( تابع . . . 2 ) : - أنكحة غير المسلمين سواء كانوا كتابيين كاليهود والنصارى أو غير .
ومما يوجب العجب العجاب قول بعضهم : أن أبوي النبي A ماتا على الكفر وفي الوقت نفسه يذكرون أن آمنة كانت تحوطها الملائكة الكرام وكان يرى نور النبوة في جبهة عبد الله الخ ما ذكروه فهل المشرك النجس تزفه الملائكة وتخالطه الأرواح الطاهرة ويرى من إرهاصات النبوة ما يفيد انه من أقرب المقربين إلى ربه ؟ وأغرب من هذا قولهم : إن الله تعالى قد أحيا أبوي النبي A فآمنا به وماتا بعد ذلك . ولعل قائل هذا نسي أن قدرة الله كانت صالحة أيضا لأن يهديهما إلى توحيد الإله في حال حياتهما كما هدى زيد بن عمرو بن نفيل وغيره بل يصونهما عن عبادة الأصنام إكراما لنور النبوة الذي أشرق على جميع العالم فأخرجه من الظلمات إلى النور وأيهما أقرب إلى تعلق القدرة هدايتهما قبل الموت أو إحياؤهما لمجرد الإيمان وإماتتهما فورا على أن الإيمان بعد الموت والمعاينة لا معنى له وإذا كان الإيمان في حالة الاحتضار غير مفيد بعد أن يرى الإنسان العذاب ويوقن بما بعد الموت ؟ فإذا قالوا : إن المسألة معجزة للنبي A قلنا : إن المعجزة عند الضرورة . وأي ضرورة في هذا ؟ إذ يكفي أن يغفر الله لهما بدون خرق للنظم . كل هذا كلام لا يصح ذكره في الكتب العلمية ولا المناقشة فيه بل الحق أن أجداد النبي A كانوا موحدين جميعا .
وما نقل عن بعضهم أنه تأثر بعادات قومه لم يكن مشركا مطلقا انظر ما روي عن جده عبد المطلب وهو يضرع إلى الله ويستغيث به من أصحاب الفيل حيث يقول : .
لا هم إن المرء يمنع رحله فامنع رحالك ... وانصر على آل الصليب وعابديه اليوم آلك .
فهل هذا كلام وثني يعبد الصنم أو كلام موحد مخلص لربه ؟ .
والذي أثار مثل هذه الشبهات الفاسدة أمران : أحدهما ما نقل عن أبي حنيفة أن أبوي النبي A ماتا على الكفر . ثانيهما : ما رواه مسلم من أن النبي A قال للأعرابي الذي سأله عن أبيه : " إن أبي وأباك في النار " أما قول أبي حنيفة Bه فإن الذي حمله على ذلك هو تأييد مذهبه من أن أهل الفترة غير ناجين إذا أشركوا مع الله غيره فهم ملزمون بتوحيد الله بعقولهم لأن معرفة الله ثبتت بالعقل لا بالشرع فغير الموحد من أهل الفترة مثل غيره من المشركين الذين جاءتهم الرسل ولا يخفى أن البحث يدور حول هذه المسألة من جهتين : إحداهما هل أهل الفترة ناجون أو لا ثانيتهما : هل ثبت كون آباء النبي A لم يكونوا موحدين أو لا وما طريق الإثبات ؟ ولا يخفى أن الأولى اعتقادية ومعلوم أن العقائد لا تثبت إلا بالقطعي من دليل عقلي أو نقلي والثانية تاريخية .
فأما الأدلة على أن أهل الفترة ناجون فهي قطعية في نظري وذلك لأن الله تعالى قال : { وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا } وحمل الرسول على العقل خروج على الظاهر المعقول بدون ضرورة فإن الرسول إذا أطلق في لسان الشرع كان معناه - الإنسان الذي أوحى إليه بشرع أمر بتبليغه - والقرآن من أوله إلى آخره على هذا قال تعالى : { لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل } { وأرسلنا رسلنا تترى } { جاءتهم رسلهم } { وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه } وهكذا فإذا استطاعوا أن يأتوا بكلمة رسول في القرآن على غير هذا المعنى كان لهم العذر وهذا هو المعقول المطابق لسنن الله في خلقه فإن الله سبحانه قد أرسل الرسل من بدء الخلق إلى أن استقرت وختمت بالشريعة الإسلامية التي لا تقبل الزوال بل جعل الله في طبيعتها ما يجعلها تنمو وتزداد كلما تجدد الزمن وليس من المعقول أن تقول : إن الله أرسل الرسل لتبليغ الشرائع الفرعية وتبليغ أحوال الآخرة فحسب أما معرفة الله الواحد المنزه عن كل ما يليق به فواجبة على الناس بطبيعتهم . فعليهم أن يعرفوا ذلك من غير الرسل وإلا كانوا معذبين لأن هذا القول ينقضه الواقع القطعي فإن أول شيء اهتم به الرسل هو توحيد الإله . بل كان كل همهم منحصرا في توحيد الإله ولولا ما أودعه الله في الرسل من أسرار وقوى مؤثرة فوق طبائع البشر لما وجد على ظهر الأرض موحد اللهم إلا شواذ العالم في الذكاء النادر والفطنة الباهرة أمثال زيد بن عمرو بن نفيل . وقس بن ساعدة وكبار فلاسفة العالم الذين لا يتجاوزون أصابع اليد فهل يعقل أن الله العليم بطبائع عباده يلزمهم بالتوحيد بدون إرسال رسل ؟ إن ذلك يكون قصرا لنعيمه على أفراد قلائل من خلقه وتعذيب الباقين وأين هذا من كرم الله ورحمته بعباده ؟ أين هذا من قوله : { وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا } وقوله : { لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل } أي دليل يخصص الآية الثانية بغير توحيد الإله ؟ فإن الله سبحانه جعل للناس الحجة عند عدم إرسال الرسل سواء كان ذلك في العقائد أو في غيرها ومن الغريب أن مقاومة الرسل ما كانت إلا في توحيد الإله فإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد ولوط وهود وصالح وشعيب وغيرهم لم يضطهدهم قومهم إلا من أجل معرفة الإله وتوحيده ولم يظهر جهادهم إلا في توحيد الإله ومعرفته ونظرة واحدة إلى كتاب الله تبين مقدار عنايته بمحاربة الوثنية فقد ملئ بالأدلة الكونية وضرب الأمثال المحسة والحجج القطعية على وجود الإله ووحدانيته ومع ذلك فقد كانوا من أشد الناس عنادا وإصرارا وغفلة عن الإله ووحدانيته فهل مثل هؤلاء كانت عقولهم كافية في معرفة الإله ؟ .
ولم توجد أمة من الأمم في زمن من الأزمنة على غير هذا المنوال فنظرية أن العقل كاف في معرفة الإله بدون رسل تتصادم مع طبيعة المخلوقات بدون استثناء اللهم إلا إذا قلنا : إن الله خلق الناس أجمعين ليعذبهم ويقصر نعمته على أفراد قلائل لا تتجاوز الأصابع عدا كلا إن الله أرحم من أن يعذب عباده من غير أن يبين لهم طريق الهداية والرشاد .
فالحق أن أهل الفترة ناجون وإن غيروا وعبدوا الأصنام كما يقول الأشاعرة والمالكية وبعض محققي الحنفية كالكمال بن الهمام والماتردية قد اختلفوا أيضا فمنهم من قال : إنهم ناجون ومنهم من اشترط لنجاتهم أن يمضي زمن يمكنهم النظر فيه وأن لا يموتوا وهم مشركون بعد النظر ولما كان الماتردية والحنفية شيئا واحدا فقد أول بعضهم ما ذهب إليه بعض الماتردية من نجاتهم بأنه محمول على ما إذا لم يموتوا وهم مشركون ولا أدري لهذا الحمل معنى لأن المفروض أنهم ناجون بعد موتهم مشركين أما إذا ماتوا موحدين فلا خلاف فيه لأحد فالذي قال من الماتردية : إنهم ناجون لا يريد به إلا نجاتهم بعد موتهم مشركين وإلا كان هازلا لأن من قال : لا إله إلا الله مخلصا دخل الجنة وإن قضى طول عمره مشركا باتفاق المسلمين .
هذا وقد أول بعض علماء الحنفية قوله تعالى : { وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا } بوجه آخر فقال إن المراد بالعذاب الاستئصال في الدنيا فالله تعالى لا يهلك الأمم في الدنيا إلا بعد أن يرسل لهم الرسل فلا يصدقوهم ويضطهدوهم وعند ذلك يهلكهم الله في الدنيا أما عذاب الآخرة فإنه يقع على من مات مشركا ولو لم يرسل الله لهم رسولا .
ولكن الواقع أن الآية تدل على عكس ذلك على خط مستقيم وإليك البيان : .
قال تعالى : { من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا } فالله سبحانه قصر هداية الشخص وضلاله على نفسه وظاهر أن المراد قصر ما يترتب عليهما من نفع وضرر فكل ما يترتب على هداية المرء من منفعة وكل ما يترتب على ضلاله من ضرر مقصور عليه وحده : وإذا كان كذلك فهل يتحقق هذا المعنى في الدنيا فقط . أو في الآخرة فقط . أو فيهما معا ؟ أما أنا فلا أفهم إلا أنه يتحقق في الآخرة فقط وذلك لأن منافع هداية الناس واستقامتهم ليست مقصورة عليهم وحدهم في الدنيا بل تتعداهم إلى أبنائهم وأهليهم وعشيرتهم بل وتتعداهم إلى المجتمع وهذا واضح وكذلك مضار الضلال ليست مقصورة على الضالين فقط . فكم صرع المضلون غيرهم وأوردوهم موارد الهلاك و الفناء . وشر الضلال في تربية الأبناء والأهل وآثاره ظاهرة في المجتمع وكذلك إذا قصرنا المنافع على ما يسوقه الله تعالى من خير وشر فإن الخير الذي يجيء بسبب الصالحين لا يقتصر عليهم بل يعم غيرهم والسنة الصحيحة مملوءة بهذا والشر الذي ينزل بسبب الضالين لا يقتصر عليهم ولهذا قال تعالى : { اتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة } .
وحينئذ لا يفهم من الآية غلا أن المراد بالمنافع الثواب الأخروي وبالمضار العذاب الأخروي ولذا قال تعالى : { ولا تزر وازرة وزر أخرى } بيانا لمعنى القصر المذكور فهو سبحانه يقول : كل واحد ينال جزاء عمله من خير أو شر قال تعالى : { فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره } فلا يعطى أحد ثواب عمل الآخر ولا يحمل أحد عقاب وزر صاحبه وكل هذا في الآخرة بدون نزاع أما في الدنيا فإن صلاحها من أجل الصالحين يفيد غيرهم من الفاسقين والكافرين وفسادها بالخراب يؤذي أهلها سواء كانوا صالحين أو فاسدين .
وبعد أن قرر الله ذلك أراد أن يظهر منته على عباده فقال D : { وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا } فلا يؤاخذ الله الناس بضلالهم ولا يعذبهم في الآخرة على عقائدهم وأقوالهم وأعمالهم التي لا يرضاها إلا بعد أن يرسل رسلا { لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل } فإن لهم أن يقولوا : إننا لا نعلم أن هذه العقائد أو هذه الأقوال والأعمال لا ترضيك فتكون لهم المعذرة ولا يكون لله عليهم الحجة البالغة ولا يمكن أيضا قصر رفع العذاب عنهم على الأقوال والأعمال بحيث لا يعذبون عليها هي أما معرفة الله تعالى وتوحيده فإنهم يعذبون عليها وذلك لأن هذا لا دليل عليه مطلقا بل الدليل قائم على خلافه وهو كلمة الضلال فإن الله دائما يصف المشركين بالضالين من أجل الشرك وعبادة الأوثان أما أعمالهم الفرعية من معاملات ونحوها فقل أن يعرض لها إلا على طريق التهذيب والتأنيب انظر مثلا إلى ما كانوا عليه من فساد في مسألة الأنكحة وغيرها فلما أراد الله أن يهذبهم شرع لهم بعد إسلامهم ما فيه سعادتهم فأقرأ قوله تعالى : { ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصنا } وقوله : { لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى } وآية الدين . وآية المواريث . والوصية . والعدة . وإباحة النساء الأربع دون سواها . والصيام . والصلاة . والحج فإن كل هذا جاء بعد الإسلام ولم يكن محل نزاع بين المشركين وبين الرسل بل كل النزاع كان مقصورا على التوحيد فالضلال المذكور في الآية من ضلال الشرك وعدم معرفة الإله فهؤلاء الضالون لا يعذبهم الله إلا إذا أرسل لهم رسولا بلا نزاع .
وبعد فلم يثبت أن آباء النبي كانوا مشركين بل ثبت أنهم كانوا موحدين فهم أطهار مقربون ولا يجوز أن يقال : إن أبوي النبي صلى الله وعليه وسلم كافران على أي حال بل هما في أعلى فراديس الجنات .
أما الكلام في حديث مسلم فقد عرفت أن المالكية والأشاعرة قد احتجوا بقوله تعالى { وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا } وظاهر اللغة والعرف والسياق تفيد أن الرسول هو الإنسان الذي يوحى إليه من عند الله تعالى ويؤمر بالتبليغ فتأويله بالعقل تعسف واضح ومتى نطق كتاب الله بأمر يؤيده العقل وجب تأويل الأحاديث التي تخالفه إذا أمكن تأويلها وإلا وجب العمل بما يقتضيه كتاب الله تعالى .
وحديث مسلم هذا يمكن تأويله وهو أن المراد بأبي النبي صلى الله وعليه وسلم أبو لهب فإن الله تعالى قد أخبر أنه في النار قطعا والأب يطلق في اللغة على العم ويؤيد هذا التأويل نص الحديث وهو : " أن رجلا قال : يا رسول الله أين أبي ؟ قال : في النار فلما قفا دعاه فقال : إن أبي وأباك في النار " فظاهر هذا يفيد أن أحد المسلمين سأل عن مقر أبيه الذي مات مشركا ولم يجب دعوة النبي صلى الله وعليه وسلم فقال له النبي صلى الله وعليه وسلم : " إنه في النار " فظهر على وجه الرجل طبعا أمارة الحزن والأسف فولى آسفا فأراد صلى الله وعليه وسلم أن يزيل ما علق بنفس الرجل من أسى فاستدعاه ثانيا وقال له : " إن أبي وأباك في النار " ومعنى هذا أنه إذا كان أبوك في النار لأنه لم يؤمن بي فلا تجزع لأن أبي أنا وأنا رسول الله في النار لأنه لم يؤمن بي وهو أبو لهب طبعا فإن الله تعالى قد أخبر نبيه بأنه لم يؤمن فهو من أهل النار حتما .
وأظن أن هذا المعنى لا تكلف فيه ولا تعسف بل هو الظاهر المعقول لأن كون النبي A يخبر بأن أبويه في النار وهما لم يعارضاه في دعوته ولم يرفضا ما جاء به لا فائدة فيه للناس إذ لا زجر فيه لأحد وإنما الذي يصح أن يزجر الناس كون أبي لهب المعارض للدعوة في النار .
والحاصل أن الأحاديث الواردة في مثل هذا المقام يجب أن تحمل على نحو ما ذكرنا ومن لم يستطع تأويلها وقف معها موقف المفوض الذي عجز عن التأويل وعمل بما يقتضيه ظاهر كتاب الله تعالى المؤيد بالعقل والله يهدي إلى سواء السبيل .
هذا وقد ذكرنا هذا الكلام في مذهب المالكية مع أن الحنفية تعرضوا له في مذهبهم لأن رأينا في هذا المقام أن أهل الفترة ناجون جميعا وإن غيروا وبدلوا كما يقول المالكية على أن المالكية ليسوا في حاجة إلى إيراد هذا في المقام لأنك قد عرفت أن الصحيح عندهم هو أن عقود غير المسلمين تكون صحيحة متى وافقت قواعد الإسلام وإن كانوا كافرين فلا خلاف بينهم وبين غيرهم على الصحيح فلنرجع إلى ما كنا فيه .
( يتبع . . . )