- قوله : ( وكفر من كفر من العرب ) قال الخطابي : أهل الردة كانوا صنفين صنفا ارتدوا عن الدين ونابذوا الملة وعدلوا إلى الكفر وهم الذين عناهم أبو هريرة وهذه الفرقة طائفتان إحداهما أصحاب مسيلمة الكذاب من بني حنيفة وغيرهم الذين صدقوه على دعواه في النبوة وأصحاب الأسود العنسي ومن استجاب له من أهل اليمن وهذه الفرقة بأسرها منكرة لنبوة نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم مدعية النبوة لغيره فقاتلهم أبو بكر حتى قتل مسيلمة باليمامة والعنسي بصنعاء وانفضت جموعهم وهلك أكثرهم . والطائفة الأخرى ارتدوا عن الدين فأنكروا الشرائع وتركوا [ ص 176 ] الصلاة والزكاة وغيرهما من أمور الدين وعادوا إلى ما كانوا عليه في الجاهلية فلم يكن يسجد لله في الأرض إلا في ثلاثة مساجد مسجد مكة ومسجد المدينة ومسجد عبد القيس قال : والصنف الآخر هم الذين فرقوا بين الصلاة وبين الزكاة فأنكروا وجوبها ووجوب أدائها إلى الإمام وهؤلاء على الحقيقة أهل البغي وإنما لم يدعوا بهذا الاسم في ذلك الزمن خصوصا لدخولهم في غمار أهل الردة وأضيف الاسم في الجملة إلى أهل الردة إذ كانت أعظم الأمرين وأهمهما وأرخ مبدأ قتال أهل البغي من زمن علي بن أبي طالب عليه السلام إذ كانوا منفردين في زمانه لم يخلطوا بأهل الشرك وقد كان في ضمن هؤلاء المانعين للزكاة من كان يسمح بالزكاة ولم يمنعها إلا أن رؤساءهم صدوهم عن ذلك الرأي وقبضوا على أيديهم في ذلك كبني يربوع فإنهم قد كانوا جمعوا صدقاتهم وأرادوا أن يبعثوا بها إلى أبي بكر فمنعهم مالك بن نويرة من ذلك وفرقها فيهم وفي أمر هؤلاء عرض الخلاف ووقعت الشبهة لعمر بن الخطاب فراجع أبا بكر وناظره واحتج عليه بقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم : ( أمرت أن أقاتل الناس ) الحديث . وكان هذا من عمر تعلقا بظاهر الكلام قبل أن ينظر في آخره ويتأمل شرائطه فقال له أبو بكر : إن الزكاة حق المال يريد أن القضية قد تضمنت عصمة دم ومال متعلقة بأطراف شرائطها والحكم المعلق بشرطين لا يحصل بأحدهما والآخر معدوم ثم قايسه بالصلاة ورد الزكاة إليها فكان في ذلك من قوله دليل على أن قتال الممتنع من الصلاة كان إجماعا من الصحابة ولذلك رد المختلف فيه إلى المتفق عليه .
وقد اجتمع في هذه القضية الاحتجاج من عمر بالعموم ومن أبي بكر بالقياس ودل ذلك على أن العموم يخص بالقياس وأن جميع ما تضمنه الخطاب الوارد في الحكم الواحد من شرط واستثناء مراعى فيه ومعتبر صحته فلما استقر عند عمر صحة رأي أبي بكر وبان له صوابه تابعه على قتال القوم وهو معنى قوله فعرفت أنه الحق يشير إلى انشراح صدره بالحجة التي أدلى بها والبرهان الذي أقامه نصا ودلالة . وقد زعم زاعمون من الرافضة أن أبا بكر أول من سبى المسلمين وأن القوم كانوا متأولين في منع الصدقة وكانوا يزعمون أن الخطاب في قوله تعالى { خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم } خطاب خاص في مواجهة النبي صلى الله عليه وآله وسلم دون غيره وأنه مقيد بشرائط [ ص 177 ] لا توجد فيمن سواه وذلك أنه ليس لأحد من التطهير والتزكية والصلاة على المتصدق ما كان للنبي صلى الله عليه وآله وسلم ومثل هذه الشبهة إذا وجدت كان ذلك مما يعذر فيه أمثالهم ويرفع به السيف عنهم وزعموا أن قتالهم كان عسفا وهؤلاء قوم لا خلاق لهم في الدين وإنما رأس مالهم البهت والتكذيب والوقيعة في السلف وقد بينا أن أهل الردة كانوا أصنافا منهم من ارتد عن الملة ودعا إلى نبوة مسيلمة وغيره ومنهم من ترك الصلاة والزكاة وأنكر الشرائع كلها وهؤلاء هم الذين سماهم الصحابة كفارا ولذلك رأى أبو بكر سبي ذراريهم وساعده على ذلك أكثر الصحابة . واستولد علي بن أبي طالب عليه السلام جارية من سبي بني حنيفة فولدت له محمد بن الحنيفة ثم لم ينقض عصر الصحابة حتى أجمعوا على أن المرتد لا يسبى فأما مانعوا الزكاة منهم المقيمون على أصل الدين فإنهم أهل بغي ولم يسموا على الانفراد كفارا وإن كانت الردة قد أضيفت إليهم لمشاركتهم المرتدين في منع بعض ما مانعوه من حقوق الدين وذلك أن الردة اسم لغوي فكل من انصرف عن أمر كان مقبلا عليه فقد ارتد عنه وقد وجد من هؤلاء القوم الانصراف عن الطاعة ومنع الحق وانقطع عنهم اسم الثناء والمدح وعلق بهم الاسم القبيح لمشاركتهم القوم الذين كان ارتدادهم حقا وأما قوله تعالى { خذ من أموالهم صدقة } وما ادعوه من كون الخطاب خاصا برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فإن خطاب كتاب الله على ثلاثة أوجه : خطاب عام كقوله تعالى { يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة } الآية ونحوها . وخطاب خاص برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا يشركه فيه غيره وهو ما أبين به عن غيره بسمة التخصيص وقطع التشريك كقوله تعالى { ومن الليل فتهجد به نافلة لك } وكقوله { خالصة لك من دون المؤمنين } . وخطاب مواجهة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو وجميع أمته في المراد به سواء كقوله تعالى { أقم الصلاة لدلوك الشمس } وكقوله تعالى { فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله } ونحو ذلك . ومنه قوله تعالى { خذ من أموالهم صدقة } وهذا غير مختص به بل يشاركه فيه الأمة . والفائدة في مواجهة النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالخطاب أنه هو الداعي إلى الله والمبين عنه معنى ما أراد فقدم اسمه ليكون سلوك الأمة في شرائع الدين على حسب ما ينهجه لهم . وأما التطهير والتزكية والدعاء منه صلى الله عليه وآله وسلم لصاحب الصدقة فإن الفاعل [ ص 178 ] لها قد ينال ذلك كله بطاعة الله وطاعة رسوله فيها وكل ثواب موعود على عمل بر كان في زمنه صلى الله عليه وآله وسلم فإنه باق غير منقطع .
قوله : ( حتى يقولوا لا إله إلا الله ) الخ المراد بهذا أهل الأوثان دون أهل الكتاب لأنهم يقولون لا إله إلا الله ويقاتلون ولا يرفع عنهم السيف .
قوله : ( لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة ) قال النووي : ضبطناه بوجهين فرق وفرق بتشديد الراء وتخفيفها ومعناه من أطاع في الصلاة وجحد في الزكاة أو منعها .
قوله : ( عناقا ) بفتح العين بعدها نون وهو الأنثى من أولاد المعز . وفي الرواية الأخرى : ( عقالا ) وقد اختلف في تفسيره فذهب جماعة إلى أن المراد بالعقال زكاة عام . قال النووي : وهو معروف في اللغة كذلك وهذا قول الكسائي والنضر بن شميل وأبي عبيد والمبرد وغيرهم من أهل اللغة وهو قول جماعة من الفقهاء قال : والعقال الذي هو الحبل الذي يعقل به البعير لا يجب دفعه في الزكاة فلا يجوز القتال عليه فلا يصح حمل الحديث على هذا . وذهب كثير من المحققين إلى أن المراد بالعقال الحبل الذي يعقل به البعير وهذا القول محكي عن مالك وابن أبي ذئب وغيرهما وهو اختيار صاحب التحرير وجماعة من حذاق المتأخرين . قال صاحب التحرير : قول من قال المراد صدقة عام تعسف وذهاب عن طريقة العرب لأن الكلام خرج مخرج التضييق والتشديد والمبالغة فيقتضي قلة ما علق به العقال وحقارته وإذا حمل على صدقة العام لم يحصل هذا المعنى قال النووي : وهذا الذي اختاره هو الصحيح الذي لا ينبغي غيره وكذلك أقول أنا ثم اختلفوا في المراد بقوله منعوني عقالا فقيل قدر قيمته كما في زكاة الذهب والفضة والمعشرات والمعدن والركاز والفطرة والمواشي في بعض أحوالها وهو حيث يجوز دفع القيمة . وقيل زكاة عقال إذا كان من عروض التجارة وقيل المراد المبالغة ولا يمكن تصويره ويرده ما تقدم . وقيل إنه العقال الذي يؤخذ مع الفريضة لأن على صاحبها تسليمها يرباطها .
( واعلم ) أنها قد وردت أحاديث صحيحة قاضية بأن مانع الزكاة يقاتل حتى يعطيها ولعلها لم تبلغ الصديق ولا الفاروق ولو بلغتهما لما خالف عمر ولا احتج أبو بكر بتلك الحجة التي هي القياس فمنها ما أخرجه البخاري ومسلم من حديث عبد الله بن عمر قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا اله إلا الله وأن محمدا رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم إلا بحق [ ص 179 ] الإسلام وحسابهم على الله ) وأخرج البخاري ومسلم والنسائي من حديث أبي هريرة قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ويؤمنوا بي وبما جئت به فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دمائهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله ) وأخرج مسلم والنسائي من حديث جابر بن عبد الله نحوه . وفي الباب أحاديث