- أم حق الزوج فإن الشارع لم يهمله في هذه الحالة بل جعل له حدا معقولا يدفع عنه أذى الغضب والغيظ من جهة ويشكك الناس في أمر الزوجة فلا تتأذى أسرتها بشرها من جهة أخرى .
وبيان ذلك أن الأجنبي إذا رمى امرأة عفيفة أو رجلا عفيفا بالزنا ولم يأت بأربعة شهداء كان جزاؤه أن يحد حد القذف ( ثمانين جلدة ) .
أما الزوج فإنه إذا ادعى أن امرأته قد زنت فان الشارع لم يكلفه الإثبات كالأجنبي إذ لا مصلحة للزوج العاقل في قذف زوجته واتهامها بالزنا جزافا " فان عار ذلك - وان لم يلحقه هو دائما لإمكانه أن يتخلص منها - لكنه يلحق أبناءه فانه فإنه لم يكن له منها أبناء وبنات فانه يضن بكرامته عن الامتحان بين الناس مؤقتا ولهذا لم يسو الله D بين الزوج وبين الأجنبي إذا اتهم زوجته فشرع لهما في هذا الحالة ( اللعان ) وهو أن يقول الزوج أما القاضي : اشهد بالله أنني صادق فيما رمينها به من الزنا ويكرر ذلك أربع مرات ثم يقول بعد ذلك : لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين .
وتقول الزوجة : اشهد بالله بأنه لكاذب فيما يرميها به من الزنا وتكرر ذلك أربع مرات ثم تقول : أن غضب الله عليها أن كان من الصادقين ( 1 ) .
( 1 ) ( قال الفقهاء : يسن للإمام أن يقوم بوعظ المتلاعنين قبل اللعان تحذيرا لهما من الكذب وتخويفا لهما من الوقوع في المعصية كما فعل النبي A حينما قذف هلال بن أمية زوجته بالزنا مع شريك بن السحماء فتلا عليه آيات الله تعالى ووعظه وذكره بعقاب الله تعالى واخبره بان عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة فقال الرجل : لا والذي بعثك بالحق ما كذبت عليها ثم دعا المرأة فوعظها وخوفها وأخبرها أن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة قالت : لا والذي بعثك بالحق إنه لكاذب ثم تلاعنا بعد ذلك وكان هذا أول لعان وقع في الإسلام .
واتفق الأئمة على أن من السنة أن يبدأ الإمام بالرجل في اللعان كما حكاه الإمام المهدي في البحر ولكنهم اختلفوا في الوجوب .
الشافعية وأشهب من المالكية والحنابلة - قالوا : يجب على الإمام أن يبدأ في اللعان بالرجل ولا يصح له أن يبدأ بالمرأة لأنه هو الذي اتهمها ورفع الأمر إلى الحاكم وطلب وقوع اللعان فهو صاحب الدعوة .
وقد بدأ الله تعالى بذكر الزوج في آيات اللعان قبل الزوجة فقال تعالى : { والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين . والخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين } الآيات . ولان اللعان شرع لدفع الحد عن الرجل الذي قذفها بالزنا كما قال رسول الله A للهلال بن أمية : ( البينة وإلا حد في ظهرك ) فلو بدأ اللعان بالمرأة لكان دفعا لأمر لم يثبت بعد .
الحنفية والمالكية وابن القاسم - قالوا : يسن الابتداء في اللعان بالرجل ولكن لا يجب فلو وقع الابتداء بالمرأة قبل الزوج صح اللعان واعتد به كالابتداء بالرجل لأنه لم يترك واجبا ولأن الله تعالى عطف آيات اللعان في القرآن بحرف الواو وهو لا يقتضي الترتيب وصفة اللعان أن يبدأ الإمام بأزواج فيشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين فيما رميتك به من الزنا ويقول في الخامسة : لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين فيما رميتك به من الزنا وإن كان القذف بالزنا ونفي الولد يقول : فيما رميتك به من الزنا ونفي الولد وإن كان اللعان بنفي الولد فقط يقول فيما رميتك به من نفي الولد لأنه المقصود باليمين ثم تشهد المرأة أربع مرات تقول في كل مرة : أشهد بالله أنه لمن الكاذبين فيما رماني به من الزنا أو من نفي الولد وتقول في الخامسة غضب الله عليها إن كان من الصادقين فيما رماني به من الزنا وفي نفي الولد تذكره كذلك .
أول لعان في الإسلام .
ذكر الجمهور أن قصة هلال بن أمية هي السبب في مشروعية اللعان في الدين الإسلامي لأنه أول رجل لاعن في الإسلام .
وقد حكى الماوردي أن قصة هلال بن أمية أسبق من قصة عويمر العجلاني وزوجته خولة بنت عاصم .
وقال الخطيب والنووي وتبعهما الحافظ يحتمل أن يكون هلال قد سأل رسول الله A أولا ثم سأل بعده عويمر العجلاني فنزلت الآيات في شأنهما معا وقال أبن الصباغ في الشامل قصة هلال بن أمية نزلت فيها الآيات الكريمة .
واختلف العلماء في الوقت الذي وقع فيه اللعان فجزم الطبري وأبو حاتم وابن حبان أنه كان في شهر شعبان سنة تسع من الهجرة .
وقيل : كان في السنة التي توفي فيها رسول الله A ولما وقع في البخاري عن سهل بن سعد أنه شهد قصة الملاعنة وهو ابن خمس عشرة سنة وقيل : كانت القصة سنة عشر ووفاته صلوات الله وسلامه عليه كانت في سنة إحدى عشر وروي عن ابن عمر قال : ( فرق رسول الله A بين أخوي بني عجلان وقال : الله يعلم أن أحدكما كاذب فهل منكما من تائب ثلاث ) متفق عليه .
والمراد بقول : أخوي - الرجل وامرأته قال ابن منده في كتاب الصحابة : واسم الرجل عويمر من بني بكر واسم المرأة : خولة بنت قيس وذكر ابن مردويه أنها بنت أخي عاصم .
تعريف اللعان .
اللعان في اللغة : الأبعاد يقال : لعنه الله أي أبعده من رحمته وهو مصدر لاعن يلاعن ملاعنة وفي الشرع هو مختص بملاعنة تجري بين الزوجين بسبب مخصوص بصفة مخصوصة .
واللعان شعيرة من شعائر الإسلام وهو في حقه كحد القذف فإن كان الزوج كاذبا التحق به كالحج حتى لا تقبل شهادته بعد اللعان أبدا وهو في حق الزوجة كحد الزنا وبهذا لا يثبت اللعان بالشهادة على الشهادة ولا بكتاب القاضي ولا بشهادة النساء كالحدود سواء بسواء ولابد من طلبها لأن الحق لها كما في حد القذف .
واللعان : خصلة من خصال الدين الحنيف وحكم من أحكام الشريعة ومن خصوصيات الأمة المحمدية وقد كان موجب القذف الحد في الأجنبية والزوجة معا " بقوله تعالى : { والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة ابد " وأولئك هم الفاسقون } [ آية 4 من سورة النور ] .
ثم نسخ هذا الحكم في شأن الزوجات ونقل إلى اللعان بقوله تعالى : { والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين والخامسة : أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين ويدرأ عنها العذاب أن تشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين والخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين } [ آيات 6 ، 7 ، 8 ، 9 من سورة النور ] .
وسبب نزول هذه الآيات الشريفة ما روي عن ابن عباس رحمهما الله تعالى أنه قال : لما نزل قول الله تعالى : { والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء } قال عاصم بن عدي الأنصاري رضي الله تعالى عنه : ( إن دخل منا رجل بيته فوجد رجلا على بطن امرأته فإن جاء بأربعة رجال يشهدون بذلك فقد قضى الرجل حاجته وخرج وإن قتله قتل به وإن قال : وجدت فلانا مع تلك المرأة ضرب وإن سكت سكت على غيظ ) اللهم افتح وكان لعاصم هذا ابن عم يقال عويمر وله امرأة يقال لها : خولة بنت قيس فأتى عويمر عاصما فقال لقد رأيت شريك بن السحماء على بطن امرأتي خولة فاسترجع وأتى رسول الله A فقال : يا رسول الله ما أسرع ما ابتليت بهذا في أهل بيتي . فقال رسول الله A : ( ما ذاك ؟ ) فقال : أخبرني عويمر ابن عمي بأنه رأى شريك بن السحماء على بطن امرأته خولة وكان عويمر وخولة وشريك كلهم بنو عاصم .
فدعا رسول الله A بهم جميعا وقال لعويمر : اتق الله في زوجتك وابنة عمك ولا تقذفها فقال : يا رسول الله A أقسم بالله أني رأيت شريكا على بطنها وأني ما قربتها منذ أربعة أشهر وأنها حبلى من غيري فقال لها رسول الله A : ( اتقي الله ولا تخبري إلا بما صنعت ) فقالت : يا رسول الله إن عويمرا رجل غيور وإنه رأى شريكا يطيل النظر إلي ويتحدث معي فحملته الغيرة على ما قال فأنزل الله تعالى هذه الآية فأمر رسول الله A حتى نودي الصلاة جامعة فصلى العصر ثم قال لعويمر : ( قم وقل أشهد بالله أن خولة لزانية وإني لمن الصادقين ثم قال في الثانية قل : أشهد بالله أني رأيت شريكا على بطنها وإني لمن الصادقين ثم قال في الثالثة قل : أشهد بالله أنها حبلى من غيري وإني لمن الصادقين ثم قال في الرابعة قل : أشهد بالله أنها زانية وإني ما قربتها منذ أربعة أشهر وإني لمن الصادقين ثم قال في الخامسة قل : لعنة الله على عويمر - يعني نفسه - إن كان من الكاذبين فيما قال ثم قال اقعد وقال لخولة قومي فأقمت وقال : أشهد بالله ما أنا زانية وإن زوجي عويمرا لمن الكاذبين وقالت في الثانية : أشهد بالله ما رأى شريكا على بطني وإنه لمن الكاذبين وقالت في الثالثة : أشهد بالله أني حبلى منه وإنه لمن الكاذبين وقالت في الخامسة : غضب الله على خولة إن كان عويمر من الصادقين في قوله . ففرق رسول الله بينهما ) .
واعلم أنه إذا رمى الرجل امرأته بالزنا يجب عليه الحد إن كانت محصنة والتغرير إن لم تكن محصنة كما في رمي الأجنبية لا يختلف موجبهما غير أنهكا يختلفان في المخلص ففي قذف الأجنبي لا يسقط الحمد عن القاذف إلا بإقرار المقذوف أو ببينة تقوم على الزنا وفي قذف الزوجة يسقط عنه الحد بأحد هذين الأمرين أو باللعان وإنما اعتبر الشرع اللعان على هذه الصورة دون الأجنبيات لوجهين : .
الأول : أنه لا معرة عليه في زنا الأجنبية والأولى له الستر عليها أما إذا وقع الزنا على زوجته فيلحقه العار والنسب الفاسد فلا يمكنه الصبر عليه وتوقيفه على البينة كالمعتذر فلا جرم خص الشرع هذه الصورة باللعان .
الثاني : أن الغالب في المتعارف من أحوال الرجل مع امرأته أنه لا يقصدها بالقذف إلا عن حقيقة فإذا رماها نفس الرمي يشهد بكونه صادقا إلا أن شهادة الحال ليست بكاملة قضم إليها ما يقومها من الإيمان كشهادة المرأة لما ضعفت قويت بزيادة العدد والشاهد الواحد يتقوى باليمين على قول كثير من الفقهاء .
إذا نكل الزوج أو الزوجة عن اللعان .
الشافعية والمالكية والحنابلة - قالوا : إذا قذف الزوج زوجته فالواجب هو الحد ولكن المخلص منه باللعان كما أن الواجب في قذف الأجنبية الحد والمخلص منه بالشهود فإذا امتنع الزوج عن اللعان يلزمه الحد للقذف كما قال رسول الله A للأهل بن أمية حين قذف زوجته : ( إما البينة وإما إقامة الحد عليك ) فإذا لاعن الزوج وامتنعت الزوجة عن اللعان يلزمها حد الزنا وإذا صدقته يقام عليها حد الزنا أيضا لأن الزاني يحد عندهم بالإقرار مرة واحدة وإن القرآن الكريم ذكر أن مقتضى قذف الأجنبيات الإتيان بالشهود أو الجلد فكذا موجب قذف الزوجات الإتيان باللعان أو الجلد فكذا موجب قذف الزوجات الإتيان باللعان أو الحد ولإن قوله تعالى : { ويدرأ عنها العذاب } يدل على أنه الحد ثبت أنها لو لم تلاعن لحدت وأنها بالإتيان باللعان دفعت عنها الحد وهو العذاب وكأن المرأة تقول : إن كان الرجل صادقا فحدوني وإن كان كاذبا فخلوني فما بالي والحبس وليس حبسي في كتاب الله تعالى ولا في سنة رسوله ص ولا في إجماع الأمة ولا في القياس .
ولأن الزوج قذفها ولم يأت بالمخرج من شهادة غيره أو شهادة نفسه فوجب عليه الحد لقوله تعالى : { والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم } وإذا ثبت ذلك في حق الرجل ثبت في حق المرأة لأنه لا قائل بالفرق ولأن الرسول صلوات الله وسلامه عليه قال لخولة حينما رماها زوجها بالزنا : ( فالرجم أهون عليك من غضب الله تعالى ) .
الحنفية - قالوا : إذا امتنع الرجل عن اللعان حبس حتى يلاعن لأنه إذا كذب نفسه فيما رماها به من الزنا سقط اللعان وإذا سقط اللعان وجب عليه الحد لأن القذف لا يخلو من موجب فإذا سقط اللعان صرنا إلى حد القذف إذا هو الأصل في الباب .
وإذا لاعن الرجل وجب على المرأة اللعان بنص القرآن الكريم فإذا امتنعت عن اللعان وعن الإقرار حبست حتى تلاعنه أو تصدقه فلا حاجة إلى اللعان ولا يجب عليها حد الزنا لأن من شرطه أن يقر الزاني أربع مرات مثل الشهادة ولأنها ما فقلت شيئا " سوى أنها تركت اللعان وهذا الترك ليس ببينة على الزنا ولا إقرارا منها به فوجب ألا يجوز رجمها لقول الله A : ( لا يحل رجم امرئ إلا بإحدى ثلاث ) الحديث . وإذا لم يجب الرجم إذا كانت محصنة لم يجب الجلد في غير المحصنة لأنه لا قائل بالفرق ولأن النكول ليس بصريح في الإقرار فلم يجز إثبات الحد به كاللفظ المحتمل للزنا ولغيره .
من يصح لعانه .
الشافعية والمالكية والحنابلة - قالوا : من صح يمينه صح لعانه فيجري اللعان بين الحرين والعبدين والعادلين والفاسقين والذميين والمحدودين أو أحدهما رقيقا أو كان الزوج مسلما والمرأة ذمية .
وحجة الأئمة الثلاثة في ذلك قوله تعالى : { والذين يرمون أزواجهم } فهو يتناول الكل ولا معنى للتخصيص ولأن القياس طاهر من وجهين : .
الأول : أن المقصود من اللعان دفع العار عن النفس ومدفع ولد الزنا عن النفس وكما يحتاج غير المحدود - أي العدل - إليه فيجوز له اللعان .
والثاني : أجمعنا على أنه يصح لعان الفاسق والأعمى وإن لم يكونا من أهل الشهادة فكذلك أقول في غيرهما والجامع هو الحاجة إلى دفع عار الزنا .
( يتبع . . . )