدة والتين في المتين والحنطة في المطامير والفول المطمور في باطن الرض كل منها في الصحراء غير محرز إلا بحارس . وأبواب الدور والبيوت التي فيها والحوانيت بما عليها من مغاليق وحلق ومسامير محرزة بتركيبها ولو كانت مفتوحة . أو لم يكن في الدور والحوانيت أحد يحرسها ومثلها سقوف الدرا والرخاف والاصطبل - حرز لما به من الدواب الثمينة وغيرها إن كانت متصلة باور والمنازل اما إذا كانت موجودة في الصحراء بعيدا عن العمران فلا تكون حرزا إلا بوجود حارس قوي عليها يلاحظها .
سرقة ما يسرع إليه الفساد : الحنفية - قالوا : لا قطع فيما يتسارع إليه الفساد كاللبن واللحم والفواكه الرطبة لقوله E : ( قطع فيما يتسارع في ثمر ولا كثر ) والكثر الجمار ( الكثر - الجمار - وهو شجر النخل وهو شيء أبيض يقطع من رؤوس النخل ويؤكل ) وقيل : الودي ( الودي - صغار النخل ) وقال رسول الله A : ( لا قطع في الطعام ) والمراد به - والله أعلم - ما يتسارع إليه الفساد كالمهيأ للأكل منه مثل الخبز واللحم والتمر والفواكه الرطبة لأنه يقطع في سرقة الحنطة والسكر بالإجماع إذا لم يكن العام عام مجاعة وقحط اما إذا كان كذلك فلا قطع سواء كان مما يتسارع إليه الفساد أو لا . ووجهتهم الاحتياط في قطع عضو المسلم . والشافعية والمالكية والحنابلة وأبو يوسف من الحنفية - قالوا : يجب القطع فيما يسرع فساده إذا بلغ المسروق الحد الذي يقطع في مثله بالقيمة للأحتياط في إبراء الذمة من حقوق العباد ولأنه مال متقوم عند الجميع واحتجوا على مذهبهم بما روي عن عبد الله بن عمر Bهما أن رسول الله صلوات الله وسلامه عليه سئل عن التمر المعلق فقال : ( من أصاب بقية من ذي حاجة غير متخذ خبنة ( الخبنة - ما تحمله في حضنك ) فلا شيء عليه ومن خرج بشيء فعليه غرامة مثليه والعقوبة ومن سرق منه شيئا بعد ان يؤويه الجرين فبلغ ثمن المجن فعليه القطع ) أخرجه أبو داود والنسائي . وفي رواية ان رجلا من مزينة سأل رسول الله A عن الحريسة التي تؤخذ من مراتعها فقال : ( فيها ثمنها مرتين وضرب ونكال ومال أخذ من اجرانه ففيه القطع ) رواه أحمد والنسائي وفي لفظ : ( ما ترى في التمر المعلق فقال : ليس في شيء من التمر المعلق قطع إلا ما آواه الجرين فما أخذ من الجرين فبلغ ثمن المجن ففيه القطع وما لم يبلغ ثمن المجن ففيه غرامة مثليه وجلدات ونكال رواه الحاكم بهذا المتن والجرين : هو الموضع الذي يلقى فيه الرطب ليجف وجمعه جرن يقتضي أنه يكون فيه الرطب في زمان وهو اول وضعه واليابس وهو الكائن في آخر حاله فيه وما روي ( ان سارقا سرق اتوجة في زمان عثمان بن عفان فأمر بها عثمان أن تقوم فقومت بثلاث دراهم فقطع عثمان يده ) . والجواب : أنه معارض بإطلاق قوله A : ( لا قطع في ثمر ولا كثر ) وقوله : ( لا قطع في الطعام ) وبما روي أن غلام سرق وديا من حائط فرفع إلى مراوان فأمر بقطعه . فقال رافع بن خديج : قال النبي A : ( قطع في ثمر ولا كثر ) وقد تلقت الأمة هذا الحديث بالقبول . فقد تعارضا في الرطب الموضوع في الجرين وفي مثله من الحدود يجب تقديم ما يمنع الحدود درأ للحد ولأن ما تقدم متروك الظاهر فإنه لا يضمن المسروق بمثلي قيمته وإن نقل عن الإمام أحمد فقلماء المة على خلافه لأنه لا يبلغ قوة ثبوت كتاب الله تعالى' وهو قوله تعالى : { فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم } فلا يصح عنه E ذلك . وقد روي عن عبد بن عبد الرحمن بن أبي حسين أن رسول الله A قال : ( لا قطع في ثمر معلق ولا في حريسة جبل ) ( والحريسة قيل : هي التي ترعى وعليها حرس وقيل هي السيارة التي يدركها الليل قبل أن تصل إلى مأواها ) .
الحنفية - قالوا : لا قطع فيما يوجد تافها مباحا في دار الاسلام كالخشب والحشيش والقصي والسمك والطير والصيد لما روي عن السيدة عائشة Bها أنها قالت : ( كانت اليد لا تقطع على عهد رسول الله A في الشيء التافه ) أي الحقير وما يوجد جنسه مباحا في الأصل بصورته غير مرغوب فيه حقير تقل الرغبات فيه والطباع لا تضن به إذا أحرز حتى إنه قلما يوجد اخذه على كره من المالك ولا ينسب إلى الخيانة على أن الضنه بها تعد من الخساسة وما هو كذلك لا يحتاج إلى شرع الزواجر فيه ولأن الحرز ناقص يهذه الأشياء فالطير من شأنه أن يطير وبذلك تقل الرغبات فيه وكذلك وجود الشركة العامة التي كانت في الصيد قبل الإحراز بقول A : ( الصيد لمن أخذه ) وقوله صلوات الله وسلامه عليه : ( الناس شركاء في ثلاثة في الكلأ والماء والنار ) فهذه الشركة تورث شبهة بعد الإحراز فيمتنع القطع والحدود تدرأ بالشبهات ويدخل في السمك المالح والطري ويدخل في الطير جميع أنواعه والدجاج البط والحمام ولقوله A : ( لا قطع في الطير ) . والشافعية والمالكية والحنابلة وأبو يوسف من الحنفية - قالوا : يجب القطع في كل شيء أحرز وبلغ النصاب إلا في الماء والتراب والطين والحصى والمعازف والنبيذ وما سوى هذه أموال متقومة محرزة فصارت كغيرها والإباحة الأصلية قد زالت وزال أثرها بالإحراز بعد التملك ولعموم الأدلة من الكتاب والسنة ولا أثر لكونها مباحة الأصل وكذلك التبن والحطب وغيرها من الأشياء التي يباح أصلها متى أحرزت .
سرقة التمر المعلق على الشجر .
( يتبع . . . )