وسيأتي أن هذين إنما يقع بهما الثلاث إذ كان العرف جاريا على أن يطلق الرجل بهما وإلا كانت من الكنايات الخفية التي تقدم حكمها .
القسم الثاني : ما يلزم فيه الطلاق الثلاث إذا كانت الزوجة مدخولا بها أما إن كانت غير مدخول بها فإنه يلزمه فيه طلقة واحدة إن لم ينو أكثر وهو ثلاثة أمور : الأول أن يقول لها : أنت طالق واحدة بائنة فإذا قال لها ذلك وكانت مدخولا بها وقع عليه الطلاق الثلاث وذلك لأن البينونة بغير عوض وبغير لفظ الخلع بعد الدخول تنحصر في البينونة الكبرى وهي الطلاق الثلاث أما إذا كانت قبل الدخول أو كانت مقارنة لعوض الخلع فإنها تكون واحدة فإن قلت : إن قوله : أنت طالق واحدة بائنة قد نص فيها على الواحدة فلماذا لا يعامل بها ؟ والجواب : أن لفظ الواحدة تهمل للاحتياط . الثاني : أن يذكر لفظ الطلاق صريحا وينوي به الواحدة البائنة كأن يقول لها : أنت طالق وهو ينوي به واحدة بائنة فإن كانت الزوجة مدخولا بها طلقت منه ثلاثا لأن نية الواحدة البائنة كالنطق بها فإن لم تكن مدخولا بها طلقت واحدة إن لم تكن له نية فإن نوى أكثر عومل بما نواه . الثالث : أن يذكر لفظ كناية خفية ويريد به تطليقها واحدة بائنة كما إذا قال لها : ادخلي الدار ونوى به تطليقها واحدة بائنة فكأنه قال لها : أنت طالق واحدة بائنة فإنه يلزم بذلك الطلاق الثلاث إذا كانت الزوجة مدخولا بها فإن لم تكن مدخولا بها لزمته طلقة واحدة إلا أن ينوي أكثر .
والحاصل أنه إذا صرح بقوله : أنت طالق واحدة بائنة لزمه الثلاث في المدخول بها وواحدة في غير المدخول بها ما لم ينو أكثر وإذا عبر عن معنى هذه الجملة بطلاق صريح كما إذا قال لها : أنت طالق ونوى تطليقها واحدة بائنة فكذلك وكذا إذا عبر عنها بكناية خفية كما إذا قال لها : ادخلي الدار وأراد تطليقها واحدة بائنة أما التعبير عنها بالكناية الظاهرة كما إذا قال لها : خليت سبيلك فإنه لا فائدة فيه وذلك لأن الكناية الظاهرة يلزمه فيها الطلاق الثلاث في المدخول بها وإن لم ينو الواحدة البائنة فإذا قال لامرأته المدخول بها : خليت سبيلك طلقت منه ثلاثا وإن لم ينو الواحدة البائنة وقد يقال : إنه إذا قال لها : خليت سبيلك لا يقع بها الثلاث إلا إذا نوى عدد الثلاث بخلاف ما إذا نوى الواحدة البائنة فإنه يقع بها الثلاث بدون نية عدد وعلى هذا يصح أن يقال : إذا صرح بقوله : أنت طالق واحدة بائنة . أو عبر عنه بطلاق صريح أو بكناية خفية . أو بكناية ظاهرة لزمه الطلاق الثلاث إذا كانت زوجته مدخولا بها ولزمته إذا كانت غير مدخول بها ما لم ينو أكثر . القسم الثالث : من الكنايات الظاهرة ما يلزم به الطلاق الثلاث في المدخول بها وغيرها ولكن في المدخول بها تلزمه الثلاث وإن لك ينو . أو نوى واحدة أو ثنتين أما غير المدخول بها فإنه يلزمه الثلاث إن نوى أو لم ينو شيئا . لأنه من الكنايات الظاهرة التي لا تتوقف على نية .
وذلك في ألفاظ منها أنت كالميتة والدم ولحم الخنزير ومنها وهبتك لأهلك أو وهبتك لنفسك . ومنها أن يقول لها : ما أرجع إليه من أهل الحرام ويريد من الأهل الزوجة أما إذا أراد أقاربه غيرها فإنه يقبل منه ومنها أن يقول لها : أنت خلية . أو برية أو أنا منك خلي أو بري . ومنها أنت بائنة . أو أنا منك بائن فكل هذه الألفاظ يقع بها الطلاق الثلاث في المدخول بها ولو نوى أقل أو لم ينو وفي غير المدخول بها يقبل منه إذا نوى أقل من الثلاث نعم إذا دلت قرينة على أنه لا يريد الطلاق وقال : إنه لم ينو الطلاق فإنه يقبل منه قضاء وإفتاء بيمينه وذلك كما إذا كان يتكلم معها في نظافتها ورائحتها فقال لها : أنت كالميتة والدم ولحم الخنزير وأراد بذلك قذارتها ونتنها أو كان يتكلم معها في حسن الأدب والمعاشرة فقال لها : أنت خلية أو برية أي خالية من الأدب أو بريئة منه أو كانت تتكلم معه في احتياج أبويها إلى خدمتها أو في احتياجها إلى الراحة فقال لها : وهبتك لأهلك أو وهبتك لنفسك . أو طلب منها أن تقرب منه وكان بينهما فرجة وقال لها : أنت بائنة مني أي منفصلة عن ملاصقتي أو نحو ذلك وهذا ما يسميه المالكية بساط اليمين فإذا دل البساط على أنه لا يريد الطلاق فإنه يقبل منه في المدخول بها وغيرها .
هذا ويشترط في وقوع الطلاق بهذه الألفاظ كلها أن يكون العرف جاريا على أن يطلق الناس بها أما إذا كانوا لا يطلقون بهذه العبارات فإنها لا تكون كناية ظاهرة بل تكون من الكنايات الخفية التي لا يقع بها شيء إلا بالنية ومثل هذه الألفاظ حبلك على غاربك التي يقع بها الثلاث في المدخول بها وغيرها فإنه إذا لم يكن عرف الناس جاريا على التطليق بها كما في زماننا لا يقع بها الطلاق إلا بالنية فإذا نوى واحدة لزمته وهكذا كما تقدم . وقد قال المحققون من المالكية : لا يحل للمفتي أن يفتي في الطلاق وغيره من الأحكام المبنية على العوائد والعرف كالمنافع في الإجارة والوصايا والنذر والأيمان إلا بعد أن يعلم عرف أهل البلد أو القبيلة في ذلك الأمر .
وبهذا تعلم أن معظم الكنايات الظاهرة التي قال المالكية إنه يقع الثلاث في المدخول بها بدون نظر إلى نية هي من الكنايات الخفية في زماننا لأنه لم يطلق بها أحد .
القسم الرابع : ما يلزم به الطلاق الثلاث إلا إذا نوى أقل منها في المدخول بها وغيرها وهي أن يقول لها : خليت سبيلك فإذا قال لامرأته ذلك فإنه يلزمه الثلاث إن نوى الثلاث أو لم ينو شيئا أما إذا نوى واحدة أو اثنتين فإنه يلزمه ما نواه سواء دخل بها أو لم يدخل فإذا نوى بقوله : خليت سبيلك طلقة واحدة بائنة في المدخول بها لزمه الثلاث وإن لم ينو الثلاث لما عرفت من أن الواحدة البائنة يلزم بها الثلاث فكذا ما يعبر به عنها أما في غير المدخول بها فإنه يلزمه واحدة كما تقدم .
القسم الخامس : ما يلزم فيه واحدة في المدخول بها وغيرها إلا إذا نوى أكثر وهو اعتدي وفارقتك .
هذا ومن الكنايات الظاهرة التي يلزم فيها الثلاث أنت خالصة أو لست لي على ذمة . وأما عليه السخام فيلزم فيه واحدة إلا أن ينوي أكثر أما نحو عليه الطلاق من فرسه ومن ذراعه فإنه لا يلزم فيه شيء وبعضهم يقول : إن قوله أنت خالصة أو لست لي على ذمة يقع به واحدة بائنة .
الشافعية - قالوا : ألفاظ الكنايات كلها يقع بها الطلاق الذي ينويه الزوج فإذا لم ينو طلاقا لا يلزمه شيء وإذا نوى بها أكثر من واحدة وقع ما نواه ولو قيدها بواحدة كأن قال لها : أنت واحدة ونوى بذلك تطليقها ثنتين أو ثلاث كما تقدم في الصريح فإن الرجل يعامل في الطلاق بنيته لأن الشارع جعل عدد الطلاق منحصرا في ثلاث فما نواه منها يكون في حكم الملفوظ فهو داخل في اللفظ حكما والتقيد بواحدة لا يمنع من دخول المنوي في اللفظ بحيث لا يجعل واحدة صفة لمصدر محذوف تقديره أنت طالق طلقة واحدة . فلا يحتمل الاثنتين أو الثلاث وإنما يجعل حالا من المرأة فكأنه قال لها : أنت طالق حال كونك واحدة أو منفردة عن الزوج وتجعل نيته أكثر من واحدة قرينة على ذلك .
ويشترط في الكناية التي يقع بها الطلاق أن تكون محتملة للطلاق بحيث يكون اللفظ دالا على الفرقة بدون تعسف فليس من الكنايات نحو أغناك الله لأنه يحتمل أغناك الله عني لأني طلقتك ولكن هذا تعسف ومثله اقعدي وقومي وزوديني وأحسن الله عزاءك وكذا علي السخام لا أفعل كذا لأن السخام لا يحتمل الطلاق أما كلي واشربي فقيل : ليست من الكناية ولكن المعتمد أنها من الكناية لأنها تحتمل كلي واشربي مرارة الفراق وقد يقال إن هذا تعسف ظاهر .
أما ألفاظ الكنايات التي تنبئ عن الفراق . فمنها ما يشتمل على حروف الصريح وهي : أطلقتك أنت طالق أنت مطلقة ومنها ما ليس كذلك كأنت خلية أنت برية بتة أي مقطوعة الوصلة بتلة متروكة النكاح بائن اعتدي استبرئي رحمك فإنه يحتمل افعلي ذلك لأني طلقتك وكذا الحقي بأهلك حبلك على غاربك . لا أنده سربك - بفتح السين - وهو الإبل وهو كناية عن أنه لا يهتم بشأنها لأنه طلقها وكذا اعزبي واغربي وقد تقدم تفسيرهما في المذاهب وكذا دعيني - أي لأني طلقتك - ومنها أن يقول لها : أشركتك مع فلانة المطلقة ومنها تجردي أي من الزوج وكذا تزودي أي اخرجي سافري أي لأني طلقتك ومنها أن يقول لها : أنا طالق منك أو بائن . وذلك لأن الزوج وإن لم يصلح لإضافة الطلاق إليه ولكن لما كان محجورا عليه زواج أختها أو التزوج بأكثر من أربعة صح أن يطلق نفسه من هذا القيد فإذا أضاف الطلاق إلى نفسه أو نوى تطليقها فإنه يعمل بنيته فإن لم ينو طلاقها فلا يقع به شيء سواء نوى الطلاق في ذاته أو نوى طلاق نفسه أو لم ينو شيئا وهذا بخلاف ما إذا قال لها : استبرئ رحمي منك أو أنا معتد منك فإنه محال في حقه فلا يقع به طلاقها ومنها أن يقول لها : أعتقتك أو لا ملك لي عليك ونوى طلاقها فإنه يلزمه . ومنها أن يقول لها : الزمي الطريق لك الطلاق عليك الطلاق وهكذا كل لفظ يحتمل الطلاق وغيره فإنه يكون كناية يقع بها ما نواه .
ومن كنايات الطلاق لفظ العتق فإذا قال لزوجته : أعتقتك ونوى به الطلاق لزمه ما نواه وكذلك لفظ الطلاق يستعمل كناية عن العتق فإذا قال لعبده : أنت طالق وأراد به العتق فإنه يصح .
الحنابلة - قالوا : تنقسم الكنايات إلى قسمين : القسم الأول الكنايات الظاهرة وهي الألفاظ الموضوعة للبينونة كما تقدم وهي ست عشرة كناية : .
- 1 - أنت خلية .
- 2 - أنت برية أو بريئة .
- 3 - أنت بائن .
- 4 - أنت بتة .
- 5 - أنت بتلة .
- 6 - أنت حرة .
- 7 - أنت الحرج يعني الحرام والإثم .
- 8 - حبلك على غاربك .
- 9 - تزوجي من شئت .
- 10 - حللت للأزواج .
- 11 - لا سبيل لي عليك .
- 12 - لا سلطان لي عليك .
- 13 - أعتقتك .
- 14 - غطي شعرك .
- 15 - تقنعي .
- 16 - أمرك بيدك .
واختلف فيما يقع بالكناية الظاهرة فقيل : يقع بها الطلاق الثلاث إذا نوى الطلاق سواء نوى واحدة أو أكثر أما إذا لم ينو بها الطلاق فلا يقع شيء وهذا هو المشهور في المتون وقد روي عن علي وابن عمر .
وزيد بن ثابت وابن عباس وأبي هريرة في عدة وقائع وذلك لأن اللفظ يقتضي البينونة بالطلاق فيقع ثلاثا بلا فرق بين المدخول بها وغيرها وقيل يقع به ما نواه كما يقول الشافعية واختار هذا جماعة لما روي من أن ركانة طلق امرأته بقوله : ألبتة فأخبر النبي A فاستحلفه على أنه ما أراد إلا واحدة فحلف فردها له رواه أبو داود وصححه وابن ماجة والترمذي ولكن البخاري قال : إن في هذا الحديث اضطرابا وعلى هذه الرواية إذا نوى الطلاق ولم ينو عددا لا واحدة ولا لأكثر لزمته طلقة واحدة كما إذا نوى واحدة فإذا نوى أكثر لزمه ما نواه وعلى كل حال فيشترط لوقوع الطلاق بالكناية سواء كانت ظاهرة أو خفية - وهي الآتي بيانها في القسم الثاني - شرطان : .
الشرط الأول : أن ينوي بها الطلاق لأن اللفظ يحتمل غير الطلاق فلا يتعين الطلاق إلا بالنية ويقوم مقام النية دلالة الحال كما إذا كانت بينهما خصومة أو كان في حالة غضب أو كان جواب سؤالها الطلاق ففي هذه الحالة يقع الطلاق بالكناية ولو بلا نية لأن دلالة الحال تغير حكم الأقوال والأفعال فإذا ادعى في حال الغضب أو في حال سؤالها الطلاق . أو في حال الخصومة انه لم يرد به الطلاق فإنه لا يسمع منه قضاء ولكن بينه وبين الله لا يقع عليه شيء إن كان صادقا أما في غير هذه الأحوال كما إذا كان في حالة رضا ولم تسأله طلاقها وقال لها : أنت بائن وادعى أنه لم ينو طلاقا فإنه يسمع منه قضاء أيضا لأن النية خفية وقد نوى ما يحتمله اللفظ .
والحاصل أنه لا يقع طلاق بلفظ الكناية إلا بالنية سواء كانت ظاهرة أو خفية ثم إن أمر النية موكول للمطلق قضاء وديانة إلا أنه إذا نوى الطلاق ولم ينو عددا فإنه في الكنايات الظاهرة يقع به الثلاث على المشهور وكذا إذا نوى واحدة أما على القول الثاني وهو أنه لا يقع بالكنايات إلا ما نوى فإنه إذا نوى طلاقا ولم ينو عددا وقعت عليه طلقة واحدة كما إذا نوى واحدة فإذا نوى أكثر وقع ما نواه .
هذا في النية أما في دلالة الحال فإنه لا يقبل دعوة عدم نية الطلاق قضاء ولكن بينه وبين الله يعامل بما نواه .
الشرط الثاني : أن تكون النية مقارنة للفظ الكناية فإذا قال لها : أنت بتة ولم يرد بها طلاقا ثم نوى الطلاق بها بعد انقضاء النطق فإنه لا يقع بها شيء وكذا إذا ترك النية في أول جزء من لفظ الكناية ونوى في الجزء الثاني فإنه لا يقع بها شيء أما إذا نوى في أول جزء وترك النية في الجزء الثاني فإنه يقع .
القسم الثاني : الكناية الخفية لأنها أخفى في دلالتها على الطلاق من الأولى وهي ألفاظ : منها أخرجي اذهبي ذوقي تجرعي خليتك أنت مخلاة أنت واحدة لست لي امرأة اعتدي استبرئي رحمك اعزبي الحقي بأهلك لا حاجة لي فيك ما بقي شيء أعفاك الله أراحك الله مني اختاري جرى القلم . ومنه لفظ الفراق والسراح وما تصرف منهما وكذا طلقك الله بيني وبينك في الدنيا والآخرة وأبرك الله لك .
وحكم هذه أنه إن لم ينو بها الطلاق فلا يلزمه شيء وإن نوى الطلاق ولم ينو عددا لزمه طلاق واحدة وإن نوى واحدة أو أكثر لزمه ما نواه ويشترط في وقوع الطلاق بها الشرطان المتقدمان في الكناية الصريحة )