أما القرآن الكريم فمنه قوله تعالى : { فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن إذا تراضوا بينهم بالمعروف } ووجه الدلالة في الآية أن الله تعالى يخاطب أولياء النساء فينهاهم عن منعهن من الزواج بمن يرضينه لأنفسهن زوجا فلو لم يكن لهؤلاء الأولياء حق المنع لما كان لخطابهم بمثل هذا وجه لأنه كان يكفي أن يقول للنساء : إذا منعتن من الزواج فزوجوا أنفسكن .
وقد نقل عن الشافعي Bه أنه قال : إن هذه الآية أصرح آية في الدلالة على ضرورة الولي . ولكن الحنفية قد أجابوا عن هذا بجوابين الجواب الأول منع كون الآية خطابا للأولياء بل هي تحتمل أن تكون خطابا للأزواج الذين يطلقون أزواجهم وتحتمل أن تكون خطابا للمؤمنين عامة .
أما الأول فهو الظاهر المتبادل من لفظ الآية الكريمة فهو سبحانه يقول لمن يطلقون نساءهم : إذا طلقتم النساء فلا تستعملوا معهن الوسائل الظالمة التي يترتب عليها منعهن من الزواج بغيركم كأن تهددوها هي أو من يريد تزوجها بقوتكم أو جاهكم وسلطانكم أو نفوذكم إن كان لكم ذلك أو تحاولوا تنقيصها والحط من كرامتها فتنفروا منها خطيبها الذي سيكون زوجا لها أو تؤثروا عليه أو عليها من أي ناحية من النواحي كأن تمنعوها من حقوقها المالية إن كان لها عندكم حق أو نحو ذلك .
وأما الثاني فمعناه إذا طلقتم النساء أيها المؤمنون وأصبحن خاليات من الأزواج والعدة فلا يصح أن يقع بينكم عضلهن ومنعهن من الأزواج سواء كان ذلك المنع من قريب أو من ذي جاه ونفوذ عليها فيفترض عليكم فرض كفاية أن تمنعوا وقوعه فيما بينكم بنهي فاعله والضرب على يده وإلا كنتم مشتركين معه في الإثم لأن عضل المرأة من الزواج منكر حرمه الله تعالى والنهي عن المنكر فرض على المؤمنين وإزالته لازمة على كل قادر حكما كان أو غيره .
ولا تعارض بين هذا الذي ذكرناه وبين ما رواه البخاري من أن الآية نزلت في معقل بن يسار حيث كان قد زوج أخته لرجل فطلقها زوجها ثم أراد الرجوع إليها ثانيا فأبى أخوها معقل أن تعود إليه مع كونها راغبة فيه فلما نزلت زوجها إياه لأنه يحتمل أن تكون حادثة معقل صادفت نزول الآية و لكن الآية في ذاتها عامة على الوجه الذي بيناه . ونظير ذلك ما قاله المفسرون في قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا } [ سورة الحجرات ] إذ قال الفخر الرازي - وهو شافعي - : إن الآية عامة ولكنها صادفت حادثة الوليد المشهورة ومع ذلك فإذا سلم أن الآية نزلت في حادثة أخت معقل بخصوصها فإن الخطاب فيها يجب أن يكون عاما لكل من يعضل النساء سواء كان وليا أو غيره فليست مقصورة على الأولياء بلا نزاع .
الجواب الثاني : تسليم أن الآية خطاب لمعقل وغيره من أقارب المرأة بخصوصهم . ولكن ليس في الآية ما يدل على أن لهم حق الولاية على النساء مطلقا وإنما تدل على أن من منع منه النساء من التزوج فهو آثم لا حق له في هذا وهذا المنع لا يلزم أن يكون مترتبا على الولاية بل هو ظاهر في أنه مترتب على ضعف النساء وعدم قدرتهن على استعمال حقهن . وبيان ذلك أن المرأة تستكين عادة لمن يكفلها أو لعاصبها القريب من أب أو أخ فتفنى إرادتها في إرادته خصوصا في هذا الباب الذي يغلب فيه الحياء على معظم النسوة المتربيات فلا ترى المرأة لها حقا مع كافلها أو عاصبها فتتنازل لهما عن استعمال حقها وهي مكرهة فالآية الكريمة تفيد أنه لا يصلح للرجال أن يستغلوا هذا الضعف فيسلبوا النساء حقوقهن الطبيعية في التزوج بالكفء الذي يرغبن فيه وهذا يتضمن أن للمرأة الحرية في اختيار الكفء الذي تريده زوجا لأن النهي عن منعها من الزواج يتضمن إباحة الحرية لها في الاختيار بلا نزاع على أن قوله تعالى : { فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن } فيه دلالة على صحة عقد الزواج إذا باشرته المرأة فإنه قال : { أن ينكحن } أي يتزوجن بعبارتهن ولو كانت عبارة النساء لا تنفع فيعقد الزواج لقال : فلا تعضلوهن أن تنكحوهن أزواجهن .
الحاصل أن الآية إذا كانت خطابا للأقرباء بخصوصهم يكون معناها لا تنتهزوا أيها الأقرباء فرصة كفالتكم للنساء وضعفهن فتسلبوا منهن حقهن الطبيعي في اختيار الزوج الكفء ومباشرتهن الزواج فتتحكموا فيهن وتمنعوهن من استعمال ذلك الحق وليس في هذا المعنى أية دلالة على أن لهم حق الولاية عليها .
وقد يقال : إذا كان اختيار الزوج والعقد عليه حقا للمرأة فلماذا لم يقل لهن تعالى : زوجن أنفسكن واستعملن حقكن فخطابه للأقرباء بقوله : { فلا تعضلوهن } دليل على أنهم أصحاب الحق في ذلك لا النساء ؟ والجواب أن خطاب الأولياء بهذا يدل على معنى دقيق جليل وهو ضرورة احترام الرابطة بين النساء وبين أهليهن الكافلين لهن فإذا تنازلت الواحدة منهن عن حقها في هذا الموضوع احتراما لرغبة أبيها أو أخيها أو نحوهما خوفا من حدوث تصدع في رابطة القرابة فإنه يكون حسنا يقره الله تعالى وفي هذه الحالة لا يصلح أن يقال للنساء : استعملن حقكن واخرجن عن طاعة أوليائكن فتنقطع بذلك روابط المودة وإنما كمال البلاغة وجمال الأسلوب أن يقال للأولياء : لا تستغلوا هذه الحالة فتتمادوا في سلب حقوقهن للنهاية والنتيجة المترتبة على الخطابين واحدة فإن الغرض أن لا تمنع المرأة من التزوج بمن ترغب فيه متى كان كفأ صالحا .
ومما لا ريب فيه أن لهذين الرأيين علاقة شديدة بالحالة الاجتماعية في كل زمان ومكان فالذين يحجرون على المرأة في عقد الزواج يرون أن النساء مهما قيل في تهذيبهن فإن فيهن جهة ضعف طبيعية بارزة وهي خضوعهن للرجال وتأثرهن بهم فقد تنسى المرأة عظمتها ومجدها وفضلها وتندفع في ميلها الشهوي وراء من لا يساوي شراك نعلها وربما تجرها عاطفتها إلى التسليم لخادمها ومن دونه وبديهي أن هذه الحالة ضررها لا يقتصر على المرأة فحسب بل يتعداها إلى الأسرة بتمامها لأنهم يتعيرون بإدخال عنصر أجنبي فيهم لا يدانيهم في نسبهم ولا حسبهم وربما جر ذلك إلى مأساة محزنة فمن الواجب أن يوكل أمر اختيار الزوج للأولياء الذين يستطيعون أن يختاروا ما فيه خير المرأة وخير الأسرة مع صيانتها واحترامها ومع هذا فإنه لا بد من رضاء المرأة في بعض الأحوال قبل أن يبرم الولي عقدها وغير ذلك يكون اندفاعا مع عاطفة ضعيفة يمكن التأثير عليها بوسائل مختلفة فيترتب على ذلك شقاء المرأة وتعاسة حظها وهدم الأسرة وانحطاط كرامتها .
أما الحنفية الذين لا يرون الحجر على المرأة العاقلة البالغة فإنهم يقولون : إن قواعد الدين الإسلامي تقتضي أمرين : .
الأول إطلاق الحرية لكل عاقل رشيد من ذكر أو أنثى في تصرفه .
رفع ما عساه أن يحدث من أضرار بسبب هذه التصرفات وكلا الأمرين لازم لا بد منه للحياة الاجتماعية فالحجر على الرشيدة في أمر زواجها ينافي قواعد الإسلام العامة فلو جعل أمر زواجها منوطا بالولي كان حجرا بدون موجب خصوصا في حالة تزويجها بدون أخذ رأيها مطلقا وهي بكر رشيدة فإن ذلك لا يلتقي مع قواعد الدين في شيء وربما كان ضارا في كثير من الأحيان إذ قد يكون الولي غير أب أو أخ شقيق ولم تكن علاقته بالمرأة ودية فيتعمد معاكستها والوقوف في سبيلها بحرمانها من الكفء المناسب وليس من السهل على المرأة إثبات العضل والشكوى للحاكم بل ربما جر انحيازها للخاطب وشكواها للحاكم إلى عداء الأسرة ويترتب عليه مأساة لا حد لها وهذا كثير واقع لا يمكن الإغضاء عنه في التشريع الإسلامي المشهور بدقته وجلاله فيجب أن يناط أمر زواجها بها بشرط أن تتصرف تصرف العقلاء فلا تندفع في سبيل شهوة فاسدة فتقع على غير الكفء . فإنها إن فعلت ذلك كانت جديرة بالحجر عليها . وكان لوليها حق الاعتراض وفسخ العقد . ثم إن لها الحق في أن تكل أمر تزويجها لمن تشاء . فإذا كان لها أب أو أخ أو نحوهما من الأقربين الذين يشفقون عليها ويؤثرون راحتها ويتمنون لها السعادة كان من اللائق المقبول أن تفوض لهم وتترك لهم حقها ليتصرفوا في أمر زواجها كما يحبون . فلا تخرج عن إرادتهم ولا تحاول إحراجهم بما لا ينفعها بل يضرها بفقد عطفهم عليها .
عندي أن كلا الرأيين لازم للحياة الاجتماعية وأن اختلاف وجهة نظر الأئمة رضوان الله عليهم في فهم الشريعة الإسلامية وتطبيقها يدل على أنها شريعة خالدة حقا وأنها صالحة لكل زمان ومكان . فلا تقف في سبيلها مظلمة لفرد أو جماعة . ولا يتأذى بها أحد . فإذا ترتب على أحد الرأيين مشقة في وقت من الأوقات أو زمن من الأزمنة وجب المصير إلى الرأي الآخر . فكلا الرأيين حسن والعمل به مقبول معقول والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم .
وبعد فهذا نموذج من البحث في الأدلة الشرعية سنتبعه إن شاء الله ببحث في المسائل العامة . إذ لو جرينا على نمطه في كل مسألة لطال بنا المقال . ونخرج عن موضوعنا كما لا يخفى