قد علمت مما تقدم أنه يشترط لصحة البيع أن يكون المبيع والثمن معلومين للبائع والمشتري فلا يصح بيع المجهول جهالة تفضي إلى التنازع بين المتبايعين وغرض الشريعة السمحة من ذلك حسن جميل لأنها إنما تريد القضاء على تفشي الخصومات ما بين الناس وقطع التنازع والشقاق من بينهم . فلهذا قضت بفساد عقود البيع التي من شأنها إثارة التنازع والخصومات وهذا القدر متفق عليه بين أئمة المذاهب الأربعة كما تقدم في شرائط البيع ولكنهم قد اختلفوا في بعض الصور التي لم يكن المبيع فيها واضحا من جميع جهاته والتي يكون فيها المبيع مجهولا ولكن يمكن القضاء على التنازع بسبب آخر ومن ذلك بيع الغائب المقترن بخيار الرؤية فإن معظمهم على صحته على تفصيل موضح في أسفل الصحيفة ( الشافعية - قالوا : لا يصح بيع الغائب عند رؤية العائدين أو أحدهما سواء كان المبيع غائبا عن مجلس العقد رأسا أو موجودا به ولكنه مستتر لم يظهر لهما ولا فرق في ذلك بين أن يوصف بصفة نبين جنسه كأن يقول : بعتك إردبا من القمح الهندي أو القمح البلدي أو لا كأن يقول : بعتك إردبا من القمح ولم يذكر أنه هندي أو بلدي فإنه ما دام غائبا عن ريتهما فإن بيعه لا يصح عل أي حال وهذا القول هو الأظهر عندهم . وهناك قول آخر خلاف الأظهر وهو أن يصح بيع الغائب إن علم جنسه بوصف يبينه كما في المثال الأول والقول الثاني موافق لما ذهب إليه الأئمة الثلاثة من صحة بيع الغائب المعلوم جنسه بالوصف على أن يكون للمشتري الخيار في رده عند رؤيته كما ستعرفه من التفصيل الآتي .
ورؤية المبيع عند الشافعية تكفي عن شمه وذوقه فيما يذاق ويشم كالعسل والسمن والفاكهة ونحو ذلك فإن بيعها يصح من غير ذوق وشم اكتفاء برؤيتها فإذا ما وجد بها عيبا كان له الخيار في ردها . وكذلك يكتفي برؤية المبيع عن معرفة عدده أو وزنه أو كيله أو ذرعه فلو قال : بعتك هذه الصبرة " الكومة " من القمح مثلا وهو يجهل كيلها فإن بيعها يصح متى عاينها لأنه يمكنه بمعاينتها أن يعرف قدرها بالحدس والتخمين وهذا كاف في صحة البيع على أنه إذا كان يعتقد اعتقادا جازما بأنها موضوعة على أرض مستوية فظهر أنها موضوعة على أرض بعضها مرتفع وبعضها منخفض فاغترفي ذلك في تقديرها فإن البيع يكون فاسدا أما إن كان لا يعتقد ذلك ولكنه يظن فإن البيع يصح ويكون له الخيار في ردها . على أن بيع الصبرة بدون كيل مكروه لأن الحدس والتخمين فيها لا يكون صحيحا غالبا فقد يقدر أنها عشرة " كيلات " فيظهر أنها ستة لتراكم بعضها على بعض . أما المذروع والموزون والمعدود فإنه يصح شراؤه بالرؤية وإن لم يعرف عدده ووزنه بدون كراهة .
ولا يشترط في رؤية المبيع أن تكون حاصلة عند العقد بل تكفي رؤيته قبل العقد بشرط أن يكون مما يبقى على حاله فلا يتغير عند العقد وذلك كبيع الأرض والآنية والحديد والنحاس ونحو ذلك مما لا يتغير فإذا رآه ثم اشتراه بعد زمن من غير أن يراه مرة أخرى فإنه يصخ أما إذا كان مما لا يبقى على حاله كالفاكهة والطعام الذي يسرع فساده فإنه إذا رآه شراءه بعد مضي زمن يتغير فيه مثله غالبا فإنه لا يصح .
وكذلك لا يشترط رؤية جميع المبيع إن كانت رؤية بعضه تدل على الباقي فإذا أراد أن يشتري عشرين إردبا من القمح من جرن واحد ورأى بعضها صح لأن رؤية بعضها يدل على باقيها . وهذا معروف بالشراء على العينة إذا يقول المشتري للبائع : أرني عينة القمح الذي عندك أو الشعير أو الذرة فيأتي له ببعض منها فيشتري على رؤيته ويسميه الفقهاء بالنموذج - بتشديد النون وفتحها - ويشترط في صحة البيع على العينة أن يكون البيع متساوي الأجزاء وأن يقول البائع للمشتري : بعتك القمح الذي عندي مثلا مع العينة فلو أعطى له العينة من غير بيع وباعه ما عنده دونها لم يصح لأ المشتري في هذه الحالة لم ير شيئا من المبيع . وكذلك إذا باعه العينة وحدها وباعه ما عنده وحده فإنه لا يصح لأن المشتري في هذه الحالة يكون قد اشترى ما لم يره لا هو ولا بعضه وإذا كان المبيع مغطى بقشرة تستر ما ينتفع به منه فإن له أحوالا : .
الحالة الأولى : أن يكون له قشرتان طبيعيتان قشرة تلاصق جسمه الذي يؤكل أو ينتفع به وقشرة فوقها وذلك كالبندق واللوز والقصب وفي هذه الحالة إن كانت القشرة التي من فوق تستر القشرة التي تليها كلها فإن المبيع حينئذ لا يكون مرئيا أما إن كانت القشرة التي من فوق لا تستر القشرة التي تليها كلها كالقصب فإنه قشرته العليا لا تستر كعوبه كلها فإنه يكون مرئيا لأن رؤية البعض تدل على رؤية الباقي ويكتفي برؤية القشرة التي تلاصق الجسم كلها أو بعضها بشرط أن تكون القشرة حافظة لبقائه بحيث لو نزعت لم يمكن ادخاره وإذا كان له قشرتان كذلك ولكن القشرة التي تلاصق الجسم لم تنعقد كالفول الأخضر فإنه يكتفي برؤية القشرة العليا في هذه الحالة لأن القشرة التي لم تنعقد تؤكل مع الجسم فكأن له قشرة واحدة .
الحالة الثانية : أن يكون له قشرة طبيعية ولكن لا يتوقف عليها صيانته وبقاؤه كالدر في صدفه فإن ادخاره وحفظه لا يتوقف على وجوده في الصدف ومثله المسك في فأرته فإنه لا يتوقف بقاؤه على وجوده فيها . فإن مثل ذلك لا يصح بيعه إلا إذا أخرج من قشره . ولا يرد على هذا القطن في قشره فإن قشره حافظ له من الفساد ومع ذلك لا يصح بيعه قبل تفتحه فإن عدم صحته أتى من كونه لم يبد صلاحه .
الحالة الثالثة : أن تكون له قشرة صناعية وتحت هذه صورتان : الصورة الأولى : أن يكون ما في داخل القشرة مقصود لذاته كالقطن في اللحاف والمرتبة فإنه قد يقصد شراءه بدون قشرته وحكم هذه الصورة : أنه لا بد من رؤيته كله أو بعضه على الراجح .
الصورة الثانية : أن لا يكون ما في داخل القشرة مقصودا كالجبه المبطنة بالقطن ونحوه وفي هذه الصورة لا يلزم رؤية حشوها لأنه ليس مقصودا بالشراء ويجوز شراء الفقاع بدون رؤيته وهو شراب يؤخذ من الزبيب ويوضع في كيزان " علب " تسامحا لأن وجوده في العلب مسدودا عليه لمصلحته ومثله " المربة " ونحوها .
وإذ قد علمت أن رؤية بعض المبيع الدالة على الباقي كافية فإنك تعلم أن ذلك يختلف باختلاف أحوال المبيع فإذا اشترى دارا فإنه لا يكفي أن يرى ظاهرها أو ساحتها لأن رؤية ذلك لا يدل على باقيها . فلا بد له أن يرى جميع مرافقها من حجر ودورة مياه وسقوف وسطوح وجدران الخ . وإذا اشترى بستانا فإنه لا يكفي في رؤيته معرفة حدوده ومساحته بل لا بد من أن يرى أشجاره وجدرانه ومجاري المياه التي يسقى منها وإذا اشترى دابة فإنه لا يكفي رؤية بعضها بل لا بد من رؤيتها كلها . نعم لا يشترط أن يرى أسنانها ولسانها . وإذا اشترى ثوبا فإنه لا يكون مرئيا له إلا إذا نشره حتى ينظر إلى جميع مافيه وإذا كان منقوضا فإنه لا يكون مرئيا إلا إذا قلبه وهكذا في كل شيء مختلف الأجزاء فإن رؤية بعضه لا تدل على رؤية الباقي فإذا بيع في هذه الحالة لا يصح لعدم رؤيته .
الحنفية - قالوا : لا يصح بيع الغائب الذي لم يره العاقدان سواء كان موجودا بمجلس العقد أو لا وإنما يصح بشرطين : الأول : أن يكون المبيع مملوكا للبائع . الثاني : أن يبينه بما يرفع الجهالة الفاحشة عنه فإن كان حاضرا بالمجلس ولكنه مستتر عن نظر المشتري فينبغي بيانه بالإشارة إليه كأن يقول له : بعتك الحيوان الموجود في كمي أو بعتك ما في هذا الصندوق وإن كان غائبا عن المجلس فينبغي أنه يبينه إما بالإشارة إلى مكانه أو بوصفه أو بإضافته أو بذكر حدوده مثال الأول أن يقول : بعتك الحيوان الموجود في الدار الفلاني وليس في الدار سوى هذا الحيوان والدار معروفة للمشتري . ومثال الثاني : بعتك اردبا من القمح الهندي أو المصري بكذا وهذا يجب فيه ذكر القدر كالاردب والكيلة ومثله كل مكيل أو موزون أو معدود أو مذروع فإنه ينبغي أن يبين قدره ويصفه بوصف يبين جنسه . ومثال الثالث أن يضيفه إلى نفسه كأن يقول : بعتك جملي وليس له جمل سواه . ومثال الرابع أن يقول : بعتك الأرض المحدودة بحدود كذا .
فيصح بيع الغائب المملوك إذا بين ما يرفع الجهالة الفاحشة كما ذكرنا ولا تضر جهالته اليسيرة لأنها ترتفع بخيار الرؤية لأنه إذا اشتراه على هذه الصفة كان له الخيار في إمضاء العقد ورده عند رؤيته بدون أن يشترط ذلك لأن خيار الرؤية يثبت بغير شرط . أما إذا باع شيئا ولم يصفه ولم يكن مرئيا للمشتري كأن كان حاضرا في المجلس ولكنه مستتر كالحنطة الموجودة في الكيس " الزكيبة " ولم يشر البائع إليها فإنه يكون فاسدا على الصحيح وصحح بعضهم جوازه ولكن المعتمد الأول .
وإذا ورث شخص عينا فباعها قبل رؤيتها فإنه لا خيار له لأن البائع لا خيار له في بيع ما لم يره بالإجماع السكوتي لأنه وقع الحكم به في محضر من الصحابة ولم يرو عن واحد منهم خلافه .
ويثبت خيار الرؤية في أربعة مواضع : الأول : الأعيان اللازم تعيينها بحيث لا تكون دينا في الذمة كما إذا اشترى مقدارا معينا من الحنطة غائبا عنه على أن يستلمه . أما إذا اشتراه على أن يكون دينا في ذمة البائع فإنه لا يقبت فيه خيار الرؤية لأنه يكون مسلما وليس في المسلم فيه خيار رؤية .
نعم إذا كان رأس مال المسلم " الثمن " عينا فإنه يثبت فيه خيار الرؤية للمسلم إليه " البائع " أما الأثمان الخالصة " الدراهم والدنانير " فإنه لا يثبت فيها خيار الرؤية وإذا كان المبيع إناء من أحد النقدين فإنه يثبت فيه خيار الرؤية .
الثاني : الإجارة : فإذا استأجر أرضا محدودة لم يرها كان له الخيار في ردها عند رؤيتها .
الثالث : القسمة : فإذا كان شريكا لآخر في عين فاقتسمها معه ولم يرها كان له خيار الرد عند رؤيتها ولكن لا يثبت خيار الرؤية في قسمة ذوات الأمثال كالمكيلات والموزونات فلو اقتسما حنطة موصوفة بدون رؤية في ما عدا ذلك من الأجناس المختلفة والأشياء التي من نوع واحد غير مثلي كالثياب المتحد نوعها والبقر فقط . الرابع : الصلح عن دعوى المال على شيء معين فإذا ادعى شخص أن له عند آخر مالا فاصطلح معه على أن يعطيه عينا لم يرها كان له الخيار في ردها عند رؤيتها .
ويسقط خيار الرؤية بأمور : أن يحدث في المبيع وهو في يد المشتري فإنه لا يكون له حينئذ الحق في رده بخيار الرؤية . ثانيا أن يتعذر رده بإحداث تغيير فيه " المبيع " كما إذا مزق ثوبا ليخيطه ثالثا : أن يتصرف فيه تصرفا غير قابل للفسخ كالإعتاق رابعا : أن يتصرف فيه تصرفا يوجب حقا للغير كأن يرهنه فإذا اشترى شيئا لم يره ثم رهنه سقط حقه في الخيار سواء كان ذلك التصرف قبل رؤية المبيع أو بعده وكذلك إذا باعه بيعا باتا بدون أن يشترط لنفسه " البائع " الخيار أو أجره كذلك فإن ذلك يسقط حقه في الرد قبل رؤية المبيع أو بعدها . خامسا : أن يتصرف فيه تصرفا لا يوجب حقا للغير ولكن بشرط أن يكون ذلك التصرف بعد رؤية المبيع لا قبلها مثال ذلك : أن يشترط سلعة لم يرها ثم يبيعها على أن يكون له " البائع " الخيار فإن كان ذلك بعد رؤيتها سقط حقه في خيار الرؤية وإن كان قبل رؤيتها لم يسقط حقه ومثل ذلك ما إذا عرض تلك السلعة على البيع أو وهبها لأحد ولم يسلمها له فإن كان ذلك قبل رؤيتها فإن حقه في الرد بخيار الرؤية لا يسقط أما إذا كان بعد رؤيته فإنه يسقط بذلك إذا اشترى أرضا لم يرها وكان بجوارها أرض للغير فأخذها بالشفعة فإن خياره يسقط بذلك بعد الرؤية لا قبلها سادسا : أن يقبض المبيع بعد رؤيته . سابعا : أن يدفع الثمن بعد رؤيته أيضا ثامنا : أن يرسل رسوله ليحمله إلى داره فإن خياره يبطل ما دام في داره فإذا أعاده إلى دار المشتري عاد حقه في الخيار . تاسعا إذا اشترى أرضا لم يرها ثم أعارها لآخر فزرعها المستعير أو اشترى أثوابا فلبس واحدا منها فإن خياره يبطل في الجميع .
وبالجملة فكل ما يبطل خيار الشرط يبطل خيار الرؤية إلا الأشياء التي لا تبطل خيار الرؤية قبل رؤية المبيع بالخيار وعرض المبيع على البيع والهبة بلا تسليم فإنها تبطل شرط الخيار ولا تبطل خيار الرؤية .
هذا ولا يتأفت خيار الرؤية بوقت فإذا رآه ثم مضت مدة بعد رؤيته يتمكن فيها من فسخ العقد ولم يفسخه فإن خياره لا يسقط على الأصح .
وينفسخ البيع بخيار الرؤية بقول المشتري : ردت ولكن يشترط لصحة الرد أن يعلم البائع بذلك سواء رضي أو لم يرض ولا يتوقف الرد على القضاء ولا يمنع الخيار الملك للمشتري فإذا تصرف فيه على الوجه المتقدم جاز تصرفه وبطل خياره ولزمه الثمن وكذا إذا هلك في يده أو تعذر عليه رده كما تقدم .
ورؤية البعض الدالة على الباقي كافية فإذا رأى بعض المبيع قبل العقد فحصل له بتلك الرؤية العلم بباقي المبيع لا يكون له حق خيار الرؤية لأنه يكون قد اشترى ما قد رآه في هذه الحالة . وإنما تكفي رؤية البعض إذا كان المبيع متساوي الأجزاء كأن كان مكيلا أو موزونا . فإذا رأى المشتري نموذج القمح " عينته " أو الزبيب أو التمر أو البندق أو الزبد أو اللبن ونحو ذلك واشترى على تلك العينة لم يكن له خيار الرؤية إلا إذا كان الباقي أردأ من العينة فإنه في هذه الحالة إن كانت الرداءة قد وصلت إلى حد العيب كان له الرد بخيار الرؤية معا . وإن كانت لا تصل إلى ذلك بأن كان الباقي أقل جودة من العينة فقط كان له حق الرد بخيار الرؤية ومن هذا تعلم أنه تكفي رؤية وجه الصبرة " الكومة " من القمح والشعير واللبن والتمر والعدس وكل مكيل متساوي الأجزاء . أما إذا كانت أجزاؤه مختلفة " كالخلطة " وهي خليط من اللوز والجوز والبندق والخروب ونحو ذلك فإن رؤية ظاهرها لا تكفي .
( يتبع . . . )