هل الجماعة سنة أو فرض عين أو كفاية والترجيح أنها فرض عين .
الثالث : اختلف العلماء في الجماعة في غير الجمعة فقيل : سنة وهو قول الأكثرين وقيل : فرض كفاية وهو قول في مذهب الشافعي و مالك وقيل : فرض على الأعيان .
وقد اختلفوا بعد ذلك فقيل : شرط في صحة الصلاة وهو مروي عن داود وقيل : إنه رواية عن أحمد والمعروف عنه : أنها فرض على الأعيان ولكنها ليست بشرط فمن قال بأنها واجبة على الأعيان : قد يحتج بهذا الحديث فإنه إن قيل بأنها فرض كفاية فقد كان هذا الفرض قائما بفعل رسول الله A ومن معه وإن قيل : إنها سنة فلا يقتل تارك السنن فيتعين أن تكون فرضا على الأعيان .
وقد اختلف في الجواب على هذا على وجوه فقيل : إن هذا في المنافقين ويشهد له ما جاء في الحديث الصحيح [ لو يعلم أحدهم أن يجد عظما سمينا أو مرماتين حسنتين لشهد العشاء ] وهذه ليست صفة المؤمنين لا سيما أكابرهم وهم الصحابة فلا يتم الدليل قال القاضي عياش C : وقد قيل : إن هذا في المؤمنين وأما المنافقون : فقد كان النبي A معرضا عنهم عالما بطوياتهم كما أنه لم يعترضهم في التخلف ولا عاتبهم معاتبة كعب وأصحابه من المؤمنين .
وأقول : هذا إنما يلزم إذا كان ترك معاقبة المنافقين واجبا على رسول الله A فحينئذ يمتنع أن يعاقبهم بهذا التحريق فيجب أن يكون الكلام في المؤمنين ولنا أن نقول : إن ترك عقاب المنافقين وعقابهم كان مباحا للنبي A مخبرا فيه فعلى هذا : لا يتعين أن يحمل هذا الكلام على المؤمنين إذ يجوز أن يكون في المنافقين لجواز معاقبة النبي A لهم وليس في إعراضه عنهم بمجرده ما يدل على وجوب ذلك عليه ولعل قوله A - عندما طلب منه قتل بعضهم - [ لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه ] يشعر بما ذكرناه في التخيير لأنه لو كان يجب عليه ترك قتلهم لكان الجواب بذكر المانع الشرعي وهو أنه لا يحل قتلهم ومما يشهد لمن قال [ إن ذلك في المنافقين ] عندي : سياق الحديث من أوله وهو قوله A [ أثقل الصلاة على المنافقين ] .
ووجه آخر في تقدير كونه في المنافقين : أن يقول القائل : هم النبي A بالتحريق يدل على جوازه وتركه التحريق يدل على جواز هذا الترك فإذا اجتمع جواز التحريق وجواز الترك في حق هؤلاء القوم وهذا المجموع لا يكون في المؤمنين فيما هو حق الله تعالى .
ومما أجيب به عن حجة أصحاب الوجوب على الأعيان : ما قاله القاضي عياض C والحديث حجة على داود لا له لأن النبي A هم ولم يفعل ولأنه يخبرهم أن من تخلف عن الجماعة فصلاته غير مجزئة وهو موضع البيان .
وأقول : أما الأول : فضعيف جدا إن سلم القاضي أن الحديث في المؤمنين لأن النبي A لا يهم إلا بم يجوز له فعله لو فعله .
وأما الثاني - وهو قوله ولأنه لم يخبرهم أن من تخلف عن الجماعة فصلاته غير مجزئة وهو موضع البيان - فلقائل أن يقول : البيان قد يكون بالتنصيص وقد يكون بالدلالة ولما قال A [ لقد هممت ] إلى آخره : دل على وجوب الحضور عليهم في الجماعة فإذا دل الدليل على أن ما وجب في العبادة كان شرطا فيها غالبا كان ذكره A لهذا الهم دليلا على لازمه وهو وجوب الحضور وهو دليل على الشرطية فيكون ذكر هذا الهم دليلا على لازمه وهو وجوب الحضور .
ووجوب الحضور دليلا على لازمه وهو اشتراط الحضور فذكر هذا الهم بيان للاشتراط لهذه الوسيلة ولا يشترط في البيان أن يكون نصا كما قلنا إلا أن لا يتم هذا إلا ببيان أن ما وجب في العبادة كان شرطا فيها وقد قيل : إنه الغالب ولما كان الوجوب قد ينفك عن الشرطية قال أحمد - في أظهر قوليه - إن الجماعة واجبة على الأعيان غير شرط .
ومما أجيب به عن استدلال الموجبين لصلاة الجماعة على الأعيان : أنه اختلف في هذه الصلاة التي هم النبي A بالمعاقبة عليها فقيل : العشاء وقيل : الجمعة وقد وردت المعاقبة على كل واحدة منهما مفسرة في الحديث وفي بعض الروايات العشاء أو الفجر فإذا كانت هي الجمعة - والجماعة شرط فيها - لم يتم الدليل على وجوب الجماعة مطلقا في غير الجمعة وهذا يحتاج أن ينظر في تلك الأحاديث التي بينت فيها تلك الصلاة : أهي الجمعة أو العشاء أو الفجر ؟ فإن كانت أحاديث مختلفة قيل بكل واحد منها وإن كان حديثا واحدا اختلف فيه الطرق فقد يتم هذا الجواب إن عدم الترجيح بين بعض تلك الروايات وبعض وعدم إمكان أن يكون الجميع مذكورا فترك بعض الرواة بعضه ظاهرا بأن يقال : إن النبي A أراد إحدى الصلاتين أعني الجمعة أو العشاء - مثلا - فعلى تقدير أن تكون هي الجمعة : لا يتم الدليل وعلى تقدير أن تكون هي العشاء : يتم وإذا تردد الحال وقف الاستدلال .
ومما ينبه عليه هنا : أن هذا الوعيد بالتحريق إذا ورد في صلاة معينة - وهي العشاء أو الجمعة أو الفجر - فإنما يدل على وجوب الجماعة في هذه الصلوات فمقتضى مذهب الظاهرية : أن لا يدل على وجوبها في غير هذه الصلوات عملا بالظاهر وترك اتباع المعنى اللهم إلا أن يؤخذ قوله A [ أن آمر بالصلاة فتقام ] على عموم الصلاة فحينئذ يحتاج في ذلك إلى اعتبار لفظ ذلك الحديث وسياقه وما يدل عليه فيحمل لفظ الصلاة عليه إن أريد التحقيق وطلب الحق والله أعلم .
الرابع : قوله عليه السلام [ ولقد هممت ] الخ أخذ منه تقديم الوعيد والتهديد على العقوبة وسره : أن المفسدة إذا ارتفعت بالأهون من الزواجر اكتفي به من الأعلى