فصل .
المهر واجب وبه يتحقق التمييز بين النكاح والسفاح وهو قوله تعالى { أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين } فلذلك ابقى النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم وجوب المهر كما كان ودليل وجوبه أنه صلى الله تعالى عليه وآله وسلم لم يسوغ نكاحا بدون مهر أصلا وفي الكتاب العزيز { وآتوا النساء صدقاتهن نحلة } وقوله { فلا تأخذوا منه شيئا } وقال { وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض } الآية وقال تعالى { ولا جناح عليكم أن تنكحوهن إذا آتيتموهن أجورهن } وقد أخرج أبو داود والنسائي والحاكم وصححه من حديث ابن عباس [ أن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم منع عليا أن يدخل بفاطمة عليهما السلام حتى يعطيها شيئا ولما قال ما عندي شئ قال فأين درعك الحطمية فأعطاه إياها ] وحديث سهل بن سعد الآتي قريبا من أعظم الأدلة على وجوب المهر .
وتكره المغالاة فيه لحديث عائشة عند الطبراني في الأوسط [ أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قال : إن أعظم النكاح بركة أيسره مؤنة ] وفي إسناده ضعف وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال : [ جاء رجل إلى النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم فقال له إني تزوجت امرأة من الأنصار فقال له النبي صلى الله وسلم عليه هل نظرت إليها فإن في عيون الأنصار شيئا قال قد نظرت إليها قال على كم تزوجتها قال على أربع أواق فقال له النبي صلى الله وسلم عليه على أربع أواق كأنما تنحتون الفضة من عرض هذا الجبل ما عندنا ما نعطيك ولكن عسى أن نبعثك في بعث تصيب منه قال فبعث بعثا إلى بني عبس بعث ذلك الرجل فيهم ] وأخرج أبو داود والحاكم وصححه من حديث عقبة بن عامر قال : [ قال رسول الله صلى الله وسلم عليه خير الصداق أيسره ] وعن عائشة [ أنه كان صداق النبي صلى الله وسلم عليه لأزواجه اثنتي عشرة أوقية ونشا ] أي نصفا وهو في صحيح مسلم وغيره قال في الحجة ولم يضبط النبي صلى الله وسلم عليه المهر بحد لا يزيد ولا ينقص إذ العادات في إظهار الاهتمام مختلفة والرغبات لها مراتب شتى ولهم في المشاحة طبقات فلا يمكن تحديده عليهم كما لا يمكن أن يضبط ثمن الأشياء المرغوبة بحد مخصوص ولذلك قال [ التمس ولو خاتما من حديد ] غير أنه سن في صداق أزواجه ثنتي عشرة أوقية ونشا وقال عمر رضي الله تعالى عنه [ لا تغالوا في صدقات النساء فإنها لو كانت مكرمة في الدنيا أو تقوى عند الله لكان أولاكم بها نبي الله صلى الله وسلم عليه ] انتهى .
ويصح ولو خاتما من حديد أو تعليم قرآن لما أخرجه أحمد وابن ماجة والترمذي وصححه من حديث عامر بن ربيعة [ أن امرأة من بني فزارة تزوجت على نعلين فقال رسول الله صلى الله وسلم عليه : أرضيت عن نفسك ومالك بنعلين فقالت : نعم فأجازه ] وأخرج أحمد وأبو داود من حديث جابر [ أن رسول الله صلى الله وسلم عليه قال : لو أن رجلا أعطى امرأة صداقا ملء يديه طعاما كانت له حلالا ] وفي إسناده ضعف وأخرج الدارقطني في حديث لأبي سعيد في المهر قال [ ولو على سواك من أراك ] وفي الصحيحين وغيرهما من حديث سهل بن سعد [ أن النبي صلى الله وسلم عليه جاءته امرأة فقالت يا رسول الله إني قد وهبت نفسي لك فقامت قياما طويلا فقام رجل فقال يا رسول الله زوجنيها إن لم يكن لك بها حاجة فقال رسول الله صلى الله وسلم عليه هل عندك من شئ تصدقها قال ما عندي إلا إزاري هذا فقال له النبي صلى الله وسلم عليه إن أعطيتها إزارك جلست لا إزار لك فالتمس شيئا فقال ما أجد شيئا قال التمس ولو خاتما من حديد فالتمس فلم يجد شيئا فقال له النبي صلى الله وسلم عليه هل معك من القرآن شئ قال نعم سورة كذا وسورة كذا لسور سماها فقال له النبي صلى الله وسلم عليه قد زوجتكها بما معك من القرآن ] ولا يعارض ما ذكر حديث [ لا مهر أقل من عشرة دراهم ] عند الدارقطني من حديث جابر لأن في إسناده مبشر بن عبيد وحجاج بن أرطأة وهما ضعيفان قال ابن القيم وردت السنة الصحيحة الصريحة المحكمة في جواز النكاح بما قل من مهر ولو خاتما من حديد مع موافقتها لعموم القرآن في قوله { أن تبتغوا بأموالكم } وللقياس في جواز التراضي بالمعاوضة على القليل والكثير بأثر لا يثبت وقياس من أفسد القياس على قطع يد السارق وأين النكاح من اللصوصية وأين استباحة الفرج به إلى قطع اليد في السرقة وقد تقدم مرارا أن أصح الناس قياسا أهل الحديث وكلما كان الرجل إلى الحديث أقرب كان قياسه أصح وكلما كان عن الحديث أبعد كان قياسه أفسد انتهى .
أقول الحاصل أن الأدلة قد دلت على أنه يصح أن يكون المهر قليلا بدون تقييد وكذلك حديث المرأة التي تزوجت بنعلين وأقرها رسول الله صلى الله وسلم عليه وكذلك حديث أنه صلى الله وسلم عليه قال [ لو أن رجلا أعطى امرأة صداقا ملء يديه طعاما كانت حلالا ] وكذلك حديث عبد الرحمن بن عوف تزوج امرأة على وزن نواة من ذهب يدل على عدم التقييد بحد في جانب القلة والأحاديث المذكورة هي في الأمهات فالأول متفق عليه والثاني أخرجه أحمد وابن ماجة والترمذي وصححه والثالث أخرجه أحمد وأبو داود والرابع أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة فهذه الأحاديث تدل على أنه لا حد للمهر في جانب القلة بل إذا كان له قيمة صح أن يكون مهرا وأما في جانب الكثرة فكذلك أيضا لا حد له ولذلك ذكر الله القنطار وكانت مهور زوجاته صلى الله عليه وآله وسلم لكل واحدة اثنتا عشرة أوقية ونصف عن خمسمائة درهم فمن زعم أن المهر لا يكون إلا كذا فعليه الدليل الصحيح ولا ريب أن المغالاة في المهور مكروهة كما تقدم .
ومن تزوج امرأة ولم يسم لها صداقا فلها مهر نسائها إذا دخل بها لحديث علقمة عند أحمد وأهل السنن والحاكم والبيهقي وصححه الترمذي وابن حبان قال [ أتى عبد الله يعني ابن مسعود في امرأة تزوجها رجل ثم مات عنها ولم يفرض لها صداقا ولم يكن دخل بها قال فاختلفوا إليه فقال أرى لها مثل مهر نسائها ولها الميراث وعليها العدة فشهد معقل بن سنان الأشجعي أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قضى في بروع ابنه واشق بمثل ما قضى ] وفي أعلام الموقعين [ سئل رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم عن رجل تزوج امرأة ولم يفرض لها صداقا حتى مات فقضى لها على صداق نسائها وعليها العدة ولها الميراث ] ذكره أحمد وأهل السنن وصححه الترمذي وغيره قال ابن القيم وهذه فتوى لا معارض لها فلا سبيل إلى العدول عنها انتهى .
ويستحب تقديم شئ من المهر قبل الدخول لحديث ابن عباس المتقدم قريبا وأخرج أبو داود وابن ماجة من حديث عائشة قالت [ أمرني رسول الله صلى الله وسلم عليه أن أدخل امرأة على زوجها قبل أن يعطيها شيئا ] ولا يعارض هذا حديث ابن عباس فإن غاية ما فيه أنه يدل على أن تقدمة شيء من المهر قبل الدخول غير واجبة ولا ينفي كونها مستحبة .
وعليه شإحسان العشرة لقوله تعالى { وعاشروهن بالمعروف } وفي الصحيحين وغيرهما من حديث أبي هريرة [ أن المرأة كالضلع إن ذهبت تقيمها كسرتها وإن تركتها استمتعت بها فاستوصوا بالنساء ] وأخرج أحمد والترمذي وصححه من حديثه أيضا قال [ قال رسول الله صلى الله وسلم عليه أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا وخياركم خياركم لنسائهم ] وأخرج الترمذي وصححه من حديث عائشة قالت [ قال رسول الله صلى الله وسلم عليه خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي ] وقال في الحجة البالغة : الإنسان إذا أراد استيفاء مقاصد المنزل منها لا بد أن يجاوز عن محقرات الأمور ويكظم الغيظ فيما يجده خلاف هواه إلا ما يكون من باب الغيرة المحمودة وتداركا لجور ونحو ذلك والواجب الأصلى هو المعاشرة بالمعروف وبينها النبي صلى الله وسلم عليه بالرزق والكسوة وحسن المعاملة ولا يمكن في الشرائع المستندة إلى الوحي أن يعين جنس القوت وقدره مثلا فإنه لا يكاد يتفق أهل الأرض على شئ واحد ولذلك إنما أمر أمرا مطلقا قال في المسوى إذا أعسر الزوج بنفقة امرأته فهل يثبت لها حق الخروج من النكاح قال الشافعي : لها الخروج عن النكاح وقال أبو حنيفة : ليس لها ذلك وكذلك الخلاف في الإعسار بالصداق إلا أن عند الشافعي في الإعسار بالنفقة إذا رضيت مرة ثم بدا لها فلها الخروج وفي الإعسار بالصداق إذا رضيت مرة سقط حقها انتهى .
وعليها الطاعة لقوله تعالى { فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا } وفي الصحيحين وغيرهما من حديث أبي هريرة قال : [ قال رسول الله صلى الله وسلم عليه إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه فأبت أن تجيء فبات غضبان عليها لعنتها الملائكة حتى تصبح ] وأخرج أهل السنن وصححه الترمذي من حديث عمرو بن الأحوص [ أنه شهد حجة الوداع مع النبي صلى الله وسلم عليه فحمد الله وأثنى عليه وذكر ووعظ ثم قال استوصوا بالنساء خيرا فإنما هن عوان ليس تملكون منهن شيئا غير ذلك إلا أن يأتين بفاحشة مبينة فإن فعلن فاهجروهن في المضاجع واضربوهن ضربا غير مبرح فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا إن لكم من نسائكم حقا ولنسائكم عليكم حقا فأما حقكم على نسائكم فلا يوطئن فرشكم من تكرهون ولا يأذن في بيوتكم لمن تكرهون إلا وحقهن عليكم أن تحسنوا إليهن في كسوتهن وطعامهن ] وفي الباب أحادث كثيرة واما ان عليها خدمته في بيته أم لا ؟ فأقول : ايجاب ذلك عليها غير ظاهر ولكن قد كان نساء الصحابة يعملن الأعمال التي تصلح المعيشة بل ويعملن من الأعمال الخارجة عن ذلك ما هو متبالغ في المشقة ولم يسمع أن امرأة امتنعت من ذلك وقالت هذا ليس علي أو لست ممن يعمل هذه الأعمال لكوني بمكان من الشرف أو بمحل من الجمال فقد صح في الصحيحين وغيرهما [ أن الرحى أثرت في يد البتول والقربة اثرت في نحرها ] ولا شرف كشرفها Bها وأرضاها فمن زعمت أنه لا يجب عليها إلا تمكين زوجها من الوطء وأرادت الرجوع بأجرة عملها لم تحل اجابتها إلى ذلك إنما الأشكال إذا امتنعت من المباشرة للأعمال ابتداء قائلة هذا لا يجب علي فإجبارها على ذلك يحتاج إلى دليل فإن صح الأمر منه صلى الله وسلم عليه للبتول بخدمة زوجها كان ذلك صالحا للتمسك به على إجبار الممتنعة وأما استدلال القائلين بعدم الوجوب بقوله تعالى { نساؤكم حرث لكم } ونحو ذلك فليس مما يفيد المطلوب وكان يكفيهم أن يقولوا لم نقف على دليل يدل على الوجوب ولا يثبت مثل هذا الحكم الشاق بدون ذلك ومجرد تقريره صلى الله وسلم عليه لنسائه ونساء المسلمين على العمل في بيوت الأزواج غايته الجواز لا الوجوب .
ومن كان له زوجان فصاعدا عدل بينهن في القسمة وما تدعو الحاجة إليه لحديث أبي هريرة عند أحمد وأهل السنن والدارمي وابن حبان والحاكم وقال : إسناده على شرط الشيخين وصححه الترمذي عن النبي صلى الله وسلم عليه قال : [ من كانت له امرأتان يميل لإحداهما على الآخرى جاء يوم القيامة يجر أحد شقيه ساقطا أو مائلا ] وقد كان رسول الله صلى الله وسلم عليه يقسم بين نسائه فكن يجتمعن كل ليلة في بيت التي يأتيها كما في الصحيح وأخرج أهل السنن وابن حبان والحاكم وصححاه من حديث عائشة قالت : [ كان رسول الله صلى الله وسلم عليه يقسم فيعدل ويقول : اللهم هذا قسمي فيما أملك فلا تلمني فيما تملك ولا أملك ] قال في الحجة البالغة : والظاهر أن ذلك منه صلى الله وسلم عليه كان تبرعا وإحسانا من غير وجوب عليه لقوله تعالى : { ترجي من تشاء منهن وتؤوي إليك من تشاء } وأما في غيره فموضع تأمل واجتهاد ولكن جمهور الفقهاء أوجبوا القسم واختلفوا في القرعة أقول : وفيه أن قوله فلم يعدل مجمل لا يدري أي عدل أريد به انتهى .
أقول واما الأمة المعقود عليها عقد نكاح فيصدق عليها أنها زوجة ويصدق عليها أنها امرأه فيكون الوعيد الوارد فيمن له زوجتان أو امرأتان شاملا لهما فالقول بأن الأمة لا تستحق إلا نصف الحرة في القسمة محتاج إلى دليل ولم يصح في المرفوع شئ والموقوف على الصحابة وكذلك المرسلات ليس فيها حجة .
وأما الكلام حال الجماع فقد استدل بعض أهل العلم على كراهة الكلام حال الجماع بالقياس على كراهته حال قضاء الحاجة فإن كان ذلك يجامع الاستخباث فباطل فإن حالة الجماع حالة مستلذة لا حالة مستخبثة وفي المكالمة حالته نوع من إحسان العشرة بل فيه لذة ظاهرة كما قال بعض الشعراء : .
( ويعجبني منك حال الجماع ... لين الكلام وضعف النظر ) .
وإن كان الجامع شيئا آخر فما هو ؟ فإن النبي صلى الله وسلم عليه قد شرع الملاعبة والمداعبة ووقت الجماع أولى بذلك من غيره .
وإذا سافر أقرع بينهن دفعا لوحر الصدر لحديث عائشة في الصحيحين وغيرهما [ أن النبي صلى الله وسلم عليه كان إذا أراد أن يخرج سفرا أقرع بين أزواجه فأيتهن خرج سهمها خرج بها ] .
وللمرأة أن تهب نوبتها أو تصالح الزوج على إسقاطها لحديث عائشة في الصحيحين وغيرهما [ أن سودة بنت زمعة وهبت يومها لعائشة وكان النبي صلى الله وسلم عليه يقسم لعائشة يومها ويوم سودة ] وفي الصحيحين عن تفسير قوله تعالى : { فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحا والصلح خير } قالت : [ هي المرأة تكون عند الرجل لا يستكثر منها فيريد طلاقها ويتزوج غيرها فتقول له : امسكني ولا تطلقني ثم تزوج غيري وأنت في حل من النفقة علي والقسم لي ] .
ويقيم عند الجديدة البكر سبعا والثيب ثلاثا لأن البكر الرغبة فيها أتم والحاجة إلى تأليف قلبها أكثر فجعل قدرها السبع وقدر الثيب الثلاث لحديث أم سلمة عند مسلم وغيره [ أن النبي صلى الله وسلم عليه لما تزوجها أقام عندها ثلاثة أيام ] وفي الصحيحين من حديث أنس قال [ من السنة إذا تزوج البكر على الثيب أقام عندها سبعا ثم قسم وإذا تزوج الثيب أقام عندها ثلاثا ثم قسم ] وفي الباب أحاديث ولا يجوز العزل يشير إلى كراهة العزل من غير تحريم قال في المسوى : اختلف أهل العلم في العزل فرخص فيه غير واحد من الصحابة والتابعين وكرهه جمع منهم ولا شك أن تركه أولى وبالجملة فدليله حديث جذامة بنت وهب الأسدية [ أنهم سألوا رسول الله صلى الله وسلم عليه عن العزل فقال ذلك الوأد الخفي ] أخرجه مسلم وغيره وأخرج أحمد وابن ماجة عن عمر قال : [ نهى رسول الله صلى الله وسلم عليه عن أن نعزل عن الحرة إلا بإذنها ] وفي إسناده ابن لهيعة وفيه مقال وأخرج عبد الرزاق والبيهقي من حديث ابن عباس قال [ نهى عن عزل الحرة إلا بإذنها ] وقد استدل من جوز العزل بحديث جابر في مسلم وغيره قال [ كنا نعزل على عهد رسول الله صلى الله وسلم عليه والقرآن ينزل ] وفي رواية [ فبلغه ذلك فلم ينهنا ] وغايته أن جابرا لم يعلم بالنهي وقد علمه غيره وأما ما في الصحيحين من حديث أبي سعيد [ أن النبي صلى الله وسلم عليه قال لما سألوه عن العزل ما عليكم أن لا تفعلوا فإن الله D قد كتب ما هو خالق إلى يوم القيامة ] فقد قيل إن معناه النهي وقيل إن معناه ليس عليكم أن تتركوا وغايته الاحتمال ولا يصلح للاستدلال وأخرج أحمد والترمذي والنسائي بإسناد رجاله ثقات قال [ قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم في العزل أنت تخلقه أنت ترزقه أقرره قراره فإنما ذلك القدر ] وأخرج أحمد ومسلم من حديث أسامة بن زيد [ أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله وسلم عليه فقال إني أعزل عن امرأتي فقال له رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم لم تفعل ذلك فقال أشفق على ولدها فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم لو كان ضارا ضر فارس والروم ] وقد حكى ابن عبد البر الاجماع على أنه لا يعزل عن الزوجة الحرة إلا بإذنها وتعقب بأن الشافعية تقول أنه لا حق للمرأة في الجماع .
أقول : وفي حديث أبي سعيد الذي أخرجه أهل السنن قال : [ قيل للنبي صلى الله وسلم عليه زعموا أن العزل هو المؤودة الصغرى فقال : كذبت يهود لو أراد الله أن يخلق لم تستطع أن تصرفه ] وأخرج نحوه النسائي من حديث أبي هريرة وجابر ويمكن الجمع بحمل الأحاديث القاضية بالمنع على مجرد الكراهة فقط من دون تحريم .
ولا يجوز إتيان المرأة في دبرها لحديث أبي هريرة عند أحمد وأهل السنن والبزار قال : [ قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم ملعون من أتى امرأة في دبرها ] وفي إسناده الحرث بن مخلد لا يعرف حاله وأخرج أحمد والترمذي وأبو داود من حديث أبي هريرة [ أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قال من أتى حائضا أو امرأة في دبرها أو كاهنا فصدقه فقد كفر بما أنزل على محمد ] وفي إسناده أبو تميمة عنه قال البخاري لا يعرف لأبي تميمة سماع عن أبي هريرة وقال البزار هذا حديث منكر وفي إسناده أيضا حكيم بن الاثرم قال البزار لا يحتج به وما تفرد به فليس بشئ وأخرج أحمد وابن ماجة من حديث خزيمة بن ثابت [ أن النبي صلى الله وسلم عليه نهى أن يأتي الرجل امرأته في دبرها ] وفي إسناده عمر بن أحيحة وهو مجهول وفي الباب عن علي بن أبي طالب عند أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجة [ أن النبي صلى الله وسلم عليه قال : لا تأتوا النساء في إعجازهن أو قال في أدبارهن ] ورجال إسناده ثقات وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عند أحمد والنسائي [ أن النبي صلى الله وسلم عليه قال في الذي يأتي إمرأته في دبرها هو اللوطية الصغري ] وفي الباب أحاديث وبعضها يقوي بعضا وحكي عن بعض أهل العلم الجواز واستدلوا بقوله تعالى { فاتوا حرثكم أنى شئتم } والبحث طويل لا يتسع المقام لبسطه .
أقول : كان اليهود يضيقون في هيئة المباشرة من غير حكم سماوي وكان الأنصار ومن وليهم يأخذون سنتهم وكانوا يقولون إذا أتى الرجل امرأته من دبرها في قبلها كان الولد أحول فنزلت هذه الآية أي أقبل وأدبر ما كان في صمام واحد وذلك لأنه لا شئ تتعلق به المصلحة المدنية والملية والإنسان أعرف بمصلحة خاصة نفسه وإنما كان ذلك من تعمقات اليهود فكان من حقه أن ينسخ قال في أعلام الموقعين [ وسألته صلى الله وسلم عليه امرأة من الأنصار عن وطء المرأة في قبلها من ناحية دبرها فتلا عليها قوله تعالى { نساؤكم حرث لكم فاتوا حرثكم أنى شئتم } صماما واحدا ] ذكره أحمد وسأله صلى الله وسلم عليه عمر فقال [ يا رسول الله هلكت قال وما أهلكك ؟ قال : حولت رحلى البارحة فلم يرد عليه شيئا فأوحى الله تعالى إلى رسوله { نساؤكم حرث لكم فاتوا حرثكم أنى شئتم } أقبل وأدبر واتق الحيضة والدبر ] ذكره أحمد والترمذي وهذا هو الذي أباحه الله تعالى ورسوله وهو الوطء من الدبر لا في الدبر انتهى .
أقول : هذه النصوص المذكورة فيها مقالات لأئمة الحديث ولكن لها طرق عن جماعة من الصحابة وهي منتهضة بمجموعها على فرض أن معنى قوله تعالى { أنى شئتم } أين شئتم فإن كل ما في هذه الأحاديث من المقالات لا يبلغ بواحد منها إلى حد السقوط عن درجة الاعتبار وقد استوفي الماتن C البحث في النيل واستوفاه الجلال في ضوء النهار وساق الأدلة برصانة ومتانة C وأعظم ما يستشكل في المقام ما صح عن ابن عمر من طرق [ أنه قرأ { نساؤكم حرث لكم } فقال تدري يا نافع فيم أنزلت هذه الآية قال لا قال في رجل من الأنصار أصاب امرأته في دبرها فوجد من ذلك وجدا شديدا فأنزل الله سبحانه { نساؤكم حرث لكم } ] لكنه قد وهمه حبر الأمة ابن عباس في ذلك كما في سنن أبي داود *